تغيرت القيمة السعرية للعملات المتداولة في سوريا خلال السنوات الأخيرة تغيراً كبيراً، إذ فقدت الليرتان السورية والتركية نسبة عالية من قيمتها مقابل الدولار، ما شكل خلافاً حول تأدية المدينين لديونهم التي اقترضوها، سواء من الأشخاص أو المحلات التجارية، فرضت خسائر كبيرة على أصحابها من الطرفين، وأدت إلى خلافات رفعت إلى مجالس الصلح والمحاكم المختصة.
لا تتعلق الخلافات في تأدية الدّين إنما في تفاصيله، خاصة مع انهيار الليرة السورية التي وصلت إلى نحو أربعة آلاف دولار مقابل الدولار، والليرة التركية التي وصلت إلى نحو خمسة عشر ليرة تركية مقابل الدولار أيضاً، وهما العملتان المتداولتان في الشمال السوري، خلال السنوات الأخيرة.
الصلح، وفق مبدأ الضرر الواقع على كلا الطرفين، هو الأسلوب الذي وجدت فيه عائلة الحاج عبد القادر الاسماعيل، يعمل في تجارة الحبوب من معرة النعمان، حلاً لمشكلتها بعد وفاته.
يقول أحد أبناء الاسماعيل إنهم فوجئوا بمطالبة أحد الأشخاص لعائلتهم بإيفاء دين والدهم البالغ (٧٥ ألف ليرة سورية)، ومطالبته بما يعادلها من الدولار لحظة الاستدانة (ألف وثلاثمائة دولار) قبل عشر سنوات.
رفض الدائن استلام قيمة دينه كما أقرضه منذ عشر سنوات، وطالبهم بأدائه وفق عملة الدولار أو الليرة التركية، وبعد أخذ وردّ اتفق الطرفان في جلسة الصلح على تقسيم المبلغ وفق سعر الصرف الحالي مناصفة بين الدائن والمدين، مع مسامحة كل منهما للآخر.
لم تفلح جلسات الصلح بإيجاد حل لياسين العثمان، بعد أن طالبه الدائن بإيفاء مبلغ ثلاثة آلاف ليرة تركية، وفق سعر الصرف قبل عامين، ليجد نفسه أمام دعوى قضائية رفعت عليه في محكمة سلقين لحلّ الخلاف الحاصل.
يقول العثمان “عقدت جلسة صلح بيننا لمحاولة إقناع عمار ( صاحب الدّين )، إلا أنها لم تأتي بأي نتيجة، لأتفاجأ بعد يومين ببلاغ حضور إلى المحكمة”.
حجة عمار، إن الليرة التركية فقدت أكثر من نصف قيمتها منذ عامين، حين قام بإقراض العثمان هذا المبلغ، وإنه يرفض أن يرد له المبلغ كما هو، وطالب الأخير بمضاعفة المبلغ أو إعطائه قيمته بالدولار، بالرغم من عدم وجود اتفاق مسبق بينهما، بحسب قوله.
إفلاس بعض المحلات نتيجة ديون متراكمة
أحمد الخطيب، صاحب محل قطع صحية وكهربائية، نزح من بلدة كفرنبل قبل ثلاث سنوات، ويزيد حجم ما أقرضه لأهالي في المدينة عن ثلاثة ملايين ليرة سورية.
ترافق نزوح أحمد مع بدء انهيار الليرة السورية، وكان سعر الصرف في ذلك الوقت نحو ألفي ليرة سورية، واعتماد الليرة التركية كعملة للتداول والشراء، وسط توزع زبائنه في مناطق متفرقة ضمن بلدات الشمال السوري.
يقول الخطيب “بدأت حملة تقصّ عن زبائني لاسترداد الدّين ، وبعد جهد وعناء رفض بعضهم تسديد الدين بحجة عدم القدرة في الوقت الحالي، فيما قرر معظمهم تأدية دينه بالليرة السورية، وبالمبلغ ذاته الذي تم تسجيله عليهم قبل سنوات، بالرغم من تدوين قيمة الدين بالدولار”.
ويضيف الخطيب “عملنا يتطلب الدّين وإذا ما دينت محدا بيشتري من عندك، ومعظم رصيد المحل هو أموال لعوائل عبشغلوهن داخل المحل”.
مزّق أحمد دفتر الديون خاصته وأشهر إفلاسه، وترتبت عليه ديون طائلة لعدد من الأشخاص الذين منحوه مبالغ مالية بهدف تشغيلها والاستفادة من أرباحها، بعد أن فقدت تلك النقود أكثر من خمسة وسبعين بالمئة من قيمتها”.
حال أحمد يشبه حال أصحاب محلات كثر في المنطقة، إذ يتغير سعر الصرف بين ليلة وأخرى، ما يترك أصحاب هذه المحلات أمام خسارة فارق العملة المتداولة عند كل انخفاض، يقول محمود، صاحب دكان لبيع المواد الغذائية، في مدينة إدلب “جددت دفتر الدّين عشرات المرات، معظم الديون ماتت، حتى وإن استطعت تحصيلها ولكنها لم تعد تساوي قيمة المواد المباعة، ولا حتى نصفها على الأقل”.
لمحمود ديون منذ عشر سنوات، يقول إن في دفتره ديوناً بقيمة خمس ليرات سورية، يضحك وهو يخبرنا، إنها كانت ثمن كيلو غرام من الأرز على سبيل المثال، وهي اليوم لا تشتري خمس حبات من الأرز، إذ وصل سعره لنحو ثلاثة آلاف ليرة.
أمثلة كثيرة يطرحها محمود، وهو يتساءل عن شرعية تحصيل الدّين، بعد تعديلها بما يتناسب مع سعر الصرف الحالي، وإن كان هذا الأمر يدخل في باب “الحلال والحرام”، وفق القوانين والأحكام الشرعية.
الامتناع عن الدين أو الدين المشروط
انعكست الخلافات الناتجة عن الدّين على سوق الشراء، من خلال امتناع بعض المحلات التجارية وأصحاب الورش عن الدّين، وهو ما وجده أنس القاسم، صاحب محل جملة في منطقة كفر لوسين، حلّاً لعدم الدخول في أي مشكلة، رغم فقدانه لأزيد من ثلث زبائنه، بعد أن رفع على واجهة محله عبارة “ممنوع الدّين” تجنباً للإحراج.
يقول أنس، إن فقدان قسم من الزبائن أفضل من خسارة دكانه ومصدر رزقه، خاصة مع إغلاق عدد من أصدقائه لمحلاتهم في سوق البلدة بسبب تراكم الديون وفقدان قيمة الديون المحصلة.
“لست نادماً”، يقول أنس “خسرت نحو ٥٠٪ من رأس مال محلي في العام الماضي نتيجة الاعتماد على الدين، لكني اليوم أشعر بأني في وضع أفضل بعد الاعتماد على البع نقداً”.
أبقى ياسر السلوم، يملك محلاً لبيع الخضروات في مخيم باريشا، باب الدين مفتوحاً شريطة كتابته بـ “الدولار”، وفق سعر الصرف “مهما قل ثمن السلعة أو كبر”.
يقول السلوم إنه لا يستطيع إغلاق دفتر الدّين، معظم الزبائن في ظروف اقتصادية سيئة، ولا يمكنهم الشراء نقداً، ولكن تسجيل الدين بالدّولار، ووضع مهلة محددة لإيفائه لا تزيد عن شهر واحد، قللت من خسائره وحافظت على زبائنه في آن معاً.
جلسات الصلح والحكم القضائي
انعكست تلك العوامل على بعض أصحاب الديون الذين فقدوا قيمة أموالهم لتؤدي لخلافات، انتهت بعضها في المحاكم للبت فيها.
تحل غالبية المشاكل الناتجة عن الدين صلحاً عن طريق جلسات يحضرها أعيان من البلدة أو أقارب كلا الطرفين، يتم من خلالها التوفيق بين الدائن والشخص المدين. وفي حال تعذّر حل المشكلة ترفع إلى المحاكم الشرعية، لإصدار حكم يوفق بين الطرفين.
لا يختلف القضاء الشرعي والقانوني عن جلسات المصالحة، فالهدف منه هو التوفيق بين الطرفين للوصول إلى حل يتم من خلاله تأدية الدين.
بشكل عام، “تحدد قيمة المبلغ السابقة بالدولار وتقسيم على الطرفين، ويضاف لها المبلغ الأساسي الذي تم استقراضه سابقاً”، بحسب القاضي الشرعي أبو عبد الرحمن.
وأضاف القاضي “أن هنالك عدة أمور تحدد زيادة قيمة المبلغ أو إنقاصه، مثل قدرة المدين على تسديد الدين والمماطلة فيه، بالإضافة لمطالبة الدائن بدينه مراراً وعدم تجاوب المدين معه، حيث يتم في هذه الحالة رفع قيمة المبلغ الذي يتم فرضه على المدين لقدرته على تسديد المبلغ والمماطلة فيه”.
بالمقابل فـ “إن عدم مطالبة الدائن بأمواله، تلعب دوراً في تخفيض تلك القيمة، ويلغي ذلك كله وجود اتفاق موثق بين الطرفان يتضمن تفاصيل تأدية الدين”.
أقرت هيئة الشام الإسلامية إحدى مكونات المجلس الإسلامي السوري في فتوى لها، الخلاف الحاصل، وفرقت فيه بين حالتين: أن يكون الغلاء أو الرخص في قيمة العملة يسيراً، بحيث لا يصل الانخفاض أو الغلاء إلى الثلث، ففي هذه الحالة يكون الواجب “ردّ المثل”، أما إن كان التغير في قيمة العملة يزيد عن الثلث وتنازع الطرفان، فيجب التصالح بين طرفي العقد بحيث يتم تقدير الخسارة، ويتحمل كل طرف جزء برضاهما.