في إحدى قاعات الجامعة الأميركية في بيروت، دار نقاش طلّابي بداية هذا العام حول عودة الوصاية والهيمنة السورية على لبنان، معظم الحاضرين أبدوا قلقهم بعدما التقطوا أخباراً من وسائل إعلام محلية تتحدث عن ذلك، أحدهم قال ساخراً وهو يشير بيده إلى زملائه السوريين “كلّكم ستتحولون إلى معتقلين أو بائعي كعك”، في إشارة إلى رجال الأمن الذين كانوا يتنكرون ويخفون أنفسهم على هيئة بائع كعك، ليجيبه أحدهم “سأبيعك الكعك وستناديني معلّمنا”، وسط ضحك وسخرية الجميع.
يرتبط مشهد بائع الكعك (السوري) في مخيال اللبنانيين برجال أمن متنكرين، مهمتهم ، كما جرت العادة، التقاط الأخبار و مراقبة الأشخاص والأمكنة، كان ذلك جزء من ذاكرة مضى عليه أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن، لكن آثارها ما تزال حاضرة في هوية بائعي الكعك السوريين الباحثين عن لقمة عيش لهم في لبنان، لا عن مهمة رسمية يؤدونها.
غريب عن المهنة
لا يملك، أبو عبدو، حدّاد سوري تحول إلى بيع الكعك إثر إصابة أثقلت ظهره بصفائح معدنية، وحالت دون قدرته على متابعة مهنته، ملامح رجال الأمن المتنكرين بزي بائع كعك.
رجل قصير القامة في الأربعينات من عمره بكتفين ضيقين وابتسامة، كانت ملامح أبو عبدو حين بدأ بيع الكعك في العام 2001، عكس ما ارتبط في ذاكرة اللبنانيين آنذاك من صورة نمطية لبائع كعك، بوجه أسمر وسحنة حمراء اللون على الجبين صنعتها أشعة الشمس وشارب تدلى إلى جهة الذقن وبنطال عريض.
فلأهالي بيروت ذاكرة قديمة مع بائع الكعك. لكل حي بائعه الخاص، ونداء مميز ما زال يرنّ في آذانهم “كعك، كعك، كعك” يرافقه صوت (زمور) وأزيز عربة تمر في الشوارع والأزقة الضيقة.
هناك صورتان لبائع الكعك في لبنان (أيام الوجود السوري العسكري). من يخفي رجل أمن، أو (كتيّب تقارير) يؤدي واجبه الوطني في مهمّته السرية إحداهما، وهي الصورة الغالبة. بجانبها رجل يبحث عن لقمة العيش، يعود إلى بيته، يجمع نقوده بعد أن يطرح الربح من رأس المال، وفي الفجر يستيقظ قاصداً الفرن، بعدها يوجّه عربته نحو أحياء وطرقات جديدة بحثاً عن زبائن، أو يكتفي بالوقوف في ساحة عامة أو ملتقى طرق مع ابتسامة يطلقها أمام زبائنه.
لا يعرف أبو عبدو من سورية إلا مدينته حلب التي تركها منذ العام 1982، كانت رحلة عمل إلى لبنان لتأمين مهر العروس، ظنها أربعة أشهر قبل أن تأخذ بيروت أربعين سنة من حياته أمضى نصفها في مهنة الحدادة.
تحولت حلب، آنذاك، إلى محطة مؤقتة، يزور فيها أبو عبد عائلته محمّلاً بأكياس الموز اللبناني والجوافة وبسكويت غندور وهدايا لأولاده، إضافة لنقود يودعها يد زوجته قبل أن يعود إلى بيروت من جديد.
إصابته كانت نقطة تحوّل جديدة في حياة أبي عبدو، من حدّاد عدّته ما يملكه من قوة وجلد، تترك بقايا الحديد آثارها على يدي مهني يأكل ويطعم أطفاله من عرق جبينه وهو يلوي قضبان الحديد ويعيد تشكيلها، إلى رجل بظهر حديدي مليء بالصفائح المعدنية يبحث عن عمل أقل مشقة، ليصبح بائع كعك يجرّ عربته لتأمين قوت عياله.
ليست الإصابة وحدها ما أثقل كاهل أبي عبدو، كانت الظروف السياسية والحياتية في بيروت قد بدأت بالتغير هي أيضاً، هذه المرة ليست لصالحه كما كانت عند قدومه قبل عشرين عاماً، و انحازت إلى شكل آخر من أشكال تقبل الوجود السوري في لبنان، أياً كان هذا الوجود، سواء كان عسكرياً أو أمنياً أو على شكل بائع كعك.
بيروت لا تتسع لعربة كعك
كانت بيروت المحطة الأولى لانطلاقة رحلة بائع الكعك، بداية مجهولة ومهنة جديدة، وهرولة يومية نحو رغيف الخبز.
صامتاً سار ثلاثة أيام في أحياء بيروت الشرقية، أخفى قسم الدعاية والإعلان (الزمور) داخل العربة، حلق شاربيه، وأدخل تغييرات جذرية على هندامه جعلته يختلف عن “كتّيبة التقارير” كما يسمّيهم، حاول أن يبدو مثل مواطن لبناني. أفشلت لكنته الحلبيّة مخططاته كلها.
صيف 2003، قصد الكورنيش البحري لبيروت. على غير العادة، أثار انتباهه عربات كعك كتب عليها ” البائع لبناني، المنتوج لبناني، المال اللبناني”، أدرك بعدها أنهم أنصار التيار العوني المناهض للنظام السوري وقتها، قال في نفسه” ما المهم من هذا كلّه، أنا لست رجل أمن، قصار القامة مثلي لا تقبلهم الدولة، ولا أقطع برزقة أحد، بكل الأحوال أنا حدّاد وسأعود لمهنتي ذات يوم”، مع ذلك أحس أبو عبدو بالألم يسري في مفاصله، تناول حبة مسكن لفقرات ظهره المتعبة، وجرّ عربته بعيداً، دون أن يعود للكورنيش ثانية.
حتى اليوم لم أعد للكورنيش، مرت سنوات على تلك الحادثة، تغيرت فيها أشياء كثيرة، منها صفة لاجئ التي حملناها بعد الثورة السورية، وضاقت في سبيل ذلك طرق عرباتنا، يخبرنا أبو عبدو أن “كل بقعة في لبنان وكل بلدية، دولة بحد ذاتها، تفرض سوط سلطتها على ظهرك المتعب من جر العربة، في طرقات يحددوها هم، وإن أسقطوا عنك لعنة المخابرات، قيّدوك بلعنة جديدة (لاجئ)، في الحالتين أنت شبه محتل، وتشاركهم ماءهموهواءهم”.
ينفث من سيجارته نفساً عميقاً قبل أن يستعيد أفكاره “تتغير الطرقات التي تسير فيها عربة الكعك بتغير الظروف، الثابت منها هي طريق البيت إلى الفرن، وفي بلد كلبنان كل يوم أنت أمام حدث سياسي أو أمني أو اجتماعي، هي من تفرض عليك دخول هذه الحي أو ذاك أو العودة للمنزل، منها: خروج مظاهرة ضد الوجود السوري، حدث أمني بسقوط قذيفة جانب مكتب حزب الكتائب في منطقة الصيفي، اشتباك مسلح في برج حمود، محاولة اغتيال في سن الفيل، مرور موكب عسكري، لص سوري سرق منزل أحد الأغنياء”.
القصة قديمة، بدأت منذ شباط عام 2005، كل سوري موجود في لبنان، حمل جزء من وزر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، بعدها بشهر جاءت ثورة الأرز موجّهة أصابع الاتهام للنظام السوري وحملت شعارها الشهير” ما بدنا كعك بلبنان غير الكعك اللبناني”، والذي بدا كهمّ الجبال على أبو عبدو، صاحب الفقرات المتعبة.
أصبح بيت أبو عبدو سجنه، عيناه لا تفارقان التلفاز، يستمع بتركيز مثل تاجر عملة يخاف أن يخسر في البورصة. عجلات العربة بقيت مشلولة، لحين خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 ومعه باعة الكعك، و70% من السوريين في لبنان، وفق تقرير لصحيفة الشرق الأوسط.
بقاء الرجل في المدينة لم يعزز الفكرة التي تدور في رأسه، أنه غير مخابراتي ولا يطلب الثأر منه. يروي عن تلك الأيام “بدت كل الطرقات في بيروت غريبة عني، أو بالأحرى أنا الغريب، مرةً، اصطدمت بلافتة في مكان سكني القديم، حي الكرنتينا، كتب عليها (ممنوع دخول باعة الكعك السوريين)، في حيّ آخر أخبرني أحدهم إنه (سأشتري منك كل الكعك، لكن لا تريني وجهك ثانية)، هذا ما عدا الشتائم القاسية والضرب والركل والرمي على قارعة الطريق، لم يعد لي الحق في المدينة، لذا قررت المغادرة إلى صيدا”.
خريطة غير مستقرة
إلى صيدا مسقط رأس الحريري ومعقل تيار المستقبل(صيدا)، حيث يكثر أقارب ومعارف أبو عبدو، وتقل معرفته بالطرق الرئيسية والفرعية، نقل أبو عبدو عربته، وفي أول يوم عمل له أخبره أحد موظفي البلدية بكل احترام “صيدا لا تريد باعة كعك سوريين في شوارعها، الرخصة فقط للبنانيين!”.
مجدّداً رسم أبو عبدو خارطة طرقاته إلى جنوب صيدا، لتبعيتها لحزب الله وحركة أمل، حيث لن يضايقه أحد، ما عدا أعين مفتوحة بنظرات مريبة، يطلقها باعة لبنانيون هناك في وجهه، فهو يزاحمهم على مناطق رزقهم.
خلال السنوات اللاحقة ساد جو مشحون بالعصبية والتوتر تجاه العمال السوريين، وتحدّثت تقارير إعلامية عن اعتداءات كثيرة بحق عمال كثر، إلّا أن التقارب السوري السعودي والذي ترجم بزيارات لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى دمشق في 2009 و2010، هدّأ ذلك الاحتقان الطويل، لكنه لم يفتح طرق البيع لأبي عبدو في شوارع صيدا.
ظلّت صيداً مكاناً لا يصلح إلا للنوم طوال ست سنوات، وبيروت محطة للمرور والتزود بركاب جدد في الطريق إلى حلب، والجنوب للبيع، إلى أن انقلبت الأمور واختلفت الخنادق مطلع الثورة السورية 2011.
كان بدء دوران عجلة العربة ثانية في صيدا بمباركة الثورة السورية، وطئت قدما أبو عبدو أمكنة وطرقاً كانت حلماً للباعة السوريين قبل 2011. لم يعد يرونه أحد قتلة رفيق الحريري، صار ابن الثورة ومعارضاً للأسد، لكنهم أبقوا أعيناً مفتوحة تراقبه، فهؤلاء(أي باعة الكعك) لا أمان لهم، حسب الاعتقاد السائد.
شكّل الكورنيش البحري للمدينة والذي اكتظ باللاجئين السوريين الجدد سوقاً جيدة لبيع الكعك، وتضاعفت الأرباح، وأدخل الحدّاد المتقاعد تغييرات فنية على العربة، مستعيناً بخبرته القديمة، إذ أصبح للعربة سقف لتعليق الكعك وللحماية من أشعة الشمس ومطر الشتاء، وفرن صغير وقارورة غاز لصنع الكعك الطرابلسي.
في 2016، تحركت العربة من أمام المنزل بتغّير جديد هذه المرة، احتلت لافتة المقدمة العُلوية للعربة (لا للحصار، أنقذوا أطفال حلب)، ببساطة أراد إسقاط الحصار عن حلب الشرقية، وإسقاط لعنة المخابرات عن ظهره.
وعلى قاعدة (يا غريب كون أديب)، أنهى يومه ملقىً من سيارة دفع رباعي، بعد حفلة تعذيب في إحدى أقبية تنظيم يدعى سرايا المقاومة، أضافوا لما فعلوه اعتذاراً كان أقسى من الضرب،” ما تواخذنا يا زميل”.
انتهى العام 2016، وانتهت معه حكاية حلب الشرقية، هاتفته زوجته في مكالمة قصيرة على غير عادتها “راحت حلب يا رجّال”.
رغم الأيام القصيرة كانت حلب أكبر الخسارات، بدا أبو عبدو كطفل فقد أمه، ويخضع لقسوة زوجة أبيه،انضمت المدينة إلى صيدا وطرابلس وبيروت وأحياء وشوارع لا تمنح رفاهية الدخول إليها.
أصبح لأبي عبدو عائلة لاجئة في لبنان، وفاتورة كهرباء واشتراك مولّد وانترنت ومياه وإيجار منزل، تغيّر مفهوم الهدايا المحمولة إلى المنزل لصالح أكياس الخبز والخضار التي صنعت بحملها علامات على يديه.
مع بداية الأزمة اللبنانية، وقدوم جائحة كورونا 2019، أصبحت العائلة داخل نسبة (89% من السوريين تحت خط الفقر في لبنان)، وتقلّصت أرباح قطعة الكعك من 100% إلى 25% بفعل انهيار الليرة اللبنانية.
كان على بائع الكعك أن يضاعف كمية الكعك، وأن يمشي في شوارع وأحياء إضافية، بدت العربة التي يجرّها ثقيلة، والطرقات عصية على المشي، وأصبح زبوناً مداوماً عند أطباء العظمية والأعصاب.
ممثّل ثمّ لاجئ
مع تقدّم العمر بدا الستّيني أبو عبدو نحيلاً هزيلاً، يغزو الألم ظهره إلى أسفل قدميه، لم تفلح معه سفّ كل أنواع المسكنات، وبدأ يأكل جسمه.
تكثر التعليقات التي يتلقاها أبو عبدو يومياً من سوريين كثر، ينادونه بـ “سيادة العميد أو العقيد، لكبر سنه، أو المعلّم”، وتكثر الأسئلة بين ما هو جاد أو مازح، كأن يطلب منه عمل ( فيش) لأحد الأشخاص ليعرف إن كان مطلوباً للنظام، أو المساعدة بتهريب شخص إلى لبنان.
يخبرنا وهو يبتسم أن امرأة بيدها ورقة تحمل اسم ابنها ومعلومات عنه،طلبت إليه معرفة فيما إن كان ابنها حيّاً أو ميتاً ومكان اعتقاله.
“إي ولو تكرمي يا أختي”، خاطبها، لتعود بعد أيام تستقبل البشرى أنّ ابنها حي، وسيخرج في مرسوم العفو القادم، أفرجت المرأة عن فرحها بزغرودة ملأت صيدا، أتبعتها بتقبيل رأس أبو عبدو.
يخبرنا أنه مثّل الدور لأول مرة في حياته، أحسّ بالحرقة في عينيها، وأنها مكسورة مثله، مع فارق وحيد، أن النظام قتل ابنه ويعرف مكان قبره “وقتها كسرولي ضهري وشقولي قلبي، كان أهم وأكبر خساراتي”.
يضيف” نسيت خبرك، أم عبدو قنعتني سجل معهن بالمفوّضية، رح صير لاجئ وضيف لعنة جديدة، بلكي بتجينا سفرة على شي بلد أوروبي، كمان خبرتني أنو مقبرة سيروب في صيدا ما بتقبل جثتي بدون ورقة لجوء”.
جرّ عربته بصعوبة، حمّلها وزناً زائداً تئن معه إطاراتها المتعبة، تميل مع حركة قدميه الثقيلتان على المشي، يمرّ في شوارع كثيرة لتأمين ما يجنبه عوز الأزمة الاقتصادية في لبنان وارتفاع الأسعار. تأكل العربة ما تبقى من جسد أبي عبدو كما أكلت في السابق ما تبقى من روحه، خائفاً مسناً في شوارع لم تنسى يوماً ثنائية بائع الكعك/ عنصر الأمن، يختار أسلم الطرق، يضع لافتة سعرية بعشرة آلاف ليرة لبنانية للكعكة الواحدة، وهو يصرخ “كعك، كعك، كعك”.