“حتى الحدائق استكتروها علينا” تحمل هذه الكلمة غصة لسكان مدينة حلب، يُعبّر من خلالها أبو فارس، من أهالي حي الجميلية وسط مدينة حلب، عن الحالة المزرية للحدائق في ظل عدم اهتمام النظام السوري بتقديم الخدمات لها، والتي لم تعد ضمن أولوياته رغم أنها المتنفس الوحيد للأهالي.
في مدينة حلب حدائق كثيرة وواسعة، لعلّ أبرزها الحديقة العامة والسبيل، التي يملك كل الحلبيون ذكرياتٍ جميلة فيهما على مرّ عقودٍ من الزمن، خاصةً أن الحديقتين تعتبران من أكبر وأقدم حدائق حلب، لكنّ الذكريات باتت ملطخةً بواقعٍ سيء، وسط انتشار القمامة والروائح الكريهة والانحلال الأخلاقي التي تفاقمت في الحدائق، ما دفع كثير من الأهالي للعزوف عن ارتيادها.
حديقة السبيل بين الماضي والحاضر
حديقة السبيل واحدةً من أهم حدائق حلب من حيث المساحة والجمال، يزيد عمرها عن 120 سنة، وتتميز بكثافة الأشجار والأزهار والمروج الخضراء فيها، إلى جانب المظلة الحجرية، وما يسمى “تم السبع” المصنوع من الحجر الأصفر المنحوت، وتتدفق منه المياه لتتجمع في جرنٍ حجري.
يتحسر أبو فارس على الحال الذي وصلت إليه حديقة السبيل، قائلاً: “أجمل ما كان يميز الحديقة هي الحيوانات الموجودة فيها، لكن خلال الفترة الأخيرة زاد الإهمال بشكلٍ كبير، فلم نعد نرى الموظف الذي كان يتواجد في الحديقة لرعاية تلك الحيوانات، ما تسبب في نفوق العديد منها، وانتشار الأمراض والأوساخ والروائح الكريهة داخل الأقفاص”.
يوجد في حديقة السبيل حالياً “القرد سعيد”، الذي يحمل ذكرياتٍ كثيرة لدى الحلبيين، حيث كان رفقة “القردة سعيدة” يمنحان جواً من المرح لمرتادي الحديقة، لكن القردة نفقت قبل 16 سنة، وبقي “القرد سعيد” وحيداً حتى اليوم، حيث بلغ عمره 37 عاماً.
يضيف “أبو فارس لفوكس حلب”: “القفص الذي كان يؤوي عشرات أنواع الحمام والبط، وُضعت مكانه عدة قطط مع كلب، وهذا أمر مفزع حيث تحصل مناوشات مستمرة بين القطط والكلب، ما تسبّب في نفوق عدة قطط صغيرة، بعضها بقيت جثثها مرميةً في القفص لعدة أيام، وروائحها تملأ أرجاء المكان”.
وانتشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الإجتماعي في أيلول الماضي، يُظهر كلباً ينهش جسد قطة صغيرة، دون تدخل أحدٍ من المشرفين على الحديقة، ما دفع كثيراً من سكان حلب لإطلاق عدة هاشتاغات تحت وسم (أين_مجلس_المدينة، مسلخ_السبيل_بحلب، أغلقوا_قفص_السبيل، برسم_من_له_ضمير).
أحد المواقع الموالية نشر تقريراً عن واقع الحيوانات في حديقة السبيل تحت عنوان، “غوانتنامو حديقة السبيل بحلب.. أرواح تتعذب وجثث تتفسخ”، وورد في التقرير “في كل مرة نتوجه بالشكوى، يتم تكذيبنا عبر قيام المشرفين بتصوير فيديو معاكس، عبر إزالة جثث القطط الميتة وجلب قطط منزلية بيضاء جديدة وتقديم أشهى أنواع المأكولات لها أمام الكاميرات! لكن ذلك يبقى لأيامٍ قليلة فقط ، ومن ثم تعود حليمة لعادتها القديمة!”.
(تم السبع) الذي كان من المعالم المميزة في الحديقة، انقطعت المياه عنه منذ زمن، والجرن الذي كانت تصبّ فيه المياه كالشلال، تحوّل الى مكبٍ للنفايات، أما المظلة الحجرية التي كانت الفرق الموسيقية تعزف الأغاني والأناشيد تحت سقفها، أصبحت مكاناً يقف فيه المتسولون أو المتسكعون الذين يشربون الدخان والمشروبات الكحولية”.
كذلك يشتكي السكان من ندرة الكراسي في حديقة السبيل، فبعضها تعرّض للسرقة أو التكسير، والكثير من الكراسي ليس لها مساند خلفية، وبالتالي يعتبر الجلوس عليها غير مريح أبداً خاصةً لكبار السن.
أبو فارس عبّر عن استيائه من انتشار القمامة في حديقة السبيل قائلاً “هناك نقص في حاويات القمامة، بسبب سرقتها وبيعها كخردة أو تلفها، كما أن الحاويات الموجودة أغلبها ممتلئة بالأوساخ، نتيجة تأخر ترحيل النفايات من قبل عمال البلدية، ما يضطر البعض لحرق الحاويات لتفريغها من القمامة، ما يُسبّب حالات اختناق وضيق تنفسٍ للأهالي”.
نائب رئيس “مجلس مدينة حلب”، أحمد رحماني، زعم لوسائل إعلام موالية، أن المجلس ليس لديه القدرة على الاهتمام بحدائق حلب، بسبب عدم القدرة على دفع مبالغ مالية غير مترتبة عليهم دفعها الآن، كإنشاء الألعاب إلى جانب عدم توفر آليات العمل بشكلٍ دائم في الحدائق.
حدائق صحراوية
كانت تمتاز حدائق حلب بالأشجار الباسقة وشجيرات الزهور التي تشكل مع مروجها الخضراء لوحةً فنية رائعة، لكن أغلب تلك المساحات الخضراء أصبحت أشبه بالصحارى، في ظل عدم اهتمام المجلس البلدي في حلب بتلك الحدائق، وعدم سقايتها ورعايتها وإجراء الصيانة اللازمة لها.
يقول أبو أسعد من أهالي حي الخالدية بحلب لفوكس حلب: “أجمل ما في الحدائق هي المروج الخضراء والأشجار الكثيفة، لكن ذلك لم يعد موجوداً في أغلب حدائق حلب، فحديقة نور الدين الزنكي الموجودة بجانب بيتي، تحوّلت إلى شبه صحراء، فليس فيها سوى بعض الشجيرات، بينما الأرض مفروشة فقط بالتراب، والأوساخ والخراب منتشر في أرجاء الحديقة”.
في أيلول الماضي أعلن مجلس مدينة حلب التابع لحكومة الأسد، تأهيل حديقة “أبي تمام” في مساكن هنانو، زاعماً أن أعمال التأهيل شملت قسم الألعاب وزراعة الأشجار والغراس وإنشاء مقاعد حجرية وتأهيل المدخل الرئيس وسور الحديقة والإنارة بالطاقة الشمسية.
وأثار افتتاح الحديقة سخريةً وغضباً من قبل الأهالي، وقالت خديجة من أهالي مساكن هنانو: “تشبه كل شيء إلا الحديقة، هذه صحراء أو مقلع بحص ونحاتة وليست حديقة!، كيف لأطفالنا أن يلعبوا على أرضيةٍ مفروشةٍ بالبحص والحجارة؟! من المعروف أن من أساسيات الحدائق وضع أرضيات مطاطية كي لا يتأذى الأطفال خلال اللعب”.
الأطفال محرومون من اللعب
الحدائق فسحة للأطفال من أجل اللعب والترويح عن أنفسهم من ضغوطات الحرب والحرمان، لكن حدائق حلب لم تعد مكاناً ينشر الفرح في قلوب الأطفال، فأغلب الحدائق تفتقر إلى الألعاب، والموجود منها تعرّض للتلف، أو يشهد ازدحاماً شديداً.
رغم المساحة الكبيرة للحديقة العامة في حلب، لكن النظام لحد الآن لم يضع فيها ألعاباً للأطفال، كما أن الألعاب الموجودة في معظم حدائق حلب مصنوعة من الحديد عوضاً عن البلاستيك، وبالتالي تصبح حرارتها عالية جداً في الصيف، ولا يتحمّل الأطفال الجلوس عليها.
ورغم مناشدات الأهالي للبلدية ومحافظة حلب بضرورة استبدال تلك الألعاب، إلا أنهم لم يتلقوا أي استجابة، كما أن الألعاب التي تتعرض للتلف لا يتم ترميمها.
تقول خديجة “حديقة هنانو التي جرى ترميمها قبل ستة أشهر غير صالحة للعب، فالحديقة بالكامل تحوي زحليطة صغيرة تنتهي بالرمل والبحص، الذي يؤذي الأطفال ويملأ ثيابهم بالأوساخ، إضافةً الى أرجوحتين يتناوب عليهما عشرات الأطفال، الذين يملّون من انتظار دورهم”.
الواقع ذاته ينطبق على معظم حدائق حلب، التي تفتقر لوسائل الترفيه الخاصة بالأطفال، وقالت خديجة “خلال تسوقي في حي سيف الدولة، دخلت مع أطفالي إلى الحديقة الموجودة هناك، فلاحظت شاباً يخلع الأراجيح في الحديقة ويضعها في كيسٍ كبيرٍ (شوال)، بهدف بيعها كحديد في سوق الخردة، حيث باتت مهنة يزاولها الكثير من المتسولين لكسب المال”.
وانتشرت ظواهر غير أخلاقية في الحدائق، دفعت أغلب الأهالي إلى عدم الذهاب إلى تلك الحدائق أو اصطحاب أطفالهم اليها، ففي حزيران الماضي ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بصورةٍ تظهر شاباً وفتاة جالسيّن على مقعدٍ في وضعٍ غير أخلاقي في حديقة المارتيني، ما أثار استياء وغضب الحلبيين من تهاون النظام في التعامل مع تلك الظواهر السلبية.
يقول أبو راتب من سكان حي الأشرفية في حلب “كيف سنرسل أولادنا للعب في تلك الحدائق، وقد تحوّلت لمكانٍ للانحلال الأخلاقي ومرتع للزعران من الذكور والإناث، والصادم حجم الوقاحة الذي وصل إليه بعض المنحطين، الذين يمارسون أفعالاً غير أخلاقية على أطراف الحدائق، وبالتالي يشاهدهم بوضوح المارين في الشارع أو الجالسين على شرفات المنازل، وكلما دخلت أكثر وسط الحديقة، تشاهد مظاهراً أشد وقاحة، دون رقيبٍ أو حسيب”.
وأضاف أبو راتب “في الحديقة أصبحنا نلاحظ أطفالاً في العاشرة من العمر يدخنون أو يشربون الأركيلة، وآخرون يقفون على أبواب الحدائق أو داخلها ويتحرّشون بالفتيات، لم نعد نرسل أطفالنا للحدائق خوفاً من أن تُفسد أخلاقهم، ولم نعد حتى نرغب بالجلوس على الشرفات (البرندات)، كي لا نشاهد تلك المظاهر الفاحشة داخل الحدائق”.
وتعيش حدائق حلب في ظلامٍ دامس مع غياب أشعة الشمس، ما منع السكان من ارتياد الحدائق، أو إرسال أطفالهم للعب فيها، خوفاً من السرقات والخطف والتحرّش، فضلاً عن الحالة المزرية لدورات المياه.
في نهاية 2018 ألقت المخابرات الجوية التابعة للنظام القبض على رجلٍ يُدعى “أحمد مزنرة” في الخمسينات من العمر، يعمل شبيحاً على حاجز حي الفيض، وقام بإغتصاب أكثر من ستة أطفال منهم طفلين في حديقة المارتيني.
ويبلغ عدد الحدائق في مدينة حلب، ما يقارب الـ 50 حديقة عامة، وتنتشر معظمها في القسم الغربي ومركز المدينة، بمعدل الثلثين مقابل ثلث في القسم الشرقي، وتعرّضت تلك الحدائق للتخريب والإهمال خلال السنوات العشر الماضية، واكتفت محافظة وبلدية حلب التابعة للنظام، بإجراء بعض عمليات الترميم البسيطة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.