فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

“كادا كريتاي” .. بــرزخ سوري في بــاريـــــس 

البرزخ حد فاصل بيْن شيئين، وثمة من يؤمن أن القبر ويُبعث فيه الميت على الفور حياً، هو برزخ، حياةٌ بين حياتيْن، حياة متروكة فانية منتهية، وحياة استقرار باقية تؤمل فيها […]

البرزخ حد فاصل بيْن شيئين، وثمة من يؤمن أن القبر ويُبعث فيه الميت على الفور حياً، هو برزخ، حياةٌ بين حياتيْن، حياة متروكة فانية منتهية، وحياة استقرار باقية تؤمل فيها الراحة الأبدية. حياة البرزخ -وفق هذا التصور -عملياً هي محض انتظار. الانتظار هو نصف حياة ونصف موت.

أميل إلى ما سبق رغبة في تبسيط وصف مكان اختبره آلاف السوريين اللاجئين إلى فرنسا، مكان بعينه، سكن جماعي مخصص لطالبي اللجوء في فرنسا، يقع في إحدى ضواحي باريس، هو “كادا كريتاي”.

مكان يتدفق إليه سوريون ناجون من المَقتلة، الحرب جزء منها، ممن افترسهم اليأس والتيه في مسالك النزوح أو اللجوء في دول الجوار، وثقُلت أرواحهم بالخوف، بكل تجلياته ونكهاته ودرجاته، واستوطن فيهم.

سوريون أُغلقت في وجوههم أبواب الأمل والخلاص، وصارت الجغرافية عبئاً عليهم، فهدّوا جداراً بينهم وبين أوروبا، تتسرب منه أعمارهم الماضية لتصب في بحيرات آسنة من الخيبات، ويحثون الخطى إلى لحظة صفرية، إلى ولادة جديدة مرتجاة. طرقوا باب السفارات الفرنسية في دول الجوار، كتبوا قصصهم، زاروا السفارات في أول عملية تحقق من تلك القصص.

كنت أنصح نفسي ونصحت لاحقاً كثيرين، لا تروي الحقيقة كاملة، حقائقنا ليست كلها قابلة للتصديق. أن تستحضر وتُلخص حياتك في قصة إن لم تكن قاصاً أو روائياً، فهذا أمر يحدث عادة فقط في اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت، وفي حالتنا هذه، بين الموت والحياة.

حرث هؤلاء أشهر انتظارهم “موافقة السفر” في هَندَسة خيالاتهم بشأن ذاك المكان البعيد، خيال تأسس على حلم عيش حياة جديدة آمنة كريمة، خيال تنتظره محطة أولى وتروضه، ونسعى ههنا إلى سبر تفاصيلها، وما حفرته في وجدان المارين فيها، محطتهم الأولى هذه كانت مسرحاً لأول مواجهة بين تلك الخيالات والواقع، مسرح انتظار مُرّ، اخترنا ستة من رواده، ستة فصول منه، ست قصص، ست حيوات، مرت في “كادا كريتاي”.

“كريتاي”

في شمالي وسط فرنسا، تقع منطقة إيل دو فرانس Île-de-France، وعاصمتها باريس، واحدة من ١٨ منطقة في فرنسا، هي الأصغر والأكثر اكتظاظاً بالسكان والأغنى، تساهم وحدها في ثلث الناتج الفرنسي الإجمالي، وتُعد إحدى أغنى المناطق في أوروبا، والرابعة على مستوى العالم، ويُقال لو أن هذه المنطقة باتت دولة مستقلة لكان ترتيبها الخامس عشر عالمياً من حيث الميزانية، وحول القلب (باريس) تلتف ثماني تقسيمات إدارية، منها “فال دو مارن” في الجنوب الشرقي، مركزها مدينة كريتاي، تبعد ١١,٥ كيلو متراً عن باريس.

كريتاي، تاريخها يمتد من العصر الحجري القديم، وُجد فيها مشغلاً لسك النقود التي استخدمها “الغاليون” في الألف الثانية قبل الميلاد، والغاليون نسبة إلى بلاد الغال، تسمية أطلقها الرومان على المساحة الممتدة اليوم على دول فرنسا وبلجيكا ولكسمبورغ، ومعظم سويسرا، وأجزاء من إيطاليا وألمانيا وهولندا.

الغاليون رجال حرب، اكتسحوا في القرن الرابع الميلادي روما، نهبوها وأحرقوها. ظلت بلاد الغال لفترة طويلة مسرحاً لحروب أهلية، وهجمات خارجية مدمرة، وكريتاي كانت تقع على الدوام في قلب تلك الأحداث، آخر الهجمات المدمرة فيها كانت في القرن التاسع عشر في إطار الحرب الفرنسية البروسية.

ما سبق، أو معظمه، كان أول ما لفتني في “ويكيبيديا” حين بحثت عن “كريتاي” لأول مرة وأنا في الدوحة، فور وصول بريد إلكتروني من السفارة الفرنسية في أنقرة، يحمل موافقة على السفر، ويحدد مكان الوصول إلى فرنسا، إلى كريتاي.

على الأرجح، للمقدمة السابقة وجهان، كلاهما انتقائي، الأول يرتبط بمخيال القادمين إلى أوروبا، أنها بلاد فيها وفرة، مادية ومعنوية، والوجه الثاني تغريني فيه على الدوام تفاصيل الحرب والخراب، واستحضارها في هذا المقام ربما يأتي في محاولة اندماج مبكرة، رحلة بحث عن شبه بين أرواحنا المؤثثة بالخراب والمكان الأنيق الذاهبون إليه، نحت لغة مشتركة، بين ماضي المكان وحاضرنا، باستثناء عقدة غير محسوبة، وهي “كادا كريتاي” .

الكادا

كنت قد أعددت خطة لجوء متكاملة، وهيأت لها كل ما هو ممكن، واخترت مدينة بوردو مستقراً، لكن السفارة الفرنسية في رد مثير للاستغراب رفضت كل هذه الترتيبات وألزمتني بالسفر إلى باريس، إلى “كادا كريتاي” .

وأنا في بيتي في غازي عنتاب التركية، ذهبت في رحلة افتراضية إلى المكان بمعية الأخ غوغل، وفعلاً اهتديت إليه. بدا بناء ضخماً أبيض اللون متفرعاً بشكل غير مفهوم، عدت إلى الغوغل أملا في لقطة من الأعلى، وتبيّن أن المبنى على شكل حرف زائد، لا أدري كيف خطر في بالي مبنى سجن صيدنايا، ربما هي لعنة المقاربة في بعض تجلياتها في ذهن السوريين وقد مارس النظام فيه تشويهاً لا ينكر، مثل أن تنظر برعب وريبة إلى سيارة بيجو ستيشن، فهي على الدوام سيارة المخابرات. المقر العالمي لشركة بيجو ليس بعيدا عن “كادا كريتاي”

مركز استقبال اللاجئين (الكادا)- انترنت

الكادا، CADA، هي اختصار Centre d’accueil de demandeurs d’asile، أي مركز استقبال طالبي اللجوء، وهذه المراكز موزعة في عموم الأراضي الفرنسية، تأسست بموجب خطة وطنية لاستيعاب طالبي اللجوء، أحد هذه المراكز هو “كادا كريتاي” Cada de Créteil، وعلى موقعها الرسمي، أوضحت مهمتها المتمثلة في تقديم السكن، السكن الجماعي، مع مراعاة الاستقلالية، وتقديم الرعاية والدعم الاجتماعي والقانوني والإداري، والمساعدة في الاندماج، هل يتحقق ذلك؟! .

شبهٌ آخر

كنت لا زلت في تركيا أبحث، ولفتني في صورة المكان عاموداً قصيرا منصوبا في مدخل أثار فضولي، الكتابة عليه لم تكن واضحة، وُفقت بصورة دقتها أكبر، وتبين أن العمود يحمل شعاراً باللون الأزرق يخص الجمعية المعنية باستقبالي واسمها “فرنسا أرض اللجوء”، أحببت هذا الاسم حباً ممزوجاً بحسرة غريبة، ربما بسبب بلاد عربية وإسلامية تتفنن في التضييق على السوريين، حرمانا ومنّة، سبقنا في ذلك، الفلسطينيون. أبحث عن أي عذر لرعاية الحقد في داخلي اتجاه بلاد حرمتني من أمي، حيّة وميّتة.

أما في بقية المكتوب على العمود فقد حمل لي مفاجأة، هي أن “كادا كريتاي” المشهورة بهذا الاسم بين السوريين تحمل هوية واسما آخر هو ” مركز ميغيل أنخل إستريلا” Miguel Ángel Estrella، وفورا “غوغَلته”، وتبيّن أن هذا الرجل عازف بيانو ودبلوماسي أرجنيتي، كما تعرّف عنه السطور الشحيحة في ويكيبديا العربية، معلومات لا تبرر حمل المكان اسم هذا الرجل، من الأنسب أن يحمله والحال هذه مركزاً ثقافياً، معهداً موسيقياً، أو مدرسة يأتي إليها بشار الجعفري ليتعلم الدبلوماسية في طريقه إلى محكمة الجنايات الدولية، فكرة طارئة هربت منها ومن بشار الجعفري و الويكيبيديا العربية وبلاد العرب،  لذا وكالعادة فررت لاجئاً إلى الويكيبيديا الأجنبية، وهناك كانت الدهشة جالسة تنتظرني.

نحن في ضيافة مَن؟

“ميغيل أنخل إستريلا ” Miguel Ángel Estrella، المولود عام ١٩٤٠ في الأرجنتين، نُفي في سبعينيات القرن الماضي من بلاده، وفي عام ١٩٧٦ سُجن وعُذب في سجون الديكتاتورية العسكرية في الأوروغواي، كان حينها فناناً مغموراً، يائساً في سجنه، يقول لمعذبيه: “أنا وحيد لا أحد يرفع إصبعه لمساعدتي”. إلى أن جاء الملاك المُحرِّر، وهذه قصة تستحق أن تُروى، عن صاحبنا الذي حملت “كادتنا” اسمه.

الملاك المُحرِّر، هو وصف ميغيل أنخل إستريلا لرجل أعمال فرنسي اسمه إيف هاغونيور Yves Haguenauer، والذي ترك أعماله لشقيقه، وسافر إلى أمريكيا اللاتينية، إلى الأورغواي محاولاً إنقاذ “إستريلا” من المعتقل، واستبسل في مساعيه بما فيها انخراطه بمفاوضات مع الجيش هناك، لكن دون جدوى.

إيف هاغونيور، لم يستسلم، وخطرت له فكرة، وهي توزيع آلاف النسخ من معزوفات الفنان المغمور المعتقل (إستريلا)، وقاد حراكاً بين الموسيقيين والسياسيين في إطار حملة ضغط وصف نتائجها بهذه الكلمات: “لقد تحركت الأرض والسماء”، وأثمرت فعلاً، وأُفرج عن “إستريلا” بداية ثمانينيات القرن الماضي، وجاء به صديقه إلى باريس.

أمر آخر، ميغيل أنخيل إستريلا، هو مُحلف في محكمة راسل، وهذه المحكمة أسستها عام ٢٠٠٩ مؤسسة بيرتراند راسل للسلام، وتتعاطى هذه المحكمة مع الأسئلة والقضايا التي تحاول الأمم المتحدة تجنبها، في مقدمتها: تجارة السلاح مع “إسرائيل”، ومسؤولية الاتحاد الأوروبي عن معاناة الفلسطينيين، ودستور “إسرائيل” الذي يرسخ كونها دولة فصل عنصري، فلسطين مرة ثانية.

تبلغ المفارقة تلك ذروتها، إذ أن مدينة كريتاي، وقعت اتفاقيتي توأمة فقط مع مدينتين، الأولى روسية (كيسلوفودسك)، والثانية مدينة (كريات يام) الإسرائيلية، المؤسسة عام ١٩٤٥ في فلسطين، فلسطين مرة ثالثة.

قبل أن تتمكن مني التفاصيل ودلالاتها واسقاطاتها،  نسخت اسم Miguel Ángel Estrella في اليوتيوب، وكان أول لقاء بيننا، وجها لوجه، بيني وبين ميغيل، في مقطع كان ترتيبه الثاني عنوانه Miguel Angel Estrella, joue au piano، أي ميغيل إنخل إستريلا يعزف على البيانو، دون تحديد اسم المقطوعة، ربما هي لشوبان، لا يهم، سأختار أنا عنواناً لها، واستسلمت في تلك اللحظة بمتابعة الرجل وهو يعزف، المقطع مسجل بعد أربعة أعوام فقط من خروجه من المعتقل، كان ساحراً، المقطع وصاحبه، فهذه الأصابع لا تزال تختزن آلاماً غضة طرية تركها السجّان، روحه كشفت وشفّت، بدا الرجل وكأنه ما يزال في سجنه يُعذب لكنه هذه المرة يقاوم، كنت في لغة جسده، أقرؤني، وأرى مئات الوجوه التي أغمضت الإغماض الأخير بين يدي الجلاد في بلادي، كان مشهد بوح شفاف، يشدك إليه لاجئاً، ويبقيك منتمياً إليه، إلى كون مواز، لا أسئلة فيه ولا لغات ولا جنسيات، الآلام فيه كما الأحلام، مغرية وجميلة.

من الأرجنتين إلى سوريا، من الأرغواي إلى صيدنايا وفلسطين وتركيا، دروب متداخلة، رُصفت بعذابات وأجساد طحنتها أحلام الحرية والكرامة والخلاص، ما بقي منها اختار أن يرمم نفسه انطلاقاً من “كادا كريتاي” ، كن ملاكنا المحرّر يا “ميغيل أنخل إستريلا” افتح ذراعيك لي، لنا، ولهم، وأطوي في شغاف قلبك قلوبنا المتعبة، وهدهد أرواحنا المنهكة، واجعل في عيوننا أمل الخلاص رقراقاً حلواً هيناً ليناً وقريباً، فقد تحدد موعد السفر، في العاشر من أكتوبر، 2021.

الوصول

في اليوم التالي، في الحادي عشر من أكتوبر 2021، وصلت وعائلتي إلى باريس، إلى مطار شارل ديغول، كان في استقبالي صديقان عزيزان، وموفدة من “كادا كريتاي” ركبنا جميعنا السيارة وخلال أقل من ساعة وصلنا إلى “الكادا”، أو كما أحب تسميته “مأوى الملاك المحِّرر”.

وصلنا إلى ساحة المبنى، صديقيّ تكفلا بإنزال الحقائب، وأمام ذلك العامود وقفت متأملاً، المكتوب بالفرنسية، ميّزت فقط اسم “Miguel Ángel Estrella”، حييته دون تكلف، فلسنا غريبين عن بعضنا البعض.

صيد / نايا

“كادا كريتاي” مبنى من أربعة طوابق، موزعة بشكل شعاعي إن صح التعبير، انسجاماً مع تصميم المبنى على شكل حرف زائد، القريب كما أسلفت من تصميم سجن صيدنايا، في المركز تقع السلالم، المؤدية إلى الأجنحة، لكل جناح باب خاص، يٌفضي إلى ما يشبه السرداب موزعة على جانبيه الغرف المختلفة الحجم، وعددها تسع غرف، ولكل جناح مرافق عامة مشتركة، مطبخ واحد، وحمامات.

صيدنايا، اختُلف في أصل التسمية لكن معظم الآراء تحوم حول “الصيد”.  “نايا” في اليونانية تعني “الجديد”. “صيدٌ جديد” نحت مناسب لا ينكره القادمون في وصف أنفسهم أول وصولهم.

في القبو يوجد المطعم، وفي الطابق الأول الاستقبال، وفي الطابق الثاني الإدارة المسؤولة عنا، نحن الذين يُطلق علينا، “ترانزيت” أي أننا مجرد عابرون، فهمنا أن هناك من يقيم في الكادا لأشهر طويلة. فكرة أنك عابر مؤقت في المكان تزيد من وطأة وثقل الانتظار، عشرة أعوام ونحن مجرد عابرون.

وجوه باسمة، لطيفة، هي وجوه العاملين في المركز، تفاهمنا بالإنكليزية، صعدنا طابقين إلى مقر الإدارة، عند الباب التقينا بشاب ملامحه تنضح طيبة، عيناه تُبرقان بالكلام قبل أن ينطقه: الغرفة ٤٢٥، قالها الشاب باللغة العربية، هو عزيز، فرنسي من أصل عربي مغربي.

صعدنا بعد ذلك سلالم اعتقدت أنها لن تنته، وأخيرا وصلت مخطوف الأنفاس إلى باب الجناح، الذي انفتح على ممر ذكرني بممر في قبو الأمن الجنائي في حلب، معتم مريب، جئته من المخابرات الجوية وغادرته إلى سجن حلب المركزي، لم تُخرجني من هذا الخاطر سوى روائح حادة، مثل روائح القيح التي يألفها المعتقلون.

تبادلنا أنا وزوجتي نظرات سريعة مغلّفة بالصدمة والبؤس متنكرة بابتسامة جافة، في العمق، آخر الممر، باب كُتب عليه الرقم ٤٢٥، وانفتح الباب ليفتح معه أبواباً كثيرة، إلى الماضي والمستقبل، للغصة باب وللقهر أبواب، وأجلّ الأبواب باب الصبر، نلجه قسراً أو طوعاً، وهذا أول قرار.

غرفة في مركز استقبال اللاجئين (الكادا)- رأفت الرفاعي

عند الباب فجأة، صدرت عن ابنتي الكبرى (ناتالي) ردة فعل عنيفة صاخبة، بدأت بضرب رجلها الأرض احتجاجاً ورفضاً للدخول وهي تصيح بجمل من قبيل: هذا ليس فندقا.. الرائحة مقرفة.. لا أريد الدخول، ما تسبب بحرج شديد، أسكتنا جميعاً، ومزق كل خططي في إعطاء انطباع أول جيد. حتى ولو كان المكان كذلك، فهذا أمر بيننا وبين حجارته، القائمون عليه ليس ذنبهم، هذا رأيي، يستحقون تقديراً ضمنياً ومعلناً.

نزلت إلى ساحة المبنى بعد بضع ساعات، أنتظر صديقيَ الذين ذهبا لشراء خط هاتف لي، خلال انتظاري لهم صادفت “عزيز”، بادرته شاكراً معتذراً، فقال لي: ندرك أن الإقامة هنا صعبة… قاطعته وقلت له بعد عبارات الشكر والاعتذار أننا ممتلئون بالرضا جئنا نبحث عن حياة جديدة لأولادنا، ولنا نحن فيما بقي من حياتنا، وهذا يعني عشرات السنين القادمة فلا ضير من صبر أيام.

بعد ذلك وصل صديقي، كان مصطفى يحمل فنجان قهوة اكسبريس، جلبها من مكان بعيد، يتحايل أن لا تنسكب في نزوله وصعوده في أكثر من محطة، كان فنجان القهوة ذلك كفيلاً بغسل التعب، محفزاً على ضرورة الإجابة عن السؤال: وماذا بعد؟

السعي وراء السعادة

في فيلم السعي وراء السعادة، مشهد عنّ على بالي فجأة، مشهد أسطوري، في ذروة تشرد البطل وابنه وكانا حينها في محطة ميترو خاوية، لا مكان يذهبون إليه، يعرض المشهد في بدايته الطفل حزيناً، والأب مهموماً، فجأة، حوّل البطل (ويل سميث) لحظات التشرد والانتظار والقهر، إلى لعبة: تعال نتخيل أن كائنات فضائية استولت على الأرض، وبقيا هكذا إلى أن هدّ التعب الطفل، حمله أبوه وناما في المراحيض، لا أنسى ما حييت نهاية المشهد، حين طُرق باب المراحيض بإصرار في الصباح، لا أنسى يدي البطل، واحدة تمسك الباب والأخرى تسد أذني طفله، وكأن ما بين يديه مشارق الأرض ومغاربها، بينهما تكثيف لقهر البشر كلهم، ثم انسكبت دمعة ظلت حبيسة لثوان، تكفي أن تُملّح هذا الكوكب، وتغرقه.

تدريجياً، حوّلنا أنا وزوجتي كل شيء إلى تسلية، نحن الناجون من القصف والقتل، حين نقرر التسلية نفعلها كما لا يفعلها أحد، مثلاً أطلقنا حرب الصراصير، التي كانت منتشرة بكثافة، كنت البطل الخارق، مع أداة وقوة خاصة، بخاخ يقتل الصراصير، صرت ألاحقها أينما كانت، تصيح ابنتي الكبرى: هنا على السقف، والصغرى: لا لا هنا قرب السرير، وأنا أفرد ذراعي هنا وهناك، أقفز تارة، وأنحني في أخرى، بطريقة درامية مبالغ بها، ليست المرة الأولى التي أستفيد بها من تجربة قصيرة في المسرح،  تقول ابنتي الصغرى بلغة عربية ركيكة: “بابا إنتِ قوية”.

القوة والشجاعة منبت قرار اللجوء وتربته وماؤه، بدء حياة جديدة، اقتحام المجهول، ترك وضعية مهنية ومادية وحياتية ظاهرها مغر، وباطنها وهم، الابتعاد عن البلاد والقبور والوجوه التي عاهدت نفسك أن تبقى بقربها. كل هذا يحتاج إلى القوة والثقة، في محيطات من أسباب تُضعفك وتهزّك، تقتلك ببطء.

وبهذه القوة المغزولة بالأمل مضينا، نقاوم نزقاً هنا، وتعكيراً هناك، بسبب بؤس المكان، وتأجيل غير مبرر لأيام طويلة عدم البدء بأي إجراء رسمي، لكن حاولنا في غرفتنا، أو هما للأمانة غرفتين مفتوحتين على بعضهما البعض، حاولنا توفير الحد الأقصى من النظافة والراحة والاستقرار، نصنع قهوتنا، و نطبخ أشياء خفيفة، حياة كفاف يكفكفها الرضى.

الانغماس فجأة في المكان وتحدياته وتحمّل قسوة الانتظار تعزلك تماماً عن فكرة أنك في فرنسا أو باريس على وجه الخصوص، كنا نحتاج إلى برهان أننا في باريس، لذلك ومنذ اليوم الثاني تجولنا على عجل نتلمس معالم باريس التي نعرفها، نغرف منها ما يزين ليالينا في الكادا، ونخطط فيها لليوم التالي، وبدأنا هنا “على الخفيف” في تعلم الفرنسية.

في منتصف نوفمبر، تلقيت هاتفا من عزيز، عزيز اسم الموظف وليس وصفاً، نزلت مسرعاً وأبلغني بشكل غير رسمي، أنها قد أزفت الآزفة، وسأنتقل من “كادا كريتاي” إلى مدينة اسمها إيفرو EVREUX لم أسمع البقية، لكن اندفعت واحتضنت عزيز بحرارة، وإلى اليوم لا أعرف لماذا، ربما هي شماتة بالانتظار وقسوته، وهنا صار عزيز عزيزاً.

في مبنى “كادا كريتاي” جناح في الطابق الأول لا يدخله القاطنون في المبنى، دخلته يوما خلسة مع عائلتي في إحدى مغامراتنا الصغيرة، وفوجئت بوجود بيانو، ركضت ابنتي وبدأت تعزف، ما زالت في البدايات، لكن كان المشهد كافياً ليستحضر طيف ملاكنا المحرر، إستريلا.

مركز استقبال اللاجئين (الكادا)- انترنت

في محاولة النفاذ بعمق في هذه التجربة آثرت إلى جانب ما سبق سبر تجارب أخرى تزامنت مع تجربتي، وكذلك تجارب آخرين غادروا الكادا منذ زمن، في محاولة لاستحضار التجربة من ماض في ضوء حاضر أصحابه حفروا ملامح حضورهم في المجتمع الفرنسي.

اخترت خمسة أشخاص، ثلاثة تزامنت إقامتي مع إقامتهم، بين شهري أكتوبر ونوفمبر، واثنين مرا في الكادا قبل وقت طويل نسبيا.

الواصلون الجدد: محمد خليل، وهو ناشط حقوقي من ريف حلب جاء من تركيا، وعمار حمو، صحفي من دوما بريف دمشق جاء من الأردن، ووسيم العواد، طاهٍ من ريف درعا، جاء من لبنان. وأما القُدامى: نائل الحريري، طبيب ومترجم من حلب يستقر اليوم في إحدى ضواحي باريس، غادر الكادا في يوليو ٢٠١٧، ومصطفى الخطيب، صحفي من حلب، غادر الكادا في نيسان ٢٠١٩، ويستقر اليوم في بوردو.

يتربص بك الندم

في الفترة ذاتها التي كنت فيها داخل “كادا كريتاي” ، أي في أكتوبر من العام الماضي وقبل أيام من وصولي، قدِم من تركيا إلى فرنسا الناشط الحقوقي، محمد خليل، لديه ثلاثة أبناء، وكانت الكادا محطته الأولى، هو أول من التقيته في الكادا.

فجأة يتحول لقاؤك بسوري في الكادا وكأنه تدخل اسعافي في وعكة غربة طارئة، أو مؤنساً في غابة موحشة، ويكون التدخل فعالاً أكثر مع من يسبقك في القدوم إلى الكادا بأيام، تتحول أمامه إلى بركان نشط من الأسئلة، تستجلي الإجابات عن أدق التفاصيل، في تواطؤ خفي ترتجي من خلاله التفاؤل والتطمينات.

يرى محمد خليل أن تجربة الكادا كلها سلبيات، باستثناء ما يعقده المقيم من علاقات وصداقات، مشيراً إلى أن أشد السلبيات مرارة هي غياب الخصوصية، والنظافة، ورداءة الطعام أو غرابته.

ويذكر “خليل” أن قدرته على التحمل لم تسعفه بداية وصوله التي وصفها بـ الصادمة، فما كان منه إلا أن غادر الكادا، للإقامة عند صديق في باريس، وبقي هناك ثمانية أيام قبل أن تتصل فيه إدارة الكادا تطلب منه العودة.

تُبقيك الكادا وفق محمد خليل في حالة انتظار واستنزاف معنوي مبدياً استغرابه من بقائه لحظة وصوله ولمدة ٢٢ يوماً دون أن تبادر الكادا بأي خطوة، ووسط كل ذلك يقول إنك للحظات تشعر أن قرار المجيء إلى فرنسا هو أسوأ قرار اتخذته في حياتك.

مصطفى الخطيب، الذي غادر الكادا قبل نحو ثلاث سنوات، يقول إن رائحة المكان لا تزال حاضرة تستفز الذاكرة، يصفها على أنها مزيج من البهارات الهندية، وشيء من رائحة “المراحيض العامة” التي نعرفها في سوريا، ومعها رائحة “مراكز الإيواء”.

عند هذه الجزئية توقفت واستدعيت هذا الوصف محاولة لفهمه “رائحة مراكز الإيواء”، حاولت البحث عنها من خلال تجربتي الشخصية، هي على الأرجح رائحة “التكدس البشري”، مثل تلك التي تميز رائحة المعتقلات، رائحة يعرفها المعتقلون جيداً، تتكفل بتعذيبهم بين كل جلستي تعذيب، إلى أن تجف كل مصادر الدهشة، ويألف المعتقلون الرائحة، والتعذيب والجلاد والموت.

نعود إلى مصطفى، يقول: الرائحة تُحاصرك في كل مكان، ويستوطن فيك غثيان دائم، تأكل وتدخن وتشرب القهوة، وبقايا القيء في حنجرتك، أنت جاهز دوما ليستفرغ قلبك كل ما فيه.

المعضلة الثانية، وفق محمد خليل، هي أن رب العائلة يُجبَر على حبس كل مشاعره، ويرى نفسه مضطراً لنضح المبررات من بركة جافة، مبررات تُقدَّم للزوجة لزيادة منسوب التحمل والصبر، والأهم هو ذاك العجز عن تقديم إجابات لأسئلة أطفاله، الرافضين لهذا التحول، ويقول: هذا حقهم كانت لهم حياة جيدة في تركيا، وظيفة ممتازة، ودخل مادي ممتاز، وفجأة تشعر أنك أدخلتهم إلى كهف.

الأطفال في تركيا لا يتابعون تصريحات حزب الشعب الجمهوري التركي، ولا تغريدات العنصريين الأتراك، كما أنهم لا يكترثون لمستقبل غير ملموس في اليد، الأطفال أجمل ما فيهم أنهم أبناء لحظتهم، واللحظة الحالية قاسية، والقسوة لا تُفسر ولا تُكسَر أو تتكسر، بل تكسِر.

لحظات الانكسار، مثل هذه اللحظات لا تُنسى، يستذكر مصطفى وجه زوجته المحتقن، المتأهب في كل لحظة للبكاء تحت وطأة اكتئاب حاد، لينفجر الغضب. روى لي مصطفى تفاصيل زواجه في حلب (الشرقية)، زوجته نجت بأعجوبة من الموت أكثر من مرة، في حلب وريفها. إننا نُشفى من الحرب حين نغضب، الكادا تساعد على ذلك، هي مثل العلاج بالصدمة.

اعتداء

بقي محمد خليل وعائلته ٤٢ يوما في “كادا كريتاي” لينتقل لاحقاً إلى مدينة بوردو، حيث انتقل قبله بعامين ونصف مصطفى، ولعل أكثر تجربة مثيرة للاستغراب وربما للاشمئزاز، ما يرويه عن تلك الليلة التي حاول مُقيمٌ الاعتداء على غرفة فيها امرأة سورية وابنتها.

يستذكر خليل تفاصيل تلك الليلة قائلاً: طرقت الأم باب غرفتنا تقول إن طرقاً مريباً على بابهم حدث، ثم عدت إلى غرفتي لكن ذلك الشخص كان قد عاد إلى غرفة المرأتين وكان يحاول الدخول عنوة إلى الغرفة.

وتحدث عن تفاصيل اشتباكه مع ذلك الشخص، والذي يبدو أنه لم يكن بوعيه: المفارقة أن ذلك الشخص صار يصيح طالباً البوليس، وحين جاء الأمن “السيكيورتي” وكان ذلك الشخص يتحدث الفرنسية وأنا لا، وللحظات بدوت وكأنني أنا المعتدي، بصعوبة وباستخدام المترجم، ثم حضور شخص جزائري، حتى فُهم الموقف، وفي اليوم التالي ذهب الجميع إلى قسم الشرطة.

تلك الليلة كنت خارجاً أدخن، عدت ووجدت ذلك الشاب نصف عارٍ عند الاستقبال، وحوله رجال الشرطة، صعدت الدرج إلى الغرفة، تناثرت على الأدراج قطع الثياب، أعداد كبيرة من الأقنعة، كان مشهداً سورياليا، لم أفكر فيه كثيراً، معظم ما نراه في الكادا سوريالي.

طوابير الطوابير

وأخيرا، يقول محمد خليل، بالنسبة له لو حصل على الجنسية التركية ما كان سيتخذ على الأرجح قرار اللجوء بما توفره الجنسية من عوامل الاستقرار، وقدرة على السفر إلى دول عربية ممارسة المحاماة هناك تكون ممكنة. يختم محمد خليل وهو يراسلني من بيته الجديد المؤقت في جنوبي فرنسا: الظروف الآن تتحسن تدريجياً لكن تجربة الكادا حفرت عميقاً ومع الوقت أعتقد أن آثارها ستبقى.

اعتقادٌ مصداقه عند مصطفى، ما بعد الكادا أنت حرٌ في بناء ما يشبهك وتوده ضمن حدود جدران بيتك، يقول إن الكادا سباحة في واد غير ما ألفناه من أودية حياتنا السابقة، لا تكون أنت أنت، تشعر وكأنك تراقب نفسك بكل خدر.

طابور المطبخ الطويل الذي تصطف فيه ثلاث مرات في اليوم، طابور الحمامات التي حين تفتح ماءها تغسلك من رأسك إلى أخمص قدميك، ثم طابور الغسيل الجماعي، ونزق الرجال الذين لم يسبق أن ساعدوا زوجاتهم، وطابور الوعود، وعود عزيز التي لا تنتهي.

يختم مصطفى، عدت إلى الكادا بعد ذلك ثلاث مرات بهدف زيارة أصدقاء وصلوا إليها، لم يكن قد تغير شيء، ويضيف لا أنس أيضا “الابتسامات” دائمة الارتسام في الوجوه، الحديقة الخلفية، مقاه أبوابها مفتوحة دوماً للهروب.

يصير باب بيت صغير تُغلقه، يشتمل البيت على تواليت وحمام خاص حلماً، أسرع الأحلام تحققاً، تخرج من الكادا وقد طُبعت بطبع الاستفزاز فيه أقل والقدرة على الرضا أكبر، تجربة الكادا بالنسبة لكثير أو معظم طالبي اللجوء تكون على مبدأ “وإن منكم إلا واردها”، وفق تعبير مصطفى.

كان لافتاً استحضار مصطفى لوصف الغرفة ومحتوياتها أول الوصول إليها، حين استخدام مصطلح “دورات الأغرار في مهاجع الجيش في سوريا”، هذا الاستحضار شارك في ذكره، عمار حمو، صحفي من مدينة دوما، وصل بعد أيام قليلة من وصولي إلى الكادا، في أواخر أكتوبر من العام الفائت.

لا يكتفي عمار بوصف الكادا بدورة الأغرار، رغم نفيه بطبيعة الحال التطابق بين التجربتين، ويضيف أنه كان يتبادل بروح الدعابة مع آخرين خلال فترة الانتظار ويسألون بعضهم البعض: “إجاك الفرز ولا لسا؟ “، سؤال انتقلت عدواه إلى الأطفال، يقول عمار حمو: أكثر من مرة يسألني ابني ذي الأعوام الثمانية: متى سيكون فرزنا؟

عمار من جانبه أشار إلى أن اللجوء لم يخطر في باله رغم زيارته سابقاً دولا أوروبية عدة، وكذلك الولايات المتحدة، كان يصر على بقائه في الأردن، قريباً من سوريا وحلم العودة إليها، ورغم أن الميدان كان يباعد بينه وبين حلمه، إلا أن الفيصل في قرار اللجوء كان إغلاق المؤسسة الصحفية التي يعمل فيها تزامناً مع تبدل في توجهات الأردن وتجذيفها باتجاه النظام تطبيعاً معه وتضييقاً علينا.

تصبح فجأة مجرد رقم مجرداً من ذاتك بما راكمته طيلة سنوات، باستثناء أن يُطلب منك كتابة قصتك، مطلب ينكأ الجراح وتستعيد معه المأساة، بيتك الذي هُجرت منه، مدينتك (دوما) المدمرة، ويُتاح لك في الكادا سماع قصص غيرك، تتعاطف معها وكأنها قصتك، وتشعر أن محدثك في بعض الأحيان يود أن يهون عليك حين يسرد عذاباته، وتبدأ نتيجة ذلك صوغ عقد مشترك بينك وبين المقيمين في المكان، عنوانه الرئيس: النجاة، ويبقى في قلبك غصة مئات آلاف السوريين العالقين في المخيمات.

إشارة عمار فجأة إلى السوريين العالقين في المخيمات ليست جملة مقحمة في السياق، وأنا عن قصد اخترت إضافتها. أعاني منها، وفهمت لاحقاً أن لهذه الحالة اسم وقد أُشبعت بحثا ودراسة، تسمى عقدة الناجي.

وجد عمار حمو، العزاء في الكادا فيما وصفه “لمّة السوريين”، تكاد تشبه لحظات التجمع أمام مبنى الكادا السيران، ويضيف عمار، تأتي بعد ذلك لحظات وداع أسرة جاء “فرزها”، نجتمع ونودعهم وكأن الأيام القليلة التي عشناها معا صارت سنوات.

ويبرز عمار حمو، جانباً مختلفاً من تجربة الكادا، يقول إنها أخرجته مما سماها “قوقعة” كون المأساة في العالم مركزها سوريا والسوريين، يتحدث عن سودانيين وأفغان وغيرهم في المكان، على اختلافهم جنسياتهم وألوانهم وتفاصيل معاناتهم لكن الكادا وحدّت فيما بينهم.

يتذكر حمو أول وصوله ويقول، نظرا إلى عدد أفراد عائلتي كان يجب أن أحصل على غرفة كبيرة أو غرفتين مفتوحتين على بعضهما البعض، لكن بسبب عدم توفر مثل هذه الغرف، أعطوني غرفتين في طابقين مختلفين، مساحة كل غرفة لا تتجاوز ٩ أمتار مربعة، وضعنا أغراضنا في غرفة وجلسنا معا في الغرفة الثانية إلى أن توفرت بعد أيام الغرفة المناسبة، وربما كانت هذه التجربة سبباً في الإحساس أن الغرفة الواسعة مكسباً وراحة، لذلك كنت أكثر تقبلاً ورضى.

في إحدى ضواحي باريس، نائل الحريري يرسل لي من بيت يملكه بعد أن كان أحد العابرين بـ “كادا كريتاي” وغادرها في يوليو ٢٠١٧ وقبل ذلك يقول: كنا أنا وزوجتي حرفياً “في الشارع” ونمنا في إحدى المرات بمحطة “غار دو ليون”، وتفاعلت معنا فتاة تعمل في مكتب الأوفي ووفرت لنا غرفة في “كادا كريتاي” .

يروي نائل، طلبت من زوجتي حينها أن نتعامل مع هذا الواقع ببعض البراغماتية، ونعتبر المكان فقط مكاناً نعود إليه ليلاً للنوم، وسخرنا وقتنا لحضور “كورسات اللغة” لساعات طويلة، في محاولة التقليل من الاحتكاك مع سلبيات المكان، الذي تعاملنا معه على أننا ضيوف.

أعطونا بطاقات للوجبات الثلاثة والتي توزع أسبوعياً، وكنا من النادر أن نأكل في الكادا، واعتبرت ما يقدمونه أكثر مما هو متوقع منهم. كانوا يفاجئوننا، لا أنسى دعوتهم جميع القاطنين في الكادا إلى الغداء، كانت حفلة شواء في الساحة الخارجية، مبادرة مؤثرة وجميلة، وفق وصف نائل.

ويروي أيضا، في إحدى المرات شاركنا بنشاط أقرب للسيران عند بحيرة “كريتاي” من الصباح للمساء، كان فريق الكادا لافتا في قدرته على إدارة النشاط، بما فيه من ألعاب ونقاشات، الأهم أن فريق العمل يُشعرك أنه يعرف النزلاء، يتابع أخبارهم وشيئا من تفاصيل حياتهم.

يورد نائل لحظة استدعاء المديرة له وإبلاغه بموافقة نقله إلى جنوبي فرنسا، وكيف واجه ذلك ببرود عكس ما تتوقعه، ذلك أنه كان على موعد مع أول فرصة عمل له بوصفه طبيبا،ً ويحتاج إلى رفض السكن مع بقاء المساعدة المالية في أول فترة، ورغم غرابة الطلب تفاعلت معه وأفلحت جهودها، يقول نائل أعجبت بتعامل المديرة معي بدون افتراضات مسبقة وفعلت ما لم يحصل سابقاً هنا، دون أن تقول في نفسها أن هذه الجهود قد تكون مضيعة للوقت.

يضيف نائل، حين غادرنا الكادا كان طاقم العمل عند الباب يودعنا مثل أي أصدقاء لنا، تمنوا لنا التوفيق، وخرجنا، دون أن نحمل أي مشاعر تجاه المكان وجدرانه وبنيته التحتية، لكن حملنا معنا الكثير من الحب لفريق العمل.

ويختم قائلاً، زوجتي (لورين) بدأت مشوارها المهني بعد مغادرتنا الكادا بالعمل في مكان يشبه الكادا، عاملة اجتماعية في مركز يُعنى بطالبي اللجوء، وهنا لا نستطيع أن نؤكد، ولا أن ننفي إن كان هذا أصله بذرة أثر زرعتها فينا الكادا.

يرونك إنساناً

وسيم العواد، من محافظة درعا، كان يعمل “شيف”، جاء من لبنان إلى فرنسا طالبا للجوء، يقول إن إحساس الراحة بدأ منذ أن وطئت قدماه مطار شارل ديغول، وكانت خطواته اللاحقة تغسل واقعاً بائساً في لبنان، من ذل وعنصرية بما فيها التضييق على السوريين في سوق العمل، ورغم اختصاره حالته بهذه الكلمات إلا أن التفاصيل أكثر قسوة وحزنا وبشاعة وكان لي حظ الاطلاع على قصة وسيم.

يعدد “العواد” المساوئ وفي مقدمتها غياب الخصوصية والاستقلالية، وضعف البنية التحتية في الكادا، لكنه لم يسترسل في ذلك، بل رأى أنه من الواجب الإشارة إلى تعامل الموظفين والمتطوعين في الكادا، يقول: تعاملهم معنا بكل اهتمام واحترام وانسانية، يصلك منه إحساس لم تشعر به في أي يوم من الأيام، لا في الوطن، ولا في لبنان، حين كنت عاملاً قبل الثورة، أو عاملاً لاجئاً محاصراً بالعنصرية بعد الثورة.  ويعقب، حتى ولو كانت هذه هي طبيعة عملهم، فأيضا أن ترى موظفا يعمل بكل هذا الإخلاص هذا أيضا شيء مستغرب في بلادنا، وهو يستحق التقدير والاحترام.

كان لافتا “وسيم” في تفاؤله، بل كان يحاول أن يخفف من وطأة المكان على الآخرين، من خلال مقارنة عذابات من جاء لاجئاً عن طريق البحر، أو مقارنة المكان بمخيمات اللاجئين الأخرى. وسيم عواد اختار مساعدتي حين غادرت الكادا، كان آخر وجه ودعته، هو وعزيز، وصديق آخر.

شهران ونصف الشهر، منذ أن غادرت الكادا، فترة كافية كي أتصالح مع ذلك المكان، وأنا لا أقبل بحل وسط، وبعد المصالحة وجدت صيغة فريدة لأحب ذلك المكان، أحب سلبياته، أحبه لأنه كان برزخاً مثالياً، لحياة بدأت أولى خطواتها، وقد شفيت من الأرق والقلق، وصرت حراً، مرة ثانية.