خمس ليرات سورية كانت فطور صباح المارّة من شوارع في محافظة إدلب، قرص ساخن من الشعيبيات يغص بالقطر ويترك آثاره على أيدي وثياب محبيه، ونكهته في قلوب متذوقيه ليعيدوا الكرّة مراراً، كلما أتيحت لهم فرصة المرور مسافرين على أحد الاستراحات.
هي ماركة غير مسجّلة، يمكن أن تجد انتشارها في شوارع دول أخرى، يكفي أن تكتب على محلك “أريحا أو إدلب” لتُسأل عن الشعيبيات، صنف من الحلويات يصح تناوله في كل وقت من اليوم وفي مختلف الفصول.
إلى جانب الشعيبيات وفي ركن من محلات إدلب تظهر أنواع أخرى من الحلويات، أقربها إلى قلب سكان المحافظة “الهريسة، النمورة”، وتتدرج بعدها أنواع أخرى من البقلاوة والمبرومة والمشبك والعوامة، جميع هذه الأصناف وفي مقدمتها الشعيبيات فقدت نكهتها بعد تغير مكوناتها لصالح المتوافر في السوق والأرخص سعراً، ومع هذه التغيرات وارتفاع الأسعار أُغلقت محلات شهيرة وفتحت أخرى قبل أن تغلق أبوابها هي الأخرى. ما بقي صامداً من هذه المحلات يئن في انتظار حلّ لا يجبر أصحابه على ترك مهنتهم والوقوف في حيرة من يبحث عن عمل، إذن بماذا سنستبدل ما ألفناه وعشقه زبائننا منذ عقود لا نعرف لها تاريخاً.
البحث في تسمية الـشعيبيات وتاريخ صناعتها في سوريا يقودنا إلى حل يرتبط بالنكهة، إذ تورد موسوعة حلب المقارنة سببين للتسمية، أنها تنسب إلى حلواني اسمه “شعيب”، وأنها في الأصل كانت تحمل اسم “الشبيعية” فوحدها كانت تمثل فطوراً كاملاً لكبر حجمها وغناها بالسكريات، ثم تحور الاسم مع الزمن ليصبح “شعيبية”، وهناك رأي آخر يورده كبار السن في أريحا، يفيد بأن اسمها كان “الشعبية” لدخولها في حياة معظم السكان، فقيرهم وغنيهم، لسعرها الذي يناسب الجميع، وتحورت إلى اسمها الجديد اليوم.
في محافظة إدلب، عشرات، إن لم نقل مئات محلات الحلويات، كما أسلفنا أن الشعيبيات أحد أركانها، وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ومع موجات القصف والتهجير، أغلقت محلات كثيرة وفتحت أخرى، ومع موجة الغلاء الجديدة أغلقت المحلات الصغيرة، يخبرنا صاحب إحداها أن المحلات الصغيرة لا تستطيع الصمود لأكثر من أيام في ظل ارتفاع الأسعار، أما الكبيرة والقديمة فتستطيع ذلك لشهر وربما لأشهر.
أحمد الحسن، صاحب محل أرهقه الكساد في مخيمات دير حسان، يقول إن نجاح مشروعه في البداية دفعه للتفكير بتوسيع عمله لافتتاح أكثر من محل قبل أن تعصف بعمله موجة الغلاء التي طالت مكونات الحلويات منذ ثلاثة أشهر، ما اضطره لإغلاقها.
لا تجد داخل المحل سوى رفوف فارغة وأوان (صينيات) خالية بعد أن “انعدمت حركة الزبائن”، على حد قوله، وبات دفع إيجار المحلات خسارة لم يعد يستطيع احتمالها.
سوى أحمد، أغلقت ثلاث محلات لبيع الحلويات في واحد من شوارع الدانا بريف إدلب الغربي، بينهم إياد الذي ما زال صامداً ولكنه قلل كميات ما يصنعه إلى النصف.
لا يصنع إياد الحلويات بنفسه، شأنه شأن محلات اختصت بالبيع، بعد الحصول على الحلويات من معامل للتصنيع، يقول إياد إن إغلاق هذه المحلات جاء بسبب ارتفاع أسعارها، خاصة السكر والطحين والسمن البلدي.
يقدر، صاحب معمل حلويات في إدلب، تراجع إنتاجه بنحو ٨٠%، يقول إن محلات كثيرة توقفت عن الشراء، ما دفع معامل أيضاً للإغلاق جزئياً أو كلياً، وفي أحسن الأحوال تقليل الكميات المنتجة لتتناسب مع القدرة الشرائية.
أحمد الشيخ، حلواني في مدينة سرمدا، يصنع منتجاته ويوزعها على محلاته الثلاث التي يملكها، يقول إنه اضطر لإغلاق محلّيه في باتبو والبردغلي، والإبقاء على محله الرئيسي في سرمدا لعدم قدرته على تلبية احتياجاتها.
يخبرنا الشيخ “أن انخفاض الإنتاج جاء نتيجة العجز عن تأمين عدد من المواد، بالإضافة لغلاء أسعار المواد التي تدخل في عملية الصناعة وهو ما انعكس بشكل سلبي على حركة السوق من خلال انخفاض الطلب”.
تضاعف أسعار المواد وندرتها رفع أسعار الحلويات في المحلات، بعضها زاد سعره عن الضعف، يقول أدهم البشير، صاحب معمل حلويات.
السكّر، هو العمود الفقري في صناعة مختلف أصناف الحلويات، والشعيبيات أهمها، ومع تأرجح سعره وانقطاعه أسهم، بشكل مباشر، في ارتفاع أسعار الحلويات وإغلاق المحلات.
منذ أزيد من شهر بات البحث عن كيس من السكّر محاولة يائسة تستوجب صرف وقت ووقود لجمعه من دكاكين السمانة، ووصل سعره لأزيد من ستين دولاراً بعد أن كان نحو ستة وثلاثين دولاراً، ويستوجب أيضاً الوقوف في دور طويل للحصول على المسحوق الأبيض الذي لن تنفع أي محاولة أخرى بالاستعاضة عنه في صناعة حلويات بنكهة مميزة.
توفرت الكميات اليوم من مادة السكر، لكن سعره وصل إلى نحو أربعين دولاراً، يقول البشير “يرتبط عملنا بتأمين السكًر الذي بات أخيراً شرطاً لتنفيذ أي طلبية”.
ليست مشكلة انقطاع السكر فقط ما يواجه صناعة الحلوى اليوم، ولكن ارتفاع الأسعار وانقطاع الطرق والمواد الأساسية يسهم إلى حد كبير في تراجع الصنعة، مثل السمن وأصنصات المواد والطحين.
في مثال بسيط عن مواد الشعيبيات، ارتفع الطحين من ثلاثة عشر إلى سبعة وعشرين دولاراً، والسمن من اثنين وعشرين إلى أربعين دولاراً، ونقصت عبوته من عشرين إلى ستة عشر كيلو غراماً، خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، يضاف إليها القشطة والاستعاضة عنها بالقريشة التي تضاعف سعرها من ثمانية إلى ثمانية عشر ليرة تركية، والمكسرات والوقود اللازم للأفران، ومعه ارتفع سعر الشعيبية من ثلاث إلى ست أو سبع ليرات تركية. يلخص البشير ما يريد إيصاله لنا “كل يوم سعر جديد، عملنا عبروح فرق مواد، بين ٤٠ و٢٥٠٪ تراوح ارتفاع الأسعار وما كان أمامنا إلا الإغلاق أو التحايل على نوعية المواد”.
مع هذه التغيرات تضاعف سعر الشعيبيات، كذلك النمورة التي زاد سعرها إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، أما دخل المواطن فبقي على حاله، ليتنازل السكان عن الحلوى في حياتهم اليومية، ولتترك الشعيبيات والنمورة مكانها الذي شغلته لأكثر من خمسمائة سنة، بحسب مراجع تاريخية، منذ وصولها الأول إلى المنطقة من تركيا، إن صح ما نقلته الكتب، في حياة الناس وطعامهم اليومي لصالح ربطة الخبز.
يقضم قرص الشعيبيات خُمس ما يتقاضاه عبد الله خطيب، عامل بناء يحرق من السكريات يومياً ما يجعله بحاجة ماسة لشراء الحلوى، إضافة لشغفه واعتياده عليها لسنوات طويلة، أما الحلويات المشكلة فـ “ما عاد عندي قدرة اشتري كيلو حلويات عربية بخمس وأربعين ليرة ويوميتي لا تتجاوز الخمسين ليرة، في أشياء صفّى شراؤها أهم من شراء الحلويات”.
لصالح ربطة الخبز، تخلّى محمد العبدو، عامل حدادة، عن فطوره الصباحي من الشعيبيات، يقول إن “أطفاله أولى بذلك، إذ بات ثمنه يزيد عن ثمن ربطة خبز كاملة!”.
هناك كيمياء للشعيبيات والنمورة في محافظة إدلب، تشبه ما تحدث عنه يعرب العيسى في مقاله عن المكدوس، ربما ترتبط بالمناخ ونوعية الطحين والقريشة والسمن ودرجات الحرارة، ويفشل معها، كما في المكدوس، إدخال مواد جديدة مختلفة المنشأ على صناعة الشعيبيات والنمورة في إدلب، ويغير نكهتها لصالح فقدانه.
وهو يصور لنا صوراً لهذا التقرير، تناول المصور مصطفى الساروت قرصاً من الشعيبيات في إدلب، وحين حاولنا استفزازه بالطعم، أخبرنا “لا.. لم يعد كذلك، هناك ما هو غائب”.
“أعمل بالنفس ذاته منذ عشرين عاماً في صناعة الحلوى”، شعيبيات وعوامة ومشبك ونمورة، ما يداوم أبو أحمد من معرة النعمان على صناعته يومياً، “تعلمت الصنعة في أريحاً طفلاً، لم أفلح في دراستي” يبتسم وهو يخبرنا كيف زجّ به والده في محل حلواني ينتمي لأكثر عائلات أريحا عراقة في صناعة الشعيبيات، ليتقن المهنة قبل أن يجد لنفسه محلاً في مدينة معرة النعمان بات محط أنظار الزبائن.
مع القصف انتقل إلى كفرنبل المجاورة، ومنها نزح رفقة زبائنه إلى سلقين، هناك وبعد فترة من الزمن ترك ما يعشق صناعته واستعاض عنه بمحل يبيع فيه “صندويش الفلافل”.
لم يستطع أبو أحمد مجاراة ما يحدث، على حد قوله، كانت المواد الجديدة في صناعة الحلوى قد أفقدت ما يصنعه نكهته، قطر صناعي وسمن تقليدي وقريشة عوضاً عن قطر يصنعه بنفسه، لزج ليس كالماء الحلو الذي يستخدم حالياً، وسمن عربي وقشطة، ومع تلك البدائل فقد قرص الشعيبيات طعمه وغادر يدي صانعه ليشبه شيئاً آخر، ليس ماركة مسجلة كما أسلفنا، بل طعم دخيل عافه الزبائن وتخلّو عنه، ليصبح الكساد عنواناً لصواني الحلويات المتكدسة “البايتة” منذ أيام، والتي تسخن في “ميكروويف” بدلاً من الفرن الحجري، قبل أن يرمى ما تبقى منها.
“بدأ ذلك الازدحام ينفضّ شيئاً فشيئاً حتى وصل في بعض الأحيان إلى كساد الإنتاج بأكمله، نتيجة عدم سومه من قبل أي زبون”، ينهي أبو أحمد كلامه وهو يرمي منقوع الحمص في زيت القلي لصناعة “صندويشة” لزبون جديد.
ثلاثة أمور يفتقدها إسماعيل، المدمن على الشعيبيات كما يصفه أصدقاؤه، نكهة القطر التي حولت الشعيبيات إلى ما يشبه البلاستيك، الحشوة التي تم اختزال أكثر من نصفها داخل القطعة، والقرص الطازج. يقول اسماعيل ” الفرق بين الطعم اليوم وبين الطعم في السابق كالفرق بين عصير البرتقال الطبيعي وظروف العصير المصنوعة من البودرة بنكهة البرتقال”.
لم تعد للشعيبيات، والحلويات، مكانتها، وتركت مكانها حتى في رهانات الربح والخسارة في ورق الشدة، يقول مهند ورفاقه الذين تندروا بالحديث معنا “الزمن اليوم للشاورما، الشعيبيات تحولت إلى خبز محلّى”.
لغياب الطعم أسباب كثيرة، ليس الفارق هنا بين محافظة وأخرى، بل في المكان ذاته، يقول البشير “السر الأكبر يكمن في القطر الصناعي التركي، وهو عبارة عن كلوكوز وماء ونشاء ومُحليّات صناعية مثل السكرين، أسبارتام، يحتوي مواد حافظة وشمعية”.
يصلح ذلك، مع تغير الطعم، لقسم من الحلويات، كالشعيبيات، ولكنه لن ينجح مطلقاً في أصناف أخرى مثل البلورية والمبرومة.. وهو ما استدعى إيقاف إنتاجها في المعامل.
ضعف القدرة الشرائية سبب آخر، إذ لا يزيد متوسط دخل المواطن عن ثلاثة أقراص من الشعيبيات يومياً، إن وجد فرصة عمل، وبالمواد البديلة أيضاً، وإن كان أصحاب المحلات سيحافظون على المواد التي كانوا يستخدمونها فسيزيد سعر القرص الواحد عن خمسة عشر ليرة، وهو فوق ما يستطيع شراءه غالبية سكان المحافظة.
يتحول صناع الحلوى إلى مهن جديدة بعد أن أصبحوا عاطلين عن العمل، عشرات من “الحلوانيين” هجروا العجين وحلل القطر إلى المطاعم وورش البناء، لكن أيديهم ما تزال تدير، ولو في الخيال، لفائف العجين تعيد الشعيبيات إلى صباحات السكان والمارّة، في الصباح سنمرّ على شعيبيات حلّوم أو اسليم..، سنتناول فطورنا الساخن ونحمل ما يشي بمرونا من إدلب كهدايا لمن نحب.