بالتزامن مع التصريح الإعلامي الذي أطلقه رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، بأن لبنان سيعمل على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، كان اللاجئ عبد القادر في طريقه لزيارة مفوضيّة اللاجئين في بيروت، بعدما وصلته رسالة نصيّة تطلب منه القدوم للحصول على بطاقة لاجئ، وهو ما انتظره عبد القادر لمدّة سنة، قضاها مختبئاً في معمل الأدوات الكهربائية حيث يعيش ويعمل.
دخل عبد القادر إلى لبنان عن طريق التهريب، فاراً من الخدمة الإلزامية، بعد سنوات من الاختباء في سورية، وكرر ذلك في لبنان كي لا تعتقله الأجهزة اللبنانيّة، ويعاد ترحيله بموجب قرار مجلس الدفاع الأعلى في لبنان، الذي يسمح بترحيل كل من دخل لبنان خلسة بعد نيسان عام 2019.
يقول عبد القادر إنه يقيم في منطقة تبعد 15 كم عن السفارة السوريّة، لكنه لم يستطع الوصول إليها لإصدار جواز سفر يسافر به إلى تركيا أو أربيل، بسبب الحواجز التي تصطاد من لا يملك إقامة قانونيّة، ما دفعه لانتظار المفوضيّة التي منحته بطاقة لجوء ورقم محامٍ بعد سنة من مراسلتها.
طلبت المفوضية من عبد القادر تفادي الحواجز الأمنية باعتبار هذه البطاقة قد تمنع ترحيله، في حال تحدّث إلى محامٍ، لكنها لا تمنع اعتقاله، بالتزامن مع ذلك استثنى قرار الأمن العام الصادر في تموز الجاري، الذين دخلوا لبنان بطريقة غير شرعية من إجراءات تسوية وضعهم، ما حرم عبد القادر فرصة إصدار إقامة قانونيّة وحصوله على جواز سفر.
يقول عبد القادر: “عاودتني خيبة الأمل التي عزّزها رعب ترحيلي إلى سورية، خطّة إعادتنا لا تفارق ألسنة اللبنانيين، ومعهم اللاجئين الخائفين. أخبرتني أمي في آخر مكالمة أنه لم يبق لها أحد في الدنيا غيري بعد اعتقال النظام لأخوتي منذ سبع سنوات، لذلك أغلق المعمل بعد مغادرة العمال، وأمنع نفسي من الخروج باستثناء إلى الدكان، أحياناً يفزعني صدى صوتي في هذا المخبأ الكبير، وأقضي ليلتي في تتبع أخبار القنوات اللبنانيّة، وأتسمّر عند كل مقابلة يظهر فيها وزير المهجّرين اللبناني الذي صار وحش الشاشة هذه الأيام”.
إصرار لبناني ورفض أممي
“القرار اتخذ والضوء الأخضر أتى، ولا تراجع.. وخطة عودة اللاجئين ستنفّذ بغض النظر عن موقف مفوضيّة اللاجئين”. كانت هذه أولى الجمل التي استلهمتها مقدمة برنامج حقك بإيدك على قناة otv اللبنانيّة من وزير المهجرين اللبناني، الذي حل ضيفاً على البرنامج قبل أيام، شارحاً الخطة التي أعدها بالتنسيق مع النظام السوري لإعادة اللاجئين.
تجلّى ذلك في زيارة رسمية إلى دمشق في شباط الماضي، التقى خلالها الوزير نظيره السوري، وزير الإدارة المحليّة حسين مخلوف، الذي رحب بحفاوة بعودة اللاجئين السوريين، مشيراً إلى أن الحكومة السورية قد رممت نحو 67 ألف وحدة سكنية، وجهّزتها بكل مقوّمات الحياة، وهي مستعدّة لبناء مراكز إيواء، ما يضمن عودة كريمة وآمنة، وفقاً للوزير شرف الدين.
ولدى الجانب الأممي عرض الوزير شرف الدين خطته على المدير الإقليمي لمفوضيّة اللاجئين للأمم المتّحدة، مخبراً إياه أن فتح ملف العودة له هدف إنساني ووجداني، ينقل اللاجئ من العيش في خيمة، إلى العيش الكريم في بيته أو في مسكن بالقرب من بيته ومزرعته، رغم تصريح مدير مركز الدولية للمعلومات، في المقابلة ذاتها، بأن 17% فقط من السوريين يعيشون في خيام.
كذلك يحقق فتح ملف عودة اللاجئين هدفاً وطنياً واقتصادياً تجاه لبنان وشعبه، الذي يرزح تحت أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة، وفقاً للوزير شرف الدين، والذي طلب تشكيل لجنة ثلاثيّة (لبنانية سورية أمميّة) لتنسيق وتسهيل ومراقبة العودة.
طلب المدير الإقليمي مراجعة إدارته، بعدما أبدى تحفّظه على بعض النقاط، منها مصير المعارضين للنظام، والمطلوبين سواء المدنيين أو المنشقين عن قوّاته، كما رفض الطلب اللبناني بإيقاف المساعدات العينية والمالية عن السوريين، وإعطائهم إياها في بلدهم بعد عودتهم، متذرّعاً برفض الدول المانحة، لترد المفوضية لاحقاً برفض الخطة كاملة، وفق ما نقله المدير العام للأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم، لوسائل الإعلام، في حين اعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش أن هذه الخطة ما هي إلّا إعادة قسرية، وهذا يشكّل انتهاكاً واضحاً لالتزامات لبنان الدوليّة.
في السياق ذاته قالت دلال حرب، المتحدثة الرسمية باسم المفوضية في لبنان، لفوكس حلب، إن المفوضية الآن ليست جزء من أي مفاوضات ثلاثيّة (مع النظام ولبنان)، داعيةً الحكومة اللبنانيّة لاحترام الحق الأساسي لجميع اللاجئين في العودة الطوعية والآمنة والكريمة، ومبدأ عدم الإعادة القسريّة.
تؤكّد حرب أن شعور اللاجئين الذين قابلوا المفوضيّة بانعدام السلامة والأمن، والسكن والخدمات الأساسية، وسبل تحصيل الرزق، ما زال عائقاً يمنع عودتهم إلى الآن.
تناقض في الأرقام
رغم غزارة التقارير الإعلامية التي تحدّثت عن الخطة اللبنانيّة، إلا أنها تبقى غائمة وغير واضحة، فحتى اليوم ما تزال شفهية يحاول شرحها بين الحين والآخر المسؤولون المعنيون، وأهمّهم وزير المهجّرين عصام شرف الدين، المكلّف بإعدادها، وبالتواصل والتنسيق مع النظام السوري، والمحامي بول مرقص، رئيس مؤسسة جوستيسيا الحقوقية، والذي تولى إعداد اللبنة القانونية التي سترتكز عليها الخطة، وفقاً لدراسة أعدت حول القانون الدولي الإنساني، والقانون اللبناني الداخلي فيما يخص اللاجئين، ما يضمن التوفيق بين حاجة لبنان لإعادة اللاجئين، وبين الالتزامات الدولية والأخلاقيّة تجاههم، وفق ما ورد في مقدمة الدراسة التي سنأتي إليها لاحقاً.
لم يتم الإعلان بعد عن موعد تنفيذ الخطة وتحديد المناطق التي سيعود إليها اللاجئون، إلا أن وزير المهجّرين قال في أكثر من لقاء تلفزيوني إنّ ذلك سيكون على طاولة المحادثات في زيارته القريبة إلى النظام السوري، موضحاً أن المناطق الأكثر أمناً والقابلة لإنشاء مراكز إيواء فيها ستكون وجهة العائدين، وبطريقة تدريجيّة مجزّأة على أساس قرية سوريّة تلو الأخرى وضاحية تلو الأخرى وبعدد تقريبي نحو 15 ألف شهريّا قابل للزيادة بعد بدء التنفيذ.
يقسم الوزير شرف الدين السوريين المقيمين في لبنان إلى قسمين: الأول “نازح”، وهو المصطلح الدارج في وصف اللاجئين السوريين، ويرجع المحامي بول مرقص هذه التسمية لكون لبنان بلداً غير موقّع على اتفاقيّة اللجوء عام 1951، فهو بالتالي ليس بلد لجوء.
وعليه يعتبر الوزير شرف الدين أن “النازحين” يشكلون 99% من السوريين في لبنان، وهم الذين فروا من سورية بسبب الخوف على حياتهم من المعارك الدائرة التي انتهت في مناطق سيطرة النظام، لذلك لا يوجد سبب أو مشكلة لديهم برفض العودة حسب تقديره، رافضاً إسقاط المثال التركي، المتمثّل ببناء وحدات سكنية في أراض خارج سيطرة النظام لأسباب سياسيّة، على لبنان، أو حتى إقامة منطقة إيواء لهم على الحدود السورية اللبنانية وتحت رقابة وإشراف الأمم المتّحدة.
أما القسم الثاني: هم اللاجئون وهؤلاء نسبتهم 1%، فروا من سورية لأسباب سياسية وأمنيّة، ويرجّح عدم رغبتهم في العودة إليها بسبب معارضتهم للنظام، لذلك أمامهم حلان: إما العودة إلى سورية والتعهّد بعدم ممارسة أي نشاط سلبي بحسب الوزير، الذي قدّم ضمانات بعدم التعرض لهم بالتوقيف والاعتقال، أو إعادة توطينهم في بلد ثالث وهذه مسؤوليّة المفوّضيّة.
الحديث الرسمي اللبناني عن أن غالبية السوريين في لبنان ليس لديهم ما يعيق عودتهم يتناقض تماماً مع المسح الإقليمي السابع الذي أجرته مفوضية اللاجئين بداية هذا العام، في أربعة بلدان (مصر، العراق، الأردن، لبنان)، حول تصوّرات اللاجئين السوريين ونواياهم في العودة إلى سورية، إذ قال قرابة 93% من عينة البحث إنهم لا يرغبون بالعودة في الإثني عشر شهراً القادمة، وأقل من 2% يخططون للعودة، في حين قال نحو 5% إنهم لم يقرروا بعد ماذا يفعلون.
العودة تبدأ بسقوط النظام
وفقاً للاجئين سوريين تحدّثنا إليهم، قالوا إن النظام ما يزال السبب والعائق الأساسي في طريق عودتهم إلى سورية، لفرضه الخدمة الإلزامية عليهم، والزج بأبنائهم في معارك تستهدف قتل أبناء شعبهم، فضلاً عن التوقيف والاعتقال والتعذيب الذي وثقته منظمات حقوقية، كان أهمها هيومن رايتس ووتش، التي قالت في تقريرها الصادر أواخر العام الماضي بعنوان “حياة أشبه بالموت.. عودة اللاجئين السوريين من لبنان والأردن”، إن العائدين بشكل طوعي بين عامي 2017 و2021 واجهوا انتهاكات حقوقية جسيمة واضطهاداً من الحكومة السوريّة والميليشيات التابعة لها مثل التعذيب والخطف والاختفاء القسري.
كما وثق التقرير بعد مقابلة 65 شخصاً من العائدين أو أفراد عائلاتهم، 21 حالة اعتقال واحتجاز تعسّفي، و13 حالة تعذيب، وثلاث حالات اختطاف، وخمس حالات قتل خارج نطاق القضاء، و17 حالة اختفاء قسري وحالة عنف جنسي مزعوم.
سامر، وهو لاجئ سوري مقيم في لبنان، كان أحد الذين خبروا تجربة العودة إلى حلب نهاية عام 2020، واصفاً ما فعله بالجنون لا سيما في ظل الواقع الاقتصادي المنهار الذي تعيشه مناطق النظام.
يروي سامر لفوكس حلب أنه دفع مبلغ ثلاثة آلاف دولار عبر طرق التهريب كي يصل إلى حلب دون تعرض الحواجز الأمنية له، إلا أنّه اعتقل بعد عودته بيومين وتعرّض لتعذيب وحشي وأفرج عنه بعد شهر ونصف الشهر، كما تعرّضت إحدى بناته للخطف من قبل ميليشيات الشبّيحة التي أفرجت عنها بعد استلامهم مبلغ أربعة آلاف دولار، ليعود خلسةً إلى لبنان برفقة عائلته. يرى سامر أن بقاء النظام يعني استحالة عودته لدرجة انه يفكر في الانتحار إن أجبر على ذلك.
تقول أم محمد، وهي لاجئة سورية في لبنان منذ سبع سنوات، إن السبب الأساسي لرفضها العودة يرجع لإجبار أبنائها، عمر ونذير، على تأدية الخدمة الإلزاميّة في حال عودتهم، وهذا ما ترفضه نظراً لمعارضتهم النظام، أو تعرضهم للاعتقال، وفي كلا الحالتين من المرجح أن تفقدهم.
لا تنكر أم محمّد أنها ترغب بالعودة إلى سورية وقضاء بقية عمرها في مسقط رأسها مدينة عربين، خاصّة بعد انعدام مقوّمات الحياة في لبنان، وتصاعد الخطاب الرسمي والشعبي ضد اللاجئين والمطالبة الحثيثة بعودتهم، لكنها تفضّل ما وصفته “الحياة المرّة” في لبنان على أن تخسر أولادها.
آخرون قالوا لفوكس حلب إن إعادتهم إلى سورية تبدو أبعد من قذفهم إلى مصائر مجهولة، بل هي رميهم إلى الهلاك، وأن الضمانات ومراسيم العفو التي يقدّمها النظام ما هي إلا بيع أوهام، وسياسة فتح اليد والتعاون التي يبديها النظام في هذا الملف ستتحوّل لسياسة فتح السجون والمعتقلات التي ستعجّ بالعائدين.
هذا التصور مبني على غياب الثقة بالنظام السوري، وبالضامن اللبناني أيضاً، وسط غياب أي ضمانات أمميّة ورفض الأمم المتحدة خطة لبنان بإعادة السوريين، يسأل خالد بتهكّم، وهو منشق من سلك الشرطة السوري ولاجئ في لبنان: “ماذا سيفعل وزير المهجرين، الذي هو في الأصل أحد حلفاء النظام في لبنان، وحكومته العتيدة في حال تم اعتقالنا أو محاكمتنا أو قتلنا”
الدراسة القانونيّة في دائرة الضوء
حددت الدراسة التي أعدها المحامي بول مرقص، مدير مؤسسة جوستيسيا الحقوقية المستقلة، المسار القانوني الذي ستسير عليها خطة إعادة اللاجئين السوريين في لبنان.وحصل فوكس حلب من المؤسسة على نسخة من هذه الدراسة التي استندت في الدرجة الأولى إلى قانون تنظيم الدخول إلى لبنان والإقامة فيه والصادر عام 1962، إذ نصّت المادة 17 منه على منح صلاحيات للمدير العام للأمن العام بإصدار قرارات بترحيل الأجنبي، كل شخص غير لبناني، إذا كان في وجوده ضرر على السلامة والأمن العامين.
شملت قرارات الترحيل أيضاً الذين دخلوا لبنان بطريقة غير قانونيّة، وفقاً للمادة 32 من القانون ذاته، والتي أضافت عقوبة الغرامة المالية والحبس من شهر إلى ثلاث سنوات، وعليه اعتبرت الدراسة أن هؤلاء، وإن دخلوا طلباً للحماية واللجوء، تجب معاملتهم كمهاجرين غير شرعيين وهم معرضون للسجن والاعتقال والغرامات والإخراج (الترحيل)، لأنهم أقاموا في لبنان أكثر من المدّة المسموح بها في تأشيرات الدخول، وهي ستّة أشهر.
إلى جانب ذلك حرّرت الدراسة القانونيّة لبنان من أي التزامات تقضي بمعاملة السوريين كلاجئين، وسط غياب قانون داخلي ينظّم وجودهم، وذلك كون لبنان بلداً غير موقع على اتفاقية اللاجئين عام 1951 وبروتوكولها العام 1976، كما أن مذكّرة التفاهم التي وقعها لبنان مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تفضي لاعتبار لبنان بلداً لا يسمح بإقامة طالبي اللجوء على أراضيه بشكل دائم، إنما يمنحهم تصاريح إقامة مؤقتة لمدة أقصاها سنة على أن تعمل المفوضيّة على إعادة توطينهم في بلد ثالث، منذ وصولهم وحتى انتهاء المدّة، لكن ذلك لا يعني التفلّت من المعايير الدوليّة التي تضمن كرامتهم وأمنهم وحقوقهم الإنسانيّة بحسب الدراسة.
تعلّق انتصار الزين، وهي محامية لبنانيّة وناشطة حقوقيّة، بأن لبنان والمفوّضيّة لم يلتزما بالبنود الكاملة لهذه المذكرة، إذ لم تولِ المفوضيّة الداخلين خلسة الأهمية الكافية، بل على العكس، سعت لإعادة توطين عشرات الآلاف ممن دخلوا عبر المعابر الرسميّة قبلهم، كما عمد الأمن العام إلى اعتقال الداخلين خلسة، بمجرّد إمساكهم وتهديدهم بالترحيل، ما دفعهم إلى تسوية أوضاعهم قبل عام 2019، بعد يأسهم من انتظار المفوّضيّة، بدفع مبالغ مالية استفادت منها الحكومة اللبنانيّة (900 ألف ليرة أي 600 دولار وقتها) ورسوم تجديد (300 ألف ليرة أي 200 دولار وقتها) ما جعلهم في وضع قانوني.
في المقابل هناك فئة ثانية اختارت الاختباء، أو عجزت عن إكمال إجراءات التسوية سواء بتأمين المال أو تأمين الكفيل، وهو رب العمل، ويشترط أن يمتلك مؤسسة مسجّلة، بالإضافة إلى فئة ثالثة دخلت بعد عام 2019، وأصحاب هذه الفئة بالإضافة لمن تعثروا في إجراءات التسوية من الفئة الثانية، باتوا محرومين من وضعهم في الإطار القانوني إلى الآن، فضلاً عن أنّهم سيكونون في مقدّمة العائدين إن نفّذت الخطّة اللبنانيّة.
نبّهت الدراسة القانونيّة الدولة اللبنانية إلى أنها ملزمة قانوناً بمنح أي مواطن سوري -بموضوع قرار الترحيل -الوقت الكافي للدفاع عن نفسه والاعتراض على قرار ترحيله، وتوضيح أسباب عدم رغبته بالعودة إلى سورية، ومراجعة القضاء أو البحث عن بلد آخر للانتقال إليه، كما تطرّقت للمادة 3 من اتفاقيّة الأمم المتّحدة لمناهضة التعذيب 1948 (انضم إليها لبنان عام 2000)، والتي تنص على أنه “لا يجوز لأي دولة طرف أن تطرد أي شخص أو تعيده أو أن تسلّمه إلى دولة أخرى، إذا توافرت لديها أسباب حقيقيّة تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرّض للتعذيب”.
تقول المحامية انتصار الزين إن المادة 31 من قانون تنظيم الدخول إلى لبنان تمنع ترحيل اللاجئ السياسي إلى أرض يخشى فيها على حياته أو حرّيته، وفي الوقت ذاته تقول إن لديها شكّ كبير في أن تطبق السلطات اللبنانية الإجراءات المحقّة للاجئ، خاصّة أن الأمن العام اللبناني قد أعطى قرارات بالترحيل لسوريين كثر ممن دخلوا عبر المعابر الرسميّة، وآخرين دخلوا خلسة، دون أن يطبق ذلك خشية تأليب المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقيّة عليه، ولحاجة لبنان لرضا الدول الغربية وأموال صندوق النقد الدولي الذي ما زال يمتنع عن إقراضه.
وهذا ما يفسّر تلويح نجيب ميقاتي بطرد اللاجئين في حال لم تلتف الدول الغربيّة للبنان، والالتفات هنا يعني دفع المال بشكل مباشر للحكومة اللبنانية والتسريع بإعادة توطين السوريين في بلد ثالث بحسب الزين.
تذهب انتصار الزين أبعد من ذلك لتقول إنّ هذه الخطة وضعت لابتزاز المجتمع الدولي لتقديم المال من جهة، ولإجبار اللاجئين على العودة، من خلال الدعوة لقطع المساعدات عنهم، وتصعيد الخطاب الرسمي والشعبي ضدّ بقائهم والدفع للتضييق عليهم، وهذا يتناقض مع مفهوم العودة الطوعيّة التي بدأت تنظّم أواخر عام 2017 بعد التنسيق بين الأمن العام اللبناني والنظام السوري وبرعاية مفوضيّة اللاجئين والصليب الأحمر.
والعودة الطوعيّة هذه تعني أن يتوجّه السوري المقيم في لبنان، بملء إرادته، إلى إحدى مراكز الأمن العام المختصة بالعودة، وعددها 18 موزّعة على امتداد الأرض اللبنانيّة، ويعبّئ طلب استمارة عودة تنقل معلوماتها إلى السلطات السوريّة ليأتي الجواب بالرفض أو القبول في مدّة أقصاها ثلاثة أشهر.
من جهته قال الأمن العام اللبناني إنه بين أواخر عام 2017 وأواخر عام 2019، ساهمت العودة الطوعيّة في نقل 19884 مواطناً سورياً إلى الأراضي السوريّة، 14825 منهم مسجلون كلاجئين في المفوّضيّة، في حين عاد 321989 سوري بصورة إفرادية عبر المعابر الرسمية وسوّيت أوضاعهم للمغادرة، كما أعادت المفوضّية توطين 88303 لاجئاً سورياً في بلدان أخرى في الفترة ذاتها، إلا أن الأمن العام لم يذكر أرقام للعائدين من بداية 2020 حتى الآن.
العودة إلى سورية وقرار الاستقرار فيها لا يحتاج إلى استمارة عودة طوعيّة بحسب انتصار الزين، وهذا ما يفسّر التفاوت الكبير بين أرقام العائدين بنفسهم إلى سورية وأرقام العائدين عبر مراكز الأمن العام، بالتزامن مع ذلك تقول الزين، وسوريون تحدّثنا إليهم، إن فئة كبيرة من الموالين للنظام السوري، إضافة إلى العمال القدامى الذين تضررت أعمالهم بعد استفحال الأزمة المالية وتفشي وباء كورونا، شكلوا الكتلة الأكبر من العائدين، بالإضافة إلى من قرّروا المغامرة بأنفسهم واختاروا العيش في بلدهم.
يرى سوريون تحدّثنا إليهم أن إخراجهم من لبنان وإعادة توطينهم في بلد ثالث ليس فقط جزء من المذكرة الموقعة بين لبنان والمفوضيّة، إنّما هو حل يرضيهم ويخفف عنهم أعباء الحياة القاسية والتمييز الذي يعيشونه، فضلاً عن الرعب الذي يستوطن قلوبهم إن حصل أحدهم على قرار ترحيل من أحد مراكز الأمن العام، واحتمالية قذفه في المستقبل إلى البلاد التي مازالت خاضعة لمن دمّرها، وسبَّب تهجيرهم وتشريدهم.
كل هذا يحتاج إلى رغبة دولية وخطط واضحة لإعادة استقبال السوريين في بلدان أخرى بشكل دائم وبأسرع وقت، لا الطلب من لبنان الرسمي إعادة دمجهم وسط رفضه المعلن، متذرّعاً بتركيبة البلد الديموغرافيّة والاجتماعية والاقتصادية التي ترفض التوطين في دستورها، وخاصة أن بيانات إعادة التوطين على الموقع الرسمي للمفوّضيّة لا تشير إلى إيلاء هذا الموضوع جدية واهتماماً، فمنذ عام 2012 حتى الآن أعادت المفوضيّة توطين قرابة 104152 لاجئاً سورياً في الخارج، كانت حصة الأعوام التي شهدت الانهيار المالي (2020، 2021، 2022) قرابة 19 ألف لاجئاً فقط، بالرغم من الإلحاح الشديد الذي أبداه السوريون بتسريع التوطين، حتى أن بعضهم طرق أبواب السفارة الأجنبية مثل السفارة الكندية والفرنسية والبلجيكيّة والألمانيّة دون جدوى، باعتبار نقلهم إلى هذه البلدان أو غيرها يمر من باب المفوضيّة التي تحوي أزيد من 831 ألف سوري مسجل لديها في لبنان إلى الآن.