حين سرّبت صور، قيصر، بحثت في وجوه القليل من الشهداء، علّي استدلّ على صورة لأخي بينها، في كل مرة كنت أتوقف وأغلق الجهاز ليقيني أنه لن يكون هناك، فاعتقاله جاء بعد زمن تصويرها.
في فيديو مجزرة التضامن بحثت عنه، رغم يقيني أيضاً أنه لن يكون بينها، ذلك أنها حدثت بعد سنتين وفي مكان يبعد مئات الكيلو مترات عن وقت ومكان اعتقاله.
الصور الجديدة لمعتقلين سرّبت صورهم خلال الأيام الماضية بعد قرار العفو عنهم كانت أقرب الاحتمالات لظهوره بينها، لكني لم أستطع متابعتها والتدقيق فيها.
صباح اليوم كانت غرف تلغرام تنقل صوراً لمعتقلين من مدينة حلب في صالة داخل مبنى المحافظة، صالة وثيرة من الخشب المحفور بمقاعد حمراء اللون، على جدرانها ثلاثة أعلام حشر داخلها المعتقلون مع أشخاص وصفهم الخبر بالوجهاء والوحدات الإدارية التي ستتولى استلام المعتقلين وإيصالهم إلى ذويهم.
هذه المرّة دققت في الصور، رغم يقيني أن أخي ليس بينهم، فقيد نفوسه يعود إلى مدينة إدلب التي لم يسكنها يوماً. قبل ذلك بيوم انتشرت صور لمعتقلين داخل مبنى محافظة دمشق، أو في قاعة من محاكمها، بحسب سيل الأخبار المتدفق، والذي لا يتيح لك الفرصة للتأكد، الحقيقة الوحيدة أنهم معتقلون، تلك الحقيقة تأخذ مصداقيتها من الوجوه والأيدي التي لم تقوَ على النهوض والارتفاع أكثر من سنتيمترات قليلة لتهتف للسجّان رغماً عن أنوفها.
في البداية يبدأ البحث من خلال الأسماء، تقف عند كل اسم باسمه، تعيد الكرة باستخدام الحرف الأبجدي الأول، ثم الاسم الأول، الكنية، اسم الأم، المحافظة، تاريخ الميلاد، تقلب الهاتف بيدك، وتعيد من جديد البحث في الأسماء ذاتها، في مواقع أخرى، تنتبه أنك مررت بهذه الأسماء سابقاً، لكن ذلك لا يوقفك خوفاً أن تكون أهملت اسماً في عملية البحث.
تتفلت الأسماء منك، تحاول حفظها بعد مرات عديدة، تفشل في ذلك، فتختار اسماً لافتاً تحفظ تفاصيله، لكن، هذه المرة أيضاً، تعيد قراءة الأسماء من جديد.
يخبرك أشخاص في فيسبوك عن عدم صدق هذه الأخبار، أسماء قديمة وأخرى حديثة، يطلبون التحرّي والدقة، تحاول حذف من لا تثق بصدق أخباره، لكن يدك لا تطاوعك، ويزيد في كل عملية بحث مجموعة أو قناة أو حساباً آخر إلى المفضلات في جهازك.
ثلاثة هواتف وجهاز محمول على الطاولة، جميعها ترن في الوقت ذاته مع كل إشعار، لتبدأ رحلة البحث في كل منها في الإشعارات والأسماء والصور ذاتها.
تقف، تتجول في الغرفة، تدخّن، تصنع لنفسك أكواباً كبيرة من القهوة، تجلس، تحاول التوقف عن الانتظار، لكن دون جدوى.
أربعة أيام مرّت دون أن نستطيع النوم، كل إشعار بات بمثابة منبه، نبهتني زوجتي إلى وقوفي على قدمي عند كل إشعار، مسكت يدي لأجلس لكن عظام مفاصلي لم تساعدني على ذلك.
لم أكن أدرك أني مررت بالصور ودققت فيها لولا أنها شاركتني دقائق النوم القليلة التي غابت فيها الإشعارات، تجوّلت في نومي بين الصور، رأيتها جميعها، هذه المرة لم يكن بإمكاني التوقف، كان الأمر أكبر من قدرتي على الهرب، وجوه مرهقة بملامح بعيدة، ذهول من لم ير النور منذ سنوات، خوف من لم يصدق أنه يوماً سيعود للحياة، وجوه عائدة من الموت، النجاة هي الكلمة الوحيدة التي رافقتني خلال دقائق الحلم، عانقتهم جميعاً دون خوف، لمست وجوههم الصفراء، وضعت يدي على برفق على أكتافهم، خفت أن ألمس فيهم مكان ندبة فيصرخون من جديد.
بين الوجوه لم أجد صورة أخي، حاولت مراراً أن أعيد تشكيل وجهه في ذاكرتي، كل ما أحمله له في خيالي صورته بشعر أقرب إلى الأشقر، يسرحه إلى الخلف، وشاربين شقراوين خفيفين، عيون بنية، أنف متوسط الحجم، وجه مستدير ممتلئ، قامة قصيرة، ووفرة في الصحة. أصابع يديه قصيرة، على أظافرها بقايا بقع سوداء اللون اكتسبها من عمله.
حاولت أن ألعب بالصورة، بحكم الزمن ومحاكاة لوجوه أخرى رأيتها بين قبل وبعد، افترضت أن لا يزيد الوزن عن أربعين كيلو غراماً، شعر حليق (ع الصفر) مرّة، ومرات بتدرج طول الشعر، استبدلت لون الوجه الأبيض والوجنتين المكتنزتين بلون أصفر وبوجنة غائرة)، نسيت أن أخبركم عن أسنانه الصفراء بفعل الدخان، افترضت أن لونهما تحوّل إلى الأبيض، راودتني فكرة أخرى أنه فقد أسنانه، حلقت شاربيه مرة، وتركتهما مرات أخرى، ذقنه أيضاً، جميع تلك المحاولات أفقدتني القدرة على معرفته.
ركنت لفكرة أنه يحفظ الأرقام، كان عمله في الحياة أن يحفظ أرقام الهواتف، جميع هواتفنا تغيرت في السنوات الثمان الماضية لاعتقاله، هاتف بيتنا الأرضي في حلب، هواتفنا المحمولة، هواتف أصدقاؤه، ثم ارتعدت من فكرة أن يكون قد فقد ذاكرته.
ذاكرتنا جميعاً تغيرت، الأماكن التي كنا نقصدها، بيوتنا المدمرة التي تركناها، حياتنا الجديدة في المنافي وأراض النزوح واللجوء، أشكالنا، عدد أفراد أسرتنا، موتنا ومهنتنا، انتماءاتنا السياسية، بائعو الخضار والفاكهة، صاحب الدكان، القصاب، الخضرجي، كنت سأتوه لو عدت أنا إلى المدينة التي عشت تفاصيلها وأعيشها كل يوم، ما الذي سيجده معتقل بعد سنوات من حياته داخل زنزانة بلا ضوء حين سيخرج إلى شوارع لم يعد يألفها.
قالت لي أمي يوماً أن لا علامات فارقة لأخي، سرّاً لمتها لأنها لم تلده بوحمة على الوجه أو القدمين، كنت سأعرفه حينها.
كان أخي، خفيف الظل، تشترى جلسته، إن أتيح لي الكلام معه سأعرفه من ضحكته، إن بقي له قلب لذلك، لكن سريعاً طردت الفكرة من رأسي، أنا الذي أبعد آلاف الكيلو مترات عن مكانه، وعرفت من وجوه المعتقلين أن خفة الظل غادرتهم مع أول يوم من خوفهم الأبدي.
مرة أخرى، أخبرتني زوجتي أني أبحث عنه في المدينة الخاطئة، عليّ أن أبحث في إدلب إذن، حيث لا وجهاء ولا إدارات نظام ستلتقيهم، شعرت بالفرح لذلك، قلت في نفسي سيخفف عنهم جلسة تعذيب أخرى تحت صورة الجلاد محشورين داخل الأعلام والوجهاء، يصرخون بصوتهم الذي نسوا نبرته، بالروح بالدم نفديك..
تحت جسر الرئيس في دمشق، كتب صحفي عن امرأة تتفحص وجوه جميع الأشخاص في المكان، كان وجهه أحدها، بحثاً عن ولدها المعتقل، وضعت رأسي على الطاولة وأنا أقرأ ما كتبه، قاس أن يتوه دليل الأمهات بمعرفة أطفالهن من رائحتهم ودمائهم.