يستكمل فوكس حلب ثلاثية حرب الأملاك في مناطق سلطات الأمر الواقع، الخارجة عن سيطرة قوات النظام، كلياً أو جزئياً، وكنا قد بدأنا في تقرير معمّق سابق تسليط الضوء على مصير الأملاك في مناطق سيطرة قسد، لنستعرض في هذا التقرير دوافع وأدوات الاستحواذ على الأملاك في إدلب، وفي تقرير لاحق تكون مناطق سيطرة “الجيش الوطني” في دائرة الضوء.
وتأتي هذه الثلاثية في مسعى لرسم صورة كاملة لعموم مناطق سوريا، وهي بمثابة جزيرة تتوسط سلسلة تحقيقات بدأت، وستُستكمل في مناطق سيطرة النظام، حيث حرب الأملاك أشد ضراوة، من حيث اتساعها وكارثية نتائجها، وخصوصاً أن عنوانها العريض هو الاستملاك والحرمان الدائم من الأملاك، على عكس ما نلحظه في مناطق سيطرة سلطات الأمر الواقع، التي يكون وضع يدها على الأملاك من باب الاستحواذ والاستيلاء والمنفعة المؤقتة.
حين نذكر إدلب، فإننا نعني مناطق هيمنة تنظيم هيئة تحرير الشام، وهنا لا بد من استعراض زمني لتطور شكل هذه الهيمنة، وأدواتها في الوقت الراهن، وهو ما يستدعي بالضرورة مروراً سريعاً على بنية هيئة تحرير الشام نفسها، و واجهاتها الأمنية والعسكرية والمدنية.
من النشأة إلى الهيمنة
ظهر تنظيم “جبهة النصرة لأهل الشام” أواخر العام الأول من الثورة السورية، وبث أول بيان في بداية 2012، وأكد زعيمها في مقابلة مع الجزيرة أن التأسيس كان في فبراير عام 2012، وربطته الولايات المتحدة لاحقاً بتنظيم القاعدة (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) في العراق، ليعلن زعيم التنظيم “أبو محمد الجولاني” فك الارتباط عن القاعدة، وتغيير الاسم إلى “جبهة فتح الشام” في يوليو عام ٢٠١٦، تخلل ذلك الانفكاك التدريجي والقطيعة الكاملة ولاحقاً الاقتتال الاستئصالي مع تنظيم داعش تحت قيادة أبو بكر البغدادي حينها.
سبق ذلك معركة مفصلية وهي السيطرة على إدلب في مارس 2015 ، في مهمة أنجزت في وقت قصير، نحو أربعة أيام، من خلال جيش الفتح، كانت جبهة النصرة إحدى التشكيلات المساهمة في المعركة، ليشهد جيش الفتح لاحقاً توترات واقتتالات كانت كافية لإنهائه.
سمحت التحوّلات السابقة بظهور “هيئة تحرير الشام” التي انضوت فيه فصائل أخرى، وبدأ التنظيم الجديد إظهار براغماتية أكبر، فتحت له الأبواب نحو الهيمنة المطلوبة، التي تعززها تشكيلات عسكرية شديدة التنظيم، وأدوات أمنية وإدارية تقف وراءها قوة تنفيذية ضاربة، وعلى رأس هذه المنظومة قائد الهيئة المعروف، أبو محمد الجولاني، يليه مجلس شورى، ومكاتب (العسكري والاقتصادي والشرعي والأمن والعلاقات العامة)، وفق مركز أبحاث ودراسات مينا.
ولسنا في هذا المقام بمعرض تشريح بنية هيئة تحرير الشام ككل، ونكتفي عند النقطة التي ظهرت فيها “حكومة الإنقاذ” في نوفمبر 2017، وهي عمليّاً الجناح السياسي والإداري المدني الناعم لهيئة تحرير الشام، والمؤلفة في الوقت الحالي من 10 وزارات، بينها العدل والداخلية والإدارة المحلية.
بدء من النشأة تحت مسمى جبهة النصرة، وصولاً إلى هيئة تحرير الشام، أثبت هذا التنظيم مرونة عالية وقدرة على اتخاذ قرارات مفصلية من شأنها إحداث تغييرات شكلية وتكتيكية وتنظيمية جذرية، دون الإجهاز على البنية الصلبة للتنظيم، عدا أن ذلك ليس مستحيلاً، كما أنه ليس سهلاً، وفق ما خلص إليه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ولنا من كل ذلك، تتبع مآلات وتبدلات حرب الأملاك في ظل هذا التغيّر العاصف الذي لا شبيه له لا بمناطق سيطرة النظام ولا قسد، وهو ما يمكن أن يُعقّد قضية الأملاك واسترداد الحقوق.
جبل الزاوية: نمذجة الواقع
لم تكن رحلة البحث والتقصي، الميداني أو في المصادر المفتوحة، رحلة هيّنة، لعقبات ومطبات مصدرها الشح في تناول قضية الأملاك في إدلب، وتوجّس المعنيين بهذه القضية، ضحايا أو مسؤولين، من فتح هذا الملف، لأسباب تبدأ بالخوف، لأذية جسدية أو ضرر معنوي في ظل الاستقطاب الحاد الحاصل وخصوصاً بما يتعلق بالانحياز إلى النظام في ظل فتكه بالمناطق المحررة والاحتقان اتجاه كل ما يتصل به.
اختار معد التحقيق عينة من مناطق إدلب، وهي جبل الزاوية، لقدم وجود هيئة تحرير الشام فيه، ما يسمح برصد مديد لتحولات قضية الأملاك، بما يمكن تعميمه جزئياً على بقية مناطق إدلب، ويتألف جبل الزاوية من نحو 32 بلدة، واجتهد معد التحقيق في الحفر بهذه المنطقة، لكن مع تعذر ذكر أسماء صريحة، أو حتى في بعض المفاصل ذكر طبيعة عمل أو دور المصادر، منعاً من الاستدلال عليها، وهو ما قد يعرضها للخطر.
ضيّقنا حرصاً على دقة نتائج البحث والاستقصاء لتشمل سبع قرى في جبل الزاوية، دون تسميتها، للأسباب الأمنية الآنفة الذكر، وأحصى معد التحقيق مصادرة 113 منزلا، و 24 محلاً تجارياً، و 390 قطعة أرض زراعية، بمساحات مختلفة تبدأ من دونم واحد، وحتى 10 دونمات. وكان لافتاً أن طلب قوائم رسمية لهذه المصادرات لم يكن سهلاً إذ كانت الإحالة حتى من جهات رسمية تتبع لحكومة الإنقاذ دائماً إلى هيئة تحرير الشام. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأرقام نتيجة جهد معد التحقيق وانتقاله بين مصادر ثقات، وهو ما يعني أن الأرقام الحقيقة أكبر مما سبق.
الإحصائية السابقة توزعت فيها المصادرات وفقا للمسوغات كما يلي: 51 منزلا، و 9 محلات تجارية، 167 أرضاً زراعية، كون أصحابها يقاتلون إلى جانب قوات النظام، فيما صودرت أملاك الموظفين والمتقاعدين في أو من دوائر النظام وهي 30 منزلا، و 8 محلات تجارية، 128 أرض. وتكفلت بالباقي تهم التشبيح والعمالة أو حتى معاداة هيئة تحرير الشام، وكثير من هؤلاء يعيشون في مناطق النظام أو خارج سوريا.
مع اتساع رقعة سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب وريفها، زادت أعداد العقارات المصادرة وتعددت أسبابها، وبدأت تتشكل ملامح سطوة عقارية مارستها الهيئة في كل قرية دخلتها، وكانت التهم جاهزة إبان كل حالة استيلاء، وهي ما أفضت في المحصّلة إلى معاقبة المقاتلين في صفوف النظام من ( أمن، جيش، شرطة)، أضافت إليهم لاحقاً الموظفين الذين يقبعون في مناطق النظام ويقبضون رواتبهم منه، إلى جانب من عرف عنهم تأييدهم للنظام أو معاداتهم لجبهة النصرة أو عدم تبنيهم للثورة.
وما حصل يتجاوز مسألة معاقبة المناوئين، إنما الأهم من ذلك ما بدا أن للهيئة، اليوم، امبراطورية عقارية قوامها آلاف المنازل والمحلات التجارية، إلى جانب آلاف الهكتارات الزراعية توزعت على قرى ومناطق إدلب.
الدوافع والذرائع
١- التشبيح
أبو المجد، اسم مستعار لشاهد واسع الاطلاع على هذه القضية، يقول لفوكس حلب، إن مصادرة أملاك “الشبيحة” لم تحدث في بدايات الثورة، او السيطرة على إدلب، وخصوصاً أن من اختار الانحياز للنظام عمد إلى إسكان أحد أقربائه في بيته، وكذلك رغبة من بعض الفصائل، وهيئة تحرير الشام أحدها، منح المقاتلين المنخرطين في صفوف قوات النظام فرصة للانشقاق.
وتأكيداً على ما سبق، يروي “سميح”، وهو اسم مستعار لمقاتل سابق في هيئة تحرير الشام، تفاصيل سجال على خلفية توجه هيئة تحرير الشام أواخر عام 2014 لمصادرة منزل عائد لمساعد أول في قوات النظام بقرية كنصفرة بجبل الزاوية، لكن ابن عمه وهو مقاتل في حركة أحرار الشام منعهم الاقتراب من البيت، وأفلح في ذلك.
ومما يعكس تنامي الهيمنة وتطورها، شكل وضع اليد على العقارات، فالحادثة السابقة تكررت في وقت لاحق لكن بنتائج مختلفة، إذ يقول نور، وهو اسم مستعار، إن الهيئة صادرت منزل والده وأبلغه حينها مسؤول في الهيئة: ” إن المصادرة ليست لبيته ولا لبيت شقيقه الذي استشهد وهو يقاتل إلى جانب إحدى الفصائل، إنما المصادرة سببها كون ربّ الأسرة لا يزال موظفا في قوات النظام”.
ردة فعل نور المعلنة والغاضبة في ذلك الوقت، دفعته إلى محاججة الهيئة بعد زيارة المكتب الاقتصادي للهيئة في أريحا، إلا أنه لم يسمح له بدخول المكتب، لكن أحد المسؤولين أبلغه أنه يمكن له استئجار منزل أبيه بالتفاهم مع رئيس المكتب ( الأمير) الاقتصادي التابع للهيئة.
2- شبهة التشبيح
لم تعد ذرائع المصادرة بسبب قتال أصحاب العقارات إلى جانب قوات النظام كافية، ولا حتى تهم التشبيح المثبتة، بل صار التشبيح شبهة يفقد البعض أملاكهم بسببها، فعلى سبيل المثال، أبو علي وهو من جبل الزاوية، ويقيم في دمشق منذ عشرين عاماً، صودرت أرضه ومحل تجاري، لأنه زوج ابنته لشاب يؤدي الخدمة الإلزامية في قوات النظام.
وبدرجة مثيرة للاستغراب بشكل أكبر، حسين، صودرت أملاكه لأنه غادر إلى مناطق النظام نازحاً، بعد الحملة العسكرية قبل عامين، ورفض حسين الإدلاء بأي تصريح لفوكس حلب، لكن أحد أقاربه أدلى بتصريح لافت، قال إن حسين زج بأبنائه للخدمة في قوات النظام ولم تصادر أملاكه حين كان في المناطق “المحرّرة”، لكن نزوحه استوجب ذلك، و حينها بررت الهيئة أن حسين كان الأجدر له أن ينزح إلى الشمال ويقنع أولاده بالانشقاق والقدوم إليه.
٣- الموظفون لدى النظام
يُضاف إلى ما سبق، الموظفون المدنيون لدى دوائر النظام، إذ صودرت أملاك قسم منهم بذريعة أنهم يقبضون رواتب ممن قتل وهجر أهلهم وشعبهم، وهذا ما حدث مع أبو سائر، وهو أيضا اسم مستعار، وهو موظف في حماة، انتقل إليها عام 2016، وبلغه أن الهيئة صادرت جميع أملاكه، ولم تعترف بالعقد المبرم لبيع الأرض كونها ما زالت باسمه في السجلات العقارية، فما كان منه إلا أن يعيد ثمنها للشاري على دفعات انتهى من سدادها العام الماضي.
عزيمة الهيئة في مصادرة الأملاك وفق ذاك النحو لم تقف في وجهها مصادرة منزل صاحبه يقيم في مناطق النظام رغم أن من كان يقيم فيه شقيقه، والمعروف بتاريخه الجهادي، وفق ما نقلت شبكة شام، ولكن في هذه القصة ثمة تفصيل بسيط على الأرجح يخفي وراءه المزيد من الأسباب، وهو أن الجهادي ويعرف باسم “أبو شامل”، وهو من بلدة كفر سجنة بريف إدلب، التزم “الحياد” إبان الاقتتال بين هيئة تحرير الشام، وأحرار الشام.
٤ – المسيحيون
في نهاية عام عام 2018 بدأت الهيئة تخطو أول خطوات تنظيم وضع يدها على أملاك المسيحيين، إذ تناقل ناشطون،بكثافة، أخباراً تفيد أن مكتب العقارات والغنائم (لجنة الغنائم) قد أرسل مذكرات حضور إلى كل الذين يقطنون في بيوت المسيحيين لتسليم هذه العقارات إلى المكتب العقاري تمهيداً لإسكان عوائل العناصر المقاتلة معها أو لتأجيرها للمقاتلين”المهاجرين” القادمين من الخارج بمبالغ جيدة، ملغية بذلك كل عقود الإيجار القديمة والوكالات، ومتفرّدة بالانتفاع من عائدات هذه العقارات بدلاً من أصحابها.
محمد عفيف كان من الذين استدعتهم الهيئة كونه مستأجراً لمنزل صديقه المسيحي الذي يعيش في أوروبا، يقول بعد مراجعتي لمكتب الغنائم، خيّروني إما أن أدفع إيجار المنزل لهم أو أغادره ويصبح تحت تصرّفهم، معتبرين أن عقد الإيجار الذي أملكه قد أصبح لاغياً وأن على صاحب المنزل القدوم إلى إدلب لتنظيم عقد جديد في حكومة الإنقاذ، وهذا ما كان مستحيلاً لتواجده في أوروبا، لذا قررت البقاء والدفع لهم، ومنذ سنة رفعوا الإيجار إلى 70 دولار، وقتها قررت المغادرة إلا أن مالك المنزل طلب مني البقاء وبدأ يساعدني مادياً في دفع الإيجار لهم.
من جهتها وثقت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة مصادرة نحو 550 منزل ومحل تجاري تعود ملكيتها لمسيحيين في إدلب بين أواخر عام 2018 ومنتصف تشرين الأول عام 2019، وفي جسر الشغور وريفها وثقت المنظمة مصادرة نحو 750 منزل يغيب أصحابها المسيحيين عنها، من جانب تنظيم حراس الدين والحزب الإسلامي التركستاني وهيئة تحرير الشام، وهذا لم يتسن لفوكس حلب التأكد من هذه الأرقام من مصدر مستقل، أو التثبت منها من مصادر رسمية أو مصادر متعددة.
وفقاً لعدة ناشطين تحدّثنا إليهم أخبرونا أن هذه الإجراءات كانت غير عادلة ويكتنفها الغموض، فتارة تسمى أملاك المسيحيين “غنائم” وتارة تسمى “قيد الأمانة” وتارةً “واردات بيت مال المسلمين”، لكن ما كان واضحاً أنها كانت سالبة لإرادة أصحابها وحريّتهم في إدارة أملاكهم والتصرّف بها كما يشاؤون، وهذا ما يفسر نشر بيانات رأي من قبل ناشطين تدين ممارسات لجنة الغنائم، أتبعها خروج سكان إدلب في مظاهرة قيل في بيان الدعوة إليها أنها احتجاجاً على الاعتداء على الأموال العامة والخاصة، منها أموال المسيحيين.
صحيفة المدن قالت في تقرير نشرته أواخر 2016، بعنوان “مسيحيو ريف إدلب.. لا عيد هذه السنة أيضاً” إن دار القضاء التابعة لتنظيم “جبهة فتح الشام”(هيئة تحرير الشام) ومقرّها في دركوش قد استولت على منزل أحد المسيحيين وكافة أملاك والده في قرية الجديدة في ريف جسر الشغور بذريعة تواجد أخوته في مدينة اللاذقية.
التقرير ذاته أشار إلى أن المحكمة الإسلامية التابعة لفصائل من جيش الفتح تدخلت عدة مرات وكان لديها 13 قضية إعادة أملاك للمسيحيين، إلا أن دار القضاء التابعة لجبهة فتح الشام كانت تعرقل إعادة هذه الأملاك حتى الموجود أصحابها أو المالكين لها بحكم الورثة مثل قصة ناديا خوري التي خسرت بستان أبيها بعد وفاته بمساحة 60 دونم.
موقع سيريا ريبورت قال في نوفمبر 2020 قال إن هيئة تحرير الشام أجبرت عناصر تنظيم حراس الدين على الخروج من منازل وعقارات قرية الغسانية المسيحية غربي مدينة جسر الشغور، واستولت بدلاً عنهم على كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس ومعظم عقارات القرية التي أتبعتها لإدارة منطقة جسر الشغور التابعة لحكومة الإنقاذ.
وذكر الموقع أن الغسانية شكلت نقطة جذب للتنظيمات الجهادية بسبب الأعداد الكبيرة من المنازل الخالية والتي تركها أهلها بعد عام 2012 نتيجة سيطرة المعارضة السورية عليها وخوفاً من قصف طيران النظام واشتداد المعارك وبروز الصبغة الإسلامية على الفصائل، لافتاً أن عدد سكانها كان قرابة 10 آلاف نسمة، نزح أغلبهم بسبب الحرب، إلا أن مصدر مطلع أكّد لفوكس حلب أن لم يعد فيها أي من سكانها وباتت كل عقاراتها تحت تصرف الهيئة.
أما في القرى المسيحية الواقعة شمالي جسر الشغور وغربي إدلب والمجاورة لبعضها وهي: القنية واليعقوبية والجديدة، فكان واضحاً امتداد أذرع الهيئة العقارية في غالبية عقارات هذه القرى، خاصة في ظل تواجد تنظيم حراس الدين والحزب التركستاني الإسلامي واكتناز حصتهم من عقارات غاب أصحابها عنها، مع السعي الدائم والحثيث للهيئة لتقليص وجودهم وهذا ما حصل.
نادر أحد المسيحيين الذين استولت هيئة تحرير الشام على بيته وأرضه في قرية الجديدة في جسر الشغور، يظهر مقطع الفيديو الذي أرسله نادر اقتطاع نحو ثلاث دونمات من أرضه البالغة نحو 30 دونم مزروعة بالزيتون وبناء مركز لاستقبال حالات كورونا من قبل حكومة الإنقاذ، مع ظهور عبارة هيئة تحرير الشام على جدار المبنى، لتصبح الأبنية مقرّاً للمكتب الزراعي التابع للهيئة، وهو المشرف على إدارة الأراضي الزراعية في القرى الثلاث وما حولها.
لم يتمكن نادر المقيم منذ 25 سنة في مدينة دمشق من إجراء وكالة لشقيقه المقيم في قرية الجديدة، وفشلت كل محاولات الأخير أثناء زياراته المتكررة لمكتب الغنائم في جسر الشغور، الأمر الذي أبقى منزل وأرض نادر بحوزة الهيئة مع خشيته من استملاكهم إلى الأبد.
إدارة المصادرات
تولّت حكومة الإنقاذ إدارة مكتب الغنائم في إدلب/المدينة بدءاً من عام 2019 دون أن تتبعه لأي من وزاراتها. يكشف قصي (اسم مستعار لموظف في أحد مكاتب الغنائم) أن سجلّات المكتب من العقارات المبنية والأراضي باتت تدار بطريقة تشاركية مع الهيئة، مؤكّداً أن رواتب الموظفين الذين هم في الأصل أفراد في الهيئة تصرف من حكومة الإنقاذ، في الوقت الذي تذهب فيه أجور البيوت والمحلّات إلى خزينة وزارة الاقتصاد والموارد، أما المحاصيل الزراعية، أهمها الزيت، وثمنها فهي إلى الآن تذهب إلى خزينة المكتب الاقتصادي في الهيئة.
وكان لافتاً في يونيو/حزيران الماضي مذكرة الإخلاء التي صدرت بحق عائلة نازحة من قبل ما يسمى الإدارة العامة للإسكان، دون تبيان عائدية هذه المؤسسة لأي وزارة في الحكومة وغموض تابعيّتها للهيئة، إلا أن وسائل إعلامية وناشطون قالوا إنها الاسم الجديد لمكتب(لجنة) الغنائم، حتى الشخص الذي صدرت بحقه المذكرة ذكر في منشور على فيسبوك أن لجنة الغنائم هي من طالبته بمغادرة المنزل.
أمّا خارج مدينة إدلب والقرى المسيحيّة،أولت الهيئة لمكاتبها الاقتصادية والقوة التنفيذية التابعة لها متابعة عمليات الاستيلاء، واستغلت العقارات التي كانت بيد الجيش الحر وخاصة تلك التي لم يعد أصحابها إليها، وحوّلتها إلى مقرّات ومكاتب تابعة لها أو لاستثمارات مصلحتها، مثّلت جميعها مصدر تمويل يضاف لمصادرها الأخرى ويرعاه المكتب الاقتصادي.
يقول سميح، الذي ورد ذكره سابقاً، وهو اسم مستعار لأحد أفراد هيئة تحرير الشام سابقاً، إن البيوت المصادرة أصبحت إما مقرات أو أجرت للنازحين أو أسكنت فيها عوائل المقاتلين، بموازاة ذلك كان عناصر الهيئة يجمعون محاصيل الأراضي المصادرة أو يلجؤون لاستثمارها في “الضمان السنوي”، وكل هذا كان يحصل بأوامر من أمير الاقتصادية.
يوضح سميح أن أمير الاقتصادية هذا، غالباً ما يكون من أبناء القرية أو المنطقة، وأحد قيادات الجبهة، ويجب أن يكون لديه دراية بأبناء القرية ومنازلهم وممتلكاتهم، يعيّنه المكتب الاقتصادي، ويتمتع في اتخاذ قراراته بسلطة مستقلة عن الأمير العسكري والإداري في نفس المنطقة.
نظرة قانونية على المصادرة
ما سبق من قصص دفعنا إلى أسئلة: ما هي الاعتبارات التي تقوم على أساسها المصادرة، ومن هي الجهة الرئيسية التي تصدر قرار المصادرة، وهل هناك سبيل أو منفذ لفك الحجز وإعادة الملكية لصاحبها، وما هو دور حكومة الإنقاذ من كل ما يحصل.
قبل البحث عن إجابات لتلك الأسئلة، وتنويهاً، من باب حق الفرد في ملكيّته وحمايته من المصادرة، لا بدّ من ذكر ما تضمنته المادة 15 من الدستور السوري التي قالت إن الملكية جماعية وفردية مصانة، ومنعت نزعها إلا للمنفعة العامة، وأجازت المادة المصادرة الخاصة لكنها لا تفرض إلا بحكم قضائي مبرم، في حين قالت المادة 768 من القانون المدني السوري إن لمالك الشيء وحده، في حدود القانون، حق استعماله واستغلاله والتصرّف فيه.
يقول المحامي حسام سرحان، رئيس المكتب التنفيذي في تجمع المحامين الأحرار، إنّ إتيان المصادرة بحكم قضائي هي بمثابة عقاب، ويبيّن أنها نزع المال أو العقار أو أي ملكية عن مالكها وإضافتها إلى أملاك الدولة من دون تعويض، وخير مثال على هذا أحكام المصادرة التي أقرها النظام السوري في قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012.
أما غصب العقار فهو الاستيلاء أو وضع اليد على ملك الغير دون رضاه أو علمه ودون وجود سند قانوني يثبت الملكية أو سبب مشروع، وهذه عقوبتها بالحبس حتى ستة أشهر وفقاً للمادة 723 من قانون العقوبات السوري، على أن تصبح العقوبة مدة سنة إذا رافق الجرم تهديد أو جبر على الأشخاص، ويعاقب بالحبس مدة ثلاث سنوات إذا ارتكب الجرم جماعة من شخصين على الأقل مسلّحين بحسب المادة ذاتها.
وتلخيصاً فإن المصادرة هو إجراء تتخذه مؤسسات عامة ذات شخصية اعتباريّة، أما غصب العقار أو وضع اليد يقوم به أشخاص عاديون وسلطات أمر واقع، وما يحصل في مناطق الشمال السوري هو مصادرة من حيث الشكل، إذ إن هناك قرارات تصدر من سلطات الأمر الواقع سواء حكومة الإنقاذ أو هيئة تحرير الشام، بينما هي غصب عقار أو وضع يد من حيث التنفيذ طالما لم تنقل الملكية إلى أملاك الحكومة أو الهيئة في السجلّات العقارية.
البحث عن حكم قضائي
تواصلت فوكس حلب مع مسؤول العلاقات العامة في هيئة تحرير الشام محمد الصادق الذي أكّد أنّ الملكيّة الخاصّة مصانة طالما لم يثبت على الشخص تعامله مع النظام السوري، منوّهاً أنّ الهيئة لم تعد معنيّة بإصدار قرارات المصادرة والإدارة والتحكم بهذه الأملاك، وأن هذا قد جرى قبل عام 2018 دون استثناء لأي فصيل، إذ كان لكل منها مكتبه الاقتصادي الذي يصادر عقارات من تمّت معاقبتهم، أمّا الآن هناك فقد انتهى زمن الفصائليّة وهناك إدارة موحّدة وعمل مؤسّساتي منظّم تحت مظلّة حكومة الإنقاذ، لافتاً أن وزارة العدل باتت مصدر القرار في هكذا حالات.
لم يتسنّ لنا التواصل مع وزارة العدل قبل التنسيق مع مديريّة الإعلام في الحكومة والتي بدورها طلبت ان نرسل الأسئلة مكتوبة وهذا ما فعلنا، إلّا أننا لم نلق رداً حتى الآن، لذا توجّهنا إلى الجريدة الرسمية في الموقع الرسمي الخاص بحكومة الإنقاذ بحثاً عن قانون ينظم عمليات المصادرة أو وضع اليد وقرارات حجز ملكيّة على من جرى معاقبتهم لكننا وجدناها فارغة، ما دفعنا إلى البحث في كافة التعاميم والقرارات والبيانات في الموقع الرسمي للحكومة ولوزارة العدل دون أن نعثر على شيء.
يقول موسى.أ وهو مقاتل سابق في تنظيم جند الأقصى ومقاتل ثم شرعي في هيئة تحرير الشام إن عملية البت في المصادرات قد انتقلت بعد عام 2018 من المكتب الاقتصادي إلى أروقة المحكمة العسكرية في إدلب التي تتبع اسميّاً لوزارة العدل فيما تدار من قبل الهيئة، حيث يتولى قاضي ما يسمى “المصادرات الاقتصاديّة” مهمة إصدار القرار بناء على دراسة أمنيّة – يجريها إما مكتب الدراسات التابع للهيئة أو مكتب الدراسات التابع لوزارة الداخلية- تثبت أن هذا الشخص قد قام بالتشبيح أو تعامل وتخابر مع النظام.
“تتجلى عمليات الاستيلاء ووضع اليد على عقارات الموظفين والمتهمين بالعمالة أو التشبيح في حال غيابهم، ويحق لأي شخص كان في إدلب أن يقدم معلومة للهيئة أو الحكومة لتبدأ الدراسة حوله والتي قد تطول حتى ثلاثة أشهر وإن ثبت عليه شيء تنقل نتيجة الدراسة إلى المحكمة العسكرية لإصدار القرار الذي ينفّذه المكتب الاقتصادي عبر الأمير والقوة التنفيذية التي تسانده” يقول موسى.
إلى جانب ذلك فرضت حكومة الإنقاذ الحصول على موافقة أمنية في عمليات بيع العقارات ونقل الملكيّة، سواء للمقيمين في مناطق سيطرتها أو الموجودين خارجها، وهو ما عدّه المحامي حسام سرحان، وسيلة لتقييد حرية التصرّف التي ضمنها القوانين السورية آنفة الذكر، كون الدراسة الأمنية تخضع لمزاجية الأجهزة التي تصدرها وقرب أو بعد الشخص عن الخط الثوري أو الجهادي وطبيعة مواقفه السياسيّة، وهي خطوة تلاقي ممارسات النظام في انتهاكاته السافرة لحقوق الملكيّة.
وعن آلية إصدار الموافقة الأمنية التي لم تصدر وفق قرار رسمي واضح يخبرنا محامٍ في إدلب رفض ذكر اسمه في هذا التحقيق أنها تبدأ بأن يقوم الشخص أو موكلّه بتقديم طلب يسمّى”بيان وضع” إلى مكتب الدراسات التابع لوزارة الداخليّة، قبل أن يثبّت ملكيته أو يجري معاملته في السجل العقاري، وفي فترة أقصاها ثلاثة أشهر تصدر نتيجة الدراسة، فإن كانت سلبية يمنع صاحبها من التصرّف بممتلكاته، وعليه أن يقوم بتقديم طلب إعادة نظر إلى الوزارة، على إثره يخضع لتحقيق في فرع المعلوماتيّة ينتهي إما بإعادة دراسة لملفّه أو وضع إشارة قصر تصرّف تمنعه من التصّرف بأملاكه.
أما المقيمون في مناطق النظام أو خارج سورية فهؤلاء ليس عليهم إلّا أن يأتوا إلى مناطق حكومة الإنقاذ، وقيامهم بالإجراءات السابقة في حال كانت الدراسة سلبيّة، يخبرنا أبو منجد من أبناء مدينة بنّش في إدلب ومقيم في حلب إنّه تعثّر في فراغ(نقل ملكية)أرضه لأخيه في بنّش الذي اشتراها، وذلك بعد أن جاءت نتيجة الدراسة سلبية. هذه النتيجة ستتكرّر في حال قرر أبو منجد تثبيت عقد البيع في سجلات النظام بسبب انضمام أخيه لحركة أحرار الشام سابقاً، وسط ذلك بقي عقد البيع هو الوثيقة الوحيدة التي تثبت ملكية أخيه للأرض.
فتاوى واجتهادات
“ملك الشبيح حق للمجاهدين”، كثيراً ما كانت تسمع هذه العبارة وما زال يتردد صداها إلى الآن في أروقة المدينة وأريافها، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الهيئة اتكأت على فتاوى ونصوص شرعية وجدت في بيئتها الحاضنة وأوجدت الأرضية المناسبة لوضع يدها العقارات مع غض الطرف عن النصوص والقوانين التي تحفظ حق الملكية الخاصة في مواد القانون المدني السوري ودستور سوريا والقانون الدولي العرفي، والركن لمقولة “هؤلاء شبّيحة ويستحقّون العقاب، بل هذا هو السبيل الوحيد لمعاقبتهم في غيابهم”.
في صورة لإحدى أسئلة امتحان مادة فقه الجهاد في كلية الشريعة في إدلب، يبرز سؤال: ما حكم الأموال العقارية التي يستولي عليها المجاهدون”. بمساعدة أحد طلّاب الشريعة حصلنا على نسخة pdf من مقرر كتاب “مختصر فقه الجهاد ونوازله المعاصرة في بلاد الشام”، وجدنا أن هذه الأموال العقارية في باب الغنائم التي يحصل عليها المجاهدون في سوريا مثل النقود والعقارات وسائر الممتلكات التي يملكها النظام و”الشبيحة” و”النصيرية”.
وفقاً للكتاب فهذه الأموال جميعها غنائم يصرف خمسها في الكراع( الآليات التي تنقل المجاهدين وسابقاً كانت تدل على الخيل) والسلاح ومصالح المسلمين، وتحقّ للذين نصبوا أنفسهم للقتال وانفردوا للثغور وسدها، إذ يقسم فيهم على قدر كفايتهم، ويصرف قسم منها أيضا على قرابة النبي والأيتام والفقراء والمساكين وابن السبيل، ثم يوزع الباقي بالعدل على بقية المجاهدين على طريقة أن للراجل سهم ولصاحب الدبابة والمصفحة ثلاثة أسهم.
تواصلت فوكس حلب مع مؤلف الكتاب ابن النجار الدمياطي، المقيم في تركيا، وهو ياسر أحمد بدر أحمد النجار، مواليد دمياط في مصر عام 1982، وحائز على شهادة دكتوراة في الشريعة الإسلامية من جامعة استانبول.
يقول المؤلف إنه أجاز للمجاهدين اغتنام عقارات الشبيحة وقوات النظام في بداية الثورة، وقتها قصد بالاغتنام الاستفادة من بيوتهم ومحاصيل أراضيهم بالإضافة إلى نزع ملكيتهم منها مدى الحياة إن أمكن ذلك، موضحاً أنه استند في هذه إلى نصوص واجتهادات شرعية بغض النظر عما تقوله القوانين السورية والدولية التي تكفل حقوق الملكية، أما الآن يقول أنه لا يستطيع أن يحدّد إن كان هذا حق للمجاهدين أم لا، خاصّة أنّ هناك أملاكاً لفئات غير مقاتلة، من موظفين ومتّهمين بالعمالة والتشبيح ومسيحيين، وهذا كلّه يعود تقديره للهيئات الشرعية العاملة اليوم في إدلب.
كلمة”شبيح” لا وجود لها في نصوص الشريعة الإسلاميّة، صاحبها يعامل معاملة المرتدّ عن الإسلام، والاخير تصادر أملاكه وتزول ملكيته عنها إن أقدم على ترك الإسلام، بحسب فتوى شرعية نقلها إلينا موسى من قاضٍ في الهيئة بطريقة غير مباشرة، أما المسيحي فيصادر ماله إن ثبت “تشبيحه”، ويبقى في عهدة المجاهدين الذين يحق لهم الانتفاع منه طوال غياب صاحبه غير المدان.
الفتوى التي وصلتنا تتناقض مع ما تناقله ناشطون وعدة وسائل إعلامية ما أسموه “وصايا اللجنة الشرعية لغرفة عمليات جيش الفتح “للمجاهدين المقتحمين”، قبيل معركة تحرير مدينة إدلب في آذار 2015، وكان أبرز ما جاء في الوصايا فتوى لرئيس مركز دعاة الجهاد في سوريا، عبد الله المحيسني يطلب فيها عدم التعرّض لدماء وأموال النصارى”المسيحيين” الذين لم يقفوا مع النظام، ومن وقف منهم معه فيعامل مثله، مشيراً أنّه نقل لشيخه “العلوان”(لقب الشيخ) أن بعض الفصائل تأخذ أموال النصارى فأنكر ذلك بشدّة،كما نقلت صحيفة المدن عن المحيسني قوله” إن رأي علماء الجهاد وشرعيي الفصائل هو حرمة التعرّض لدماء وأموال النصارى”، بموازاة ذلك أدانت دار الإفتاء المصريّة الهيمنة العقارية على أملاك المسيحيين في إدلب.
اليد الطولى للهيئة
مسؤول العلاقات العامة في الهيئة محمد الصادق أكّد لفوكس حلب أن الحكومة هي المعنية بإدارة العقارات في إدلب، مضيفاً أنه في حال حصل تدخل من الهيئة فهو فقط في سياق المؤازرة للحكومة في تنفيذ قراراتها الملزمة، وهو ما يفسر اتهامات كثيرة طالت الهيئة بأن الأخيرة أرادت إخراج المقاتلين الأجانب”المهاجرين” من العقارات التي يسكنوها والاستيلاء عليها في فبراير من هذا العام، ما دفعها لإصدار بيان يوضح ذلك
فوكس حلب حصلت من مصدر خاص على وثيقة تؤكد الصلاحية المطلقة للهيئة في إدارة العقارات، ذلك من خلال كتاب وجهه جهاز الأمن العام التابع للهيئة إلى ستة أشخاص، تطلب منهم إخلاء العقارات التي يشغلوها في قرية اليعقوبيّة خلال مدة أقصاها 15 يوماً، وتسليمها للمكتب العقاري (مكتب الغنائم) الذي يدار من قبل الهيئة والحكومة كما أسلفنا.
الأمن العام وجه الكتاب في منتصف 2020، وهو ذات الوقت الذي بدأت فيه بإخراج عناصر تنظيم حراس الدين من عقارات الغسّانيّة، وهنا أكّد المصدر لفوكس حلب أن الأشخاص الواردة أسماؤهم في الكتاب قاموا ببيع العقارات التي يشغلونها أو قسم منها لعناصر من حراس الدين أو الحزب التركستاني أو لأشخاص عاديين بمبالغ بين 1000 إلى 3000 دولار.
منفعة اقتصاديّة
بحسب شهادة موسى الذي كان ضمن عناصر جند الأقصى حين تحرير إدلب إن عمليات الاستيلاء على منازل في المدينة عائديتها فقط للموالين والشبيحة ومن شابههم من المسيحيين، مؤكّداً أنها جرت بشكل تعسفي وبطرق غير منظمة، بالإضافة إلى منازل وضعت اليد عليها بغرض السكن فقط، إذ بات كل منزل فارغ مقصداً لإحدى العوائل المقاتلة او النازحة، وهو ما اختلف عن السياسة الواضحة للهيئة اليوم، حيث لم تسعى الفصائل لتأجير المحلات والمنازل والاستفادة منها ماديّاً كما فعلت الهيئة التي اعتبرت فيما بعد كل أملاك المسيحيين الغائبين غنائم يحق للمجاهدين الاستفادة منها حتى يعود أصحابها.
من جانبها قالت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في تقريرها المشار إليه سابقاً إن عائدات هيئة تحرير الشام من إيجار المنازل في مدينة إدلب وحدها قد تجاوز 70 ألف دولار، وهو رقم قد تضاعف لمرّات بعد زيادة عدد البيوت التي استولت عليها الهيئة منذ 2019 إلى اليوم إضافة إلى رفعها لقيمة الإيجارات إلى الضعف بحسب مصادر فوكس حلب من داخل المدينة، إذ وصل إيجار بعض المنازل إلى أزيد من مئة دولار وخمسين في الحد الأدنى، أما المحلّات يتراوح إيجارها بين 200 و400 دولار.
وإن افترضنا أن الهيئة أجرت المنازل والمحلّات التي صادرتها وبأدنى سعر ، فإنها ستكسب سنوياً نحو 300 ألف من البيوت، و120 ألف دولار من المحلّات، هذا ما عدا المحاصيل والتي أغلبها من الزيتون والمجنيّة من آلاف الدونمات التي تعود لمسيحيين.
يتولّى المكتب العقاري تأجير وإسكان العائلات في المنازل المصادرة، جميعها تحمل أرقاماً تسلسلية باللون الأزرق على جدرانها، وتدفع مبالغ الإيجار للمكتب كل ثلاثة أشهر، ويتفاوت سعر الإيجار حسب طبيعة المستأجر وعمله بالإضافة إلى مساحة المنزل وموقعه، فعلى سبيل المثال يدفع مقاتلي الهيئة مبالغ “رمزية” مثل 50 ليرة تركية في الشهر، في حين تؤجّر بعض المنازل للمقاتلين المهاجرين من غير صفوف الهيئة أو لنازحين بمبالغ تصل إلى 500 ليرة تركيّة، وهي الطريقة ذاتها التي يتبعها المكتب الاقتصادي في منازل المناوئين، بينما تذهب عائدات إيجار المحلّات التي ترقّم تسلسليّاً باللون الأسود إلى المجلس المحلى التابع لحكومة الإنقاذ، وذلك لقاء الخدمات التي يقدّمها للسكّان، مع العلم أن المكتب العقاري كان في الأعوام السابقة مسؤولاً عن تأجيرها.
يقول وسام، وهو مسيحي مقيم في القنيّة، إنّ المكتب الزراعي قد سعى هذه السنة للاستفادة القصوى من الأراضي الزراعية، فعلى الرغم من قلّة أراضي السليخ فقد استعملت أراضي الزيتون لزرع الجلبان من قبل الهيئة نفسها ومن قبل مزارعين مستأجرين، أما المواسم وأهمها الزيتون فأغلبها تجنى من قبل المكتب الزراعي وقسم منها يخضع للاستثمار”الضمان السنوي”، وكل هذا يجري عبر لجان زراعية تحدد قيمة الإيجار ومبلغ الاستثمار وتحدد ما ستجنيه الهيئة وما سيضمّن.
يروي وسام ان المكتب الزراعي لديه كل سنة خطة مختلفة لاستثمار الأراضي، فهو لا ينتهج نمطاً معيّناً، يخبرنا أنه في عام 2018 وما قبله كانت غالبية الأراضي تخضع لنظام الضمان، لكن الهيئة غيرت سياستها بعد أن رأت أن قسم كبير من الضمّانين يقومون بقطع الأشجار بعد القطاف للاستفادة من حطبها، ما دفعهم لتضمينها لأقارب الغائبين المسيحيين وإعطائهم الأولوية ومساحات وصلت إلى مئة دونم لكل شخص، في وقتٍ كثرت فيه التقارير الإعلامية والتوصيات والمناشدات التي تطالب بإعادة عقارات المسيحيين وكف يد الهيئة عنها.
يقول وسام إن شروط الضمان كانت مجحفة جدّاً، إذ اشترطت اللجان حصول المزارع على نسبة 40%، وعليه أن يدفع أجور العمال و وتكلفة حراثة الأرض وتقليمها بعد موسم القطاف وعنايتها مثل وضع الأسمدة ورش المبيدات، مقابل حصول المكتب الزراعي على نسبة 60%، لافتاً أن هذا طبّق فقط في عامي 2019 و2020، أما السنة الماضية وهذه السنة تفرّدت الهيئة بجني معظم المحاصيل وضمّنت قسم منها لأشخاص مقرّبين منها ومحسوبين عليها أو موالين لها.
أمام هذا الواقع يروي وسام كيف أن عشرات المسيحيين في قريته ممن بقوا باتوا يتمنون أن يكونوا مستأجرين لأملاك ذويهم بعد حرمانهم منها، ما عزز مخاوفهم بنزع الملكية منهم على المدى الطويل خاصة أن القنية مثلاً لا يوجد بها أكثر من ستين نسمة ومعظمهم من كبار السن، يسمح لهم بالانتفاع من عقاراتهم ويمنع عليهم بيعها أو توريثها.
يخبرنا من تحدّثنا معهم أنه قبل كل موسم (زيتون، محلب، كرز، مشمش، تين)يخرج موظفو المكتب الاقتصادي في أريحا إلى قرى جبل الزاوية التابعة إدارياً لأريحا حتى قبل الثورة، بمرافقة أمير الاقتصادية في كل قرية، يبدؤون بإحصاء الأراضي وتقييم مواسمها، وعلى هذا الأساس ينتقون ما ستجنيه الهيئة بنفسها أو ما سيذهب للضمان.
عودة عسيرة مع وقف التوريث
مع نهاية شهر أيار الفائت، اكتملت عشر سنوات عدّها أبو أحمد(اسم مستعار) بعيداً عن بيته في جبل الزاوية في ريف إدلب، حاله يختلف عن بقية السوريين الذين هجروا منازلهم إلى مناطق أخرى داخل سورية، أو اختاروا السفر خارجها، على أمل أن يعودوا إليها مع انتهاء الحرب وتوقف المعارك، إذ تسيطر الآن هيئة تحرير الشام على منزله، حارمة إياه من بيعه أو التصرّف به كما يشاء.
بدأت القصة في أيار 2012، وقتها حصل خلاف بين أحد أخوة ابو أحمد مع فصيل جبهة شهداء سورية في الجيش الحر، والتي كان يقودها جمال معروف آنذاك، نتيجة إيقاف شقيقه على الحاجز وطلب هويته في قريته، فما كان منه إلا أن يقيم حاجزاً أمام بيته اعتراضاً على ممارسات الفصيل.
اعتبر جمال معروف ما حصل تحدّياً للجيش الحر والثورة بأكملها، سريعاً توجه ليلاً مع مجموعة مسلحة أنهت حياة شقيق أبو أحمد، فيما لاذ الأخير بالفرار قبل اقتحام بيته المجاور لبيت شقيقه.
كانت التهمة الموجّهة لأبو أحمد أنه العقل المدبّر لما فعل أخوه، وعليه صودر منزله ومنزل شقيقه، ومنع أولادهما من الاقتراب من المنازل، كما صودرت الأراضي الزراعية التي تعود لمعظم أفراد العائلة.
مع نهاية عام 2014 أفرزت الحرب الدائرة بين جبهة ثوار سورية وجبهة النصرة(هيئة تحرير الشام الآن)، سيطرة الأخيرة على عموم جبل الزاوية ومن ضمنه قرية أبو أحمد الذي وجد أن الفرصة باتت سانحة لاستعادة أملاكه وأملاك أخيه المتوفى.
اعتقد أبو أحمد أن عملية إزاحة جمال معروف ستعيد إليه ولورثة أخيه أملاكهم، تواصل مع جبهة النصرة عبر عدة وسطاء من أهل القرية ومن مقربين من النصرة مستفيداً من العداء المشترك لجمال معروف، إلا أنّ أمير النصرة في قريته قال إنه سينظر في وضعه وإن كان لديه حق سيستعيده.
يقول ” تفاجأت حين أخبروني أن الجبهة قد أسكنت عائلتين من المقاتلين المهاجرين في منزلي ومنزل أخي منتصف 2015، بالإضافة إلى وضع يدهم على أراضينا وإخبارنا أنها أصبحت من الغنائم حتى تثبت براءتنا”.
على الرغم من مرور وقت طويل على مصادرة منزل أبو أحمد، وخلوه بعد نزوح أغلب أهالي قريته إلى مخيمات الشمال إثر الحملة العسكرية الأخيرة للنظام على إدلب مطلع 2020، إلا أن منزله بقي تحت تصرف هيئة تحرير الشام باستعماله كمستودع ومؤخراً مقراً لهم، ومنع أبناء أخيه من إرث أبيهم المتوفّى،ومنذ بضعة أشهر كان آخر ما وصل لأبو أحمد من الهيئة، بطريقة غير مباشرة، أن عملية استعادة منزله يمر من بوّابة حكومة الإنقاذ، وأن الهيئة لم يعد لها شأن بحجز الملكية واستردادها.
يقول موسى بالإضافة إلى أحد المحامين في إدلب إنّ خيارات استرداد الملكية تشترط العودة إلى الشمال المحرر والخضوع لمحاكمة، إمّا تبرّئ المتّهم وتعيد له ملكيته أو تدينه وتحكم عليه ثم تعاد له ملكيته بعد تنفيذ الحكم، فعلى سبيل المثال لا يكفي أن يقوم أبو علي الذي ذكرناه سابقاً بتطليق ابنته من زوجها العسكري ليستعيد أملاكه أو حرية التصرف بها، إنما عليه المجيء والخضوع لمحاكمة، وهذا ينطبق على الموظفين والمدنيّين، أما المقاتلين مع النظام فقد صودرت أملاكهم إلى الأبد ولا يحق لأبنائهم أن يرثوها.
وسام هو اسم مستعار لرجل ستيني من أهالي قرية القنيّة، يقول إنه إضافة إلى سبعة أشخاص قد تمكنوا من استعادة عقاراتهم التي استولت عليها الهيئة، إذ شكّل تواجده في مدينة حلب بحكم وظيفته (في شركة خاصة)فرصة سانحة لوضع اليد على محلّه الذي كتبت عليه عبارة جبهة النصرة بالإضافة لأراضيه الزراعيّة، مع الإبقاء على منزله لتردّده عليه في فصل الصيف، والذي صودر لاحقاً بعد تقاعد وسام وغيابه مدة سنة كاملة عن القرية.
اختار وسام أن يعود للإقامة في قريته في 2019 ليقضي فيها بقية عمره ليستعيد أملاكه وأملاك أخوته الخمسة، يقول إن الإقامة الدائمة وسندات إثبات الملكية هي الشرط الأساسي لاستعادة العقار، فضلاً عن حضور عدة جلسات في محكمة جسر الشغور و تحقيقات أمنيّة ودراسات مطوّلة عن صاحب الملكية قد تمتد لستة أشهر بالنسبة للقادمين من مناطق النظام.
وفقاً لوسام يحرم المسيحيون، الغائبون والمقيمون، من التصرّف بأملاكهم بالبيع أو الشراء وحتى التوريث، كما لا يسمح للغائبين منهم لإجراء وكالات لأقربائهم داخل القرى لإدارة أملاكهم والانتفاع منها، خاصة أن الهيئة ولاحقاً حكومة الإنقاذ قد ألغيا كل الوكالات القديمة واعتبروها باطلة، في حين سمحوا لهم بعد عام 2018 باسترداد عقاراتهم شرط الإقامة الدائمة في القرى.
جوزيف شاب مسيحي ينحدر من قرية الجديدة في ريف جسر الشغور ومقيم في بيروت، يروي لفوكس حلب أن الهيئة منعت والدته من الدخول إلى أراضي والده بعد وفاته منتصف 2018، إذ أخبروها أن أملاك المتوفّى قد أصبحت قيد الأمانة وتحت تصرّف المجاهدين، وستأخذ حصتها وفقاً للشريعة الإسلامية كزوجة، أي ثمن مساحات الأراضي، إلا أنها من أصل نحو 80 دونم أعطيت ما يقارب 4 دونمات فقط، يؤكد جوزيف أن والده قد تعثر قبل وفاته ببيع املاكه أو جزء منها، لأجل اللحاق بأولاده إلى أوروبا والعيش معهم، لكن الهيئة كانت تنتهج سياسة “وضع العصي في العجلات” إذ لا أحد سيشتري طالما أن الشاري لن يستطيع تثبيت ملكيته في السجل العقاري.
مسؤول في هيئة تحرير الشام أكد لفوكس حلب أنه لا أحد يحرم المسيحي او أي شخص في الشمال المحرر من التصرف بملكيته، طالما يمتلك ما يثبت ذلك، ولم يتعامل أو يشبّح مع النظام، وسأل”من سيمنعه، هذا ملكه الخاص ولا يحق لأحد منعه أو التعرّض له؟”.
لأجل ذلك تواصلت فوكس حلب مع المديرية العامة للمصالح العقارية في إدلب، والتي نشرت انفوغرافاً يوضح أعمالها المنجزة في عام 2021، منها 15809 عقد نقل ملكيّة، لتبيان وضع عقارات المسيحيين في إدلب وقرى ريف جسر الشغور، وما حصل عليها من تعديلات سواء بنقل الملكية أو بمعاملات حصر الإرث طوال السنوات الماضية، لكن المديرية رفضت التصريح قبل الحصول على إذن من مديرية الإعلام في حكومة الإنقاذ وهذا ما ننتظره إلى آن.
وانطلاقاً من الأسئلة التي وضعناها في تحقيقنا وحاولنا العثور على إجابات لها من خلال حديثنا إلى مصادرنا الخاصة وبحثنا في المصادر المفتوحة، يمنح فوكس حلب الجهات ذات الصلة حق الرد المفتوح بعد النشر، والالتزام أصولاً بنشره والرد عليه وفق الأصول المهنية المتبعة.