تقول الطُرفة القديمة إن رجلاً من مدينة كفرنبل رزق بمولودٍ بعد أربع بنات، وعندما سئل عن جنس طفله قال إنه “شرطي”. وتقول طرفة أخرى إن طبيباً من بلدة مجاورة أراد الزواج بفتاة من كفرنبل وبعد تقديم نفسه لعائلتها قاطعه أبوها: “يعني في المختصر اشقد بدك حتى تصير شرطي”.
ارتبطت تلك الطرائف بالشريحة الأوسع من سكان كفرنبل، مدينة في ريف إدلب الجنوبي تتبع معرة النعمان إدارياً، ورغم عدم توفر إحصائيات دقيقة عن عدد رجال شرطتها، إلا أن عدد السكان يتضاعف خلال الصيف، إذ يعود رجال الشرطة، أبناء كفرنبل، من المحافظات التي يعملون بها، رفقة عوائلهم، ليقضوا الإجازة الصيفية.
بعد عقد من انشقاقه عن سلك الشرطة يحكي أحمد الخطيب، 58 عاماً، عن مهنته القديمة، وهو يجلس بورشة الحدادة التي يعمل بها. يقول ضاحكاً: “طلع منا الفات واللي مات بعد ما تركنا الشرطة، ما ضل كار إلا دخلنا عليه واشتغلنا فيه و فشلنا فيه”.
التحق الخطيب بسلك الشرطة بعد فشله في إتمام دراسته، وأمضى فيه أكثر من 28 سنة، وقبل أشهر من إنهاء خدمته، قدّم طلب تقاعد بهدف الحصول على تعويض نهاية خدمة وراتب تقاعد، ليستطيع تأسيس مشروع يناسب تقدمه في السن.
لم يكتب للخطيب نيل ما أراد، فقد اضطر لترك خدمته عام 2012 بعد توقيفه مرات عدة من قبل حواجز قوات النظام المنتشرة على طريق حلب، بسبب انتمائه إلى كفرنبل، التي تم تحريرها في آب من العام ذاته، ليلتحق قبل عامين بورشة حدادة يملكها أحد أقربائه.
حسن العثمان، وهو رجل أربعيني من البلدة ذاتها، انضم بدوره إلى سلك الشرطة عام 2000 بعد دورة “تطوع” أجبره والداه على الالتحاق بها، رغم رغبته في متابعة دراسته ودخول مجال التعليم.
يتذكر حسن العبارة التي كانت ترددها والدته باستمرار: “يا ابني على إيش متردد! ليك العالم ما صار إلها سنة في الشرطة عمرت، وأمورها صارت فوق الريح، وأنت بدك تصير أستاذ!”. بهذا الطموح باع الوالدان شاة مملوكة للعائلة، ليقدما بثمنها هدايا لمسؤولين، حرصاً على قبوله وتعيينه في مركز حيوي.
لم تكن تلك العقلية تقتصر على أم حسن فقط، ففي تلك الفترة كانت شريحة واسعة من أهالي كفرنبل تؤيد الالتحاق بسلك الشرطة دون الوظائف الأخرى، لسهولة إجراءات الانضمام، مقارنة بغيرها من المهن التي تتطلب الحصول على شهادة جامعية، وتخضع متقدميها لاختبارات مختلفة عند تعيينهم.
توقفت خدمة حسن في حلب مطلع عام 2012، بعد 12 سنة من العمل، تنقل خلاله بين مناصب عدة في سلك الشرطة، ليعود أدراجه الى بلدته كفرنبل معلناً انشقاقه عن الخدمة.
يتحدث عمار الإسماعيل، وهو مساعد قديم، وأب لثلاثة أولاد ينتمون جميعاً إلى دائرة الشرطة، عن سر اهتمام أغلبية شباب كفرنبل بالانضمام إلى سلك الشرطة، فيقول: “كثير من العائلات كانت تعيش بمصدر دخل محدود، ومستواهم المعيشي بسيط، كل هذا جعلهم يرون في الانتساب للشرطة وسيلة لتغيير وضعهم الاجتماعي، بالإضافة لقلة مصادر الرزق في البلدة، وعدم وجود وظائف متنوعة ومستقرة، بالإضافة إلى سهولة الالتحاق بها”.
يضاف لتلك الأسباب وجود بعض الأشخاص من ذوي النفوذ والرتب الرفيعة بكلية الشرطة، استطاعوا مساعدة أبناء كفرنبل، وتعيينهم في مراكز حيوية.
سنوات الانشقاق عن الشرطة في كفرنبل
انشق كثر من كفر نبل عن الشرطة بين عامي 2011 -2012، إما طواعيةً، أو تحت التهديد، خشية إجبارهم على دفع بدل مالي إذا ما أُلقي القبض عليهم أثناء توجههم أو عودتهم من الخدمة، من قبل الفصائل التي سيطرت على الطرقات خلال تلك الفترة، ونشرت الحواجز في كل مكان.
كان أحد الشرطيين الذين أُكرهوا على الانشقاق عن الشرطة، بعد توقيفه أثناء ذهابه لعمله في مخفر حيش، بريف معرة النعمان، على أحد الحواجز التابعة لجبهة ثوار سوريا، ثم أُفرج عنه مقابل فدية مالية، بعد تصويره بالفيديو رفقة عدد من زملائه بالشرطة وهم يعلنون انشقاقهم عن شرطة النظام.
أبناء كفرنبل في عهد “الشرطة الحرة”
في السنوات التالية للثورة السورية، توالت انشقاقات عناصر الشرطة في كفرنبل وعموم محافظة إدلب، غاب الأمن عن المناطق المحررة، فالتحق حسن وعدد من زملائه المنشقين بجهاز شرطة جديد سموه “الشرطة الحرة” تم تشكيله مطلع عام 2013.
تشكّل جهاز الشرطة الجديد من عناصر شرطة وضباط منشقين عن النظام، بهدف الحفاظ على أمن المناطق المحررة والحد من الفوضى، لكن لم يكتب له الاستمرار، ففي بداية عام 2015 دوهم مركز الشرطة الحرة في مدينة كفرنبل واعتقل جميع العناصر الموجودة بالمخفر لمدة ساعتين، وصودرت المعدات، ثم صدر قرار بإنهاء عمل الشرطة الحرة في نطاق المناطق الخاضعة لسيطرة “جبهة النصرة” سابقاً.
جاء قرار جبهة النصرة بإيقاف جهاز الشرطة الحرة بحجة عدم فاعليته، وعدم كشفه لملابسات تفجير استهدف سيارة قيادي بالنصرة، بحسب ناشطين.
لم يتوقف القرار عند مخفر كفرنبل فحسب، وإنما شمل جميع المخافر التابعة للشرطة الحرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة جبهة النصرة حينها، بما فيها أقسام شرطة كفر سجنة ومدينة خان شيخون.
منهجية مختلفة مع الشرطة الإسلامية
بعد تسريحه من الشرطة الحرة، تنقل حسن بين عدد من المهن ولم يفلح بواحدة منها، بحسب تعبيره، حتى نهاية عام 2017، عندما عاد إلى خدمته في سلك الشرطة الذي أسسته حكومة الإنقاذ.
بزي مختلف وحلة جديدة وأنظمة مغايرة، تظهر الشرطة اليوم بعد 11 سنة من انطلاقة الثورة السورية تحت مسمى “الشرطة الإسلامية”، وقد غابت عنها الإغراءات التي كانت تجذب المتطوعين السابقين.
دراسة أمنية عن خلفية المنتسب، وتزكية من أحد المعنيين، ودورة شرعية، هي أبرز شروط الانتساب إلى الشرطة الإسلامية، ترافقها مجموعة من المعايير الشخصية مثل عدم التدخين والحفاظ على اللحية.
التحق حسن بالشرطة الإسلامية التابعة لوزارة الداخلية مطلع عام 2018 الذي يعتبر تاريخ تشكل الشرطة الإسلامية، عن طريق دورة للوافدين، مخصصة للعناصر الذين انشقوا عن نظام الأسد.
ثمان قيادات للشرطة تتبع وزارة الداخلية بالإضافة للإدارة المركزية، وتتبع وحدات شرطية لكل قيادة من تلك القيادات، بحسب أحمد الخضر، مدير العلاقات العامة في وزارة الداخلية.
ينتسب إلى الشرطة الإسلامية، بعد الخضوع للدورة، يفرز بعدها العناصر على تلك القيادات، بالإضافة لدورة شرعية لمدة شهر واحد، يخضع لها العناصر قبيل تعيينهم، ويتم خلالها تدريس المنتسبين أصول الفقه والعقيدة الإسلامية.
يقول أحمد الخضر، مدير العلاقات العامة في وزارة الداخلية: “بلغ عدد الدورات سبع دورات عناصر، وست دورات صف ضابط وافدين، وخمس دورات صف ضباط مسلكية بالنسبة للعاملين ضمن وحدات الشرطة الإسلامية، تتم داخل الوحدات الشرطية ريثما يتم تفعيل كلية الشرطة”.
نفس الوظيفة لكن كل شيء مختلف
أحد عشر سنة تفصل بين عمل ياسين كشرطي مرور على دوار الليرمون، وبين عمله في نفس الوظيفة على مفرق حزانو بريف إدلب، المهمة ذاتها في تنظيم المرور وحركة السير، لكن الاختلاف حاضر في المكان وفي تفاصيل العمل، بل وحتى في المسميات، حيث تغيب كلمة “سيدي” وتحضر كلمة “أمير” أو “شيخ”.
بعد 15 سنة أمضاها في خدمته السابقة، استطاع ياسين تكوين نفسه وبناء منزل في البلدة التي نزح منها قبل عامين، لينتهي به المطاف في خيمة بمخيمات دير حسان.
يقول ياسين إنه يقوم بالعمل نفسه مع اختلاف تفاصيل الدخل، يوضح: “سابقاً كان الدخل أفضل، وكنا نعوض انخفاض الراتب بشوية مخالفات، حاليا الراتب ما بكفي أسبوع وما عم نسترجي نخالف حدا”.
مصير الشرطة ومدينة
تغيّرت أحوال كفرنبل في السنوات الأخيرة، وكذلك تغيّرت أحوال شرطتها. في استطلاع أجريناه مع شرطيين سابقين وحاليين من أبناء كفرنبل، قال ثلاثة منهم إنهم ما زالوا يعملون في سلك الشرطة في مناطق إدلب وريف حلب الشمالي، وفي حراسة مستودعات تابعة للمنظمات، وحراسة مجالس محلية (حرس بلدات).
وبعيداً عن سلك الشرطة، يعمل سبعة من الشرطيين السابقين في مهن مختلفة، بينما انضم اثنا عشر منهم، أغلبهم كانوا موشكين على التقاعد، إلى قائمة العاطلين عن العمل، واثنان غادرا سوريا.
اليوم وبعد أكثر من عقد على انطلاقة الثورة السورية، تغيب الطُرَف القديمة عن أبناء كفرنبل الذين يمتهنون الشرطة، ويسارعون إلى الالتحاق بسلكها بدوافع مختلفة، بعدما تبعثروا بين مستقيلٍ ومنشقٍ، وبين العاطلين عن العمل، ومن وجدوا عملاً مختلفاً، كما اختلف كل شيء آخر في حياتهم.