تخلّت نساء في الشمال السوري عن خزانات الملابس خاصتهن خلال رحلات النزوح، قسم منها بيع أو كسر أو ترك في البيوت القديمة، أخرى تحولت إلى صناديق غير مرتبة تحوي ألبسة ضاقت أو اهترأت وبات الاحتفاظ بها عبئاً جديداً على ربات المنازل في المساحات الضيقة التي هجّرن إليها داخل خيمة أو منزل لا تزيد مساحته عن أمتار قليلة، أما ما بقي من الملابس فتحول إلى تجارة جديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو داخل محلّات مخصصة، ليس الحديث هنا عن ثوب الزفاف، تعدّى ذلك إلى ملابس عادية وفساتين السهرة وغيرها.
لم أكن أعرف
تمرّ شهد، سيدة ثلاثينية تسكن بالقرب من مدينة سرمدا شمالي إدلب، على الصفحات المخصصة لعرض وبيع الأشياء المستعملة، تقلب بين الصور دون اكتراث، إلى أن وقعت عينها على صور تعرض فساتين للإيجار، من مختلف القياسات والألوان.
تقول شهد إنها المرة الأولى التي ترى فيها مثل هذه الإعلانات، سابقاً كانت تقتصر على ثوب الزفاف، لكنها اليوم تدخل في مختلف أنواع الملابس، لتفاجأ، بعد عملية بحث بسيطة، بعشرات الصفحات المخصصة لهذا النوع من التجارة وبالثياب المعروضة.
على “ماسنجر” تواصلت شهد مع صاحبة المنشور، سألتها عن الأنواع والأسعار المتوفرة وطريقة التوصيل، قالت إن الاستئجار يكون عادة في محل من المحلات الموزعة داخل الشمال السوري، وإن أجرة الفستان تختلف، حسب النوع والقماش والموديل والإكسسوار والملحقات، ويتراوح بدل الاستئجار بين خمسين إلى مئة ليرة تركية لليلة الواحدة.
في الصباح نقلت شهد ما عرفته لجاراتها في جلسة صباحية، تقول إن جميع من تحدثت معهن كن يعرفن بشأن هذه الإعلانات، وخضن سابقاً تجربة استئجار واحد من الفساتين المعروضة، وإن محلات ألبسة كثيرة يتوفر لديها ثياب للإيجار غير تلك المعروضة للبيع على واجهاتها.
حلّ معقول لمواجهة أسعار كاوية
النظر إلى واجهات محال الثياب في الشمال السوري يجبرك على الإسراع وتجنب المرور بها، هذا إن أردت ألا تصاب بـ “الإغماء” على حد قول مريم، تعيش في سرمدا.
تتراوح أسعار “ثوب الطلعة”، وهي ثياب يمكن الخروج بها أو حضور مناسبة معينة بين 200 إلى 700 ليرة تركية، وفساتين السهرة بين 1000 إلى 1500 ليرة تركية، تزيد هذه الأسعار في الأنواع الجيدة ويتضاعف سعرها، بحسب أم مصطفى، سيدة في الأربعين من العمر تعمل في محل بيع ثياب نسائية داخل مدينة إدلب.
تقول أم مصطفى إن ثمن ثوب واحد يعادل ما يتقاضاه عامل مياومة لشهر أو شهرين، وهو ما يفسر انتشار الطلب على الثياب المستعملة واستئجارها في مناسبات معينة.
تضيف أم مصطفى “استعاضت النساء عن ثياب الطلعة بما توفر من ثياب قديمة أو أسواق البالة، خاصة وأن تكاليف المعيشة تفرض التقنين بشراء الملابس لصالح أولويات أخرى”، إذ تتذيل الثياب قائمة الاحتياجات الأساسية رغم أهميتها وما تتركه من أثر في حياتها العامة والخاصة.
ترى أم مصطفى أن نساء كثيرات يتجنبن حضور المناسبات لهذا السبب، أو يلجأن للاستعارة أو استئجار ثياب لائقة بهذه المناسبات إن استطعن، خاصة وأن بدل الاستئجار يعتبر مرتفعاً أيضاً إذا ما قيس بدخل العائلات والمدة الزمنية.
تقول نور، وهي سيدة اقترب عمرها من بلوغ الثلاثين، تعيش في سرمدا بالقرب من منزل شهد أيضاً، إنها اضطرت لاستئجار فستان سهرة لحضور زفاف في حيهم، فـ “دخل زوجي لا يسمح بشراء مثل هذه الفساتين باهظة الثمن”، وتتحدث مريم جارة أخرى لهن أيضاً، أن زوجها عارض استئجار فستان لها، وطلب إليها الذهاب رفقته لشراء ما يناسبها قبل أن يتفاجأ بالأسعار، تقول “إن الأسعار الموضوعة على الثياب صدمته، كاد أن يغمى عليه حين أبديت إعجابي بأحد الفساتين يصل سعره إلى أزيد من ألفي ليرة تركية، وهو ما يتقاضاه من عمله لشهر ونصف الشهر، قبل أن يقفل راجعاً دون أن يشاهد باقي الفساتين التي يصل سعرها إلى خمسة آلاف ليرة تركية على الأقل”.
خزانات ملابس فارغة
تخبرنا أم عماد، وهي سيدة تجاوزت الثلاثين من العمر، صاحبة محل بيع وتأجير ثياب الزفاف وفساتين السهرة في مدينة سلقين، أن الإقبال تزايد في العامين الأخيرين على الثياب المستأجرة، وترجع هذا التزايد للضائقة الاقتصادية التي يمر بها سكان الشمال السوري، وقلة فرص العمل ونقص الدخل للمواطنين، وترى أن فكرة الفساتين المؤجرة تناسب أصحاب الدخل المحدود، حينما يضطرون لحضور مناسبة ما كزفاف أو غيره، ولا يتمكنون من شراء ثوب جديد لكل مناسبة. كما تعزو أم عماد سبب الاقبال المتزايد أخيراً على استئجار الفساتين، للزيادة التي لحقت بأعداد السكان في مدن الشمال ومنها سلقين، بسبب موجات التهجير المتعاقبة التي سكن أهلها المدينة والقضاء المحيط بها.
أم أحمد هي الأخرى تملك محلاً لتأجير الفساتين، في أحد المخيمات الواقعة شمال سرمدا، وتجد في مهنتها هذه، نوعاً من الخدمة والمساعدة تقدمها لنسوة كثيرات، بخاصة من يقطن المخيمات، فهي تساعدهم للظهور بمظهر لائق أمام الأخريات، خلال المناسبات والحفلات، وبتكلفة بسيطة لا تتعدى سبعين ليرة تركية للفستان، وألف وثلاثمائة ليرة تركية لثوب الزفاف، وهو مبلغ تراه “مقبولاً” إذا ما قيس بثمن الفساتين وثياب الزفاف التي يقتصر شراؤها على فئة محددة من أصحاب الدخل المرتفع.
وبحسب أم أحمد تمنح مهنة تأجير الثياب، النسوة فرصة للاستفادة من فساتينهن المركونة في الخزانات منذ مدة، تقول أم أحمد: “تأتي إلي النسوة ويطلبن مني عرض ملابس لهن في محلي للتأجير، وأنا أقوم بهذا وأتقاضى في المقابل نسبة عن كل مرة أؤجر فيها فستان لإحداهن”.
تروي صبحية، أم في منتصف الثلاثينات ونازحة من ريف حماة الغربي تقطن مخيماً قرب سرمدا، كيف استغنت عن علاقات الملابس في خزانتها، بعد أن فرغت الخزانة من الفساتين، فبعضها تمزق أثناء التنقل خلال النزوح، والبقية منها أرسلتها لأم أحمد وغيرها ليعملن على تأجيرها، مقابل عشرة ليرات تركية تتقاضاها عن كل مرة يؤجر فيها أحد فساتينها الثلاثة. بينما استغنت جارتها ختام عن الخزانة كلها، فزوجها قام ببيعها بعد النزوح مباشرة، لأنها أصبحت عبئا عليهم أثناء التنقل، ولعدم توفر مكان لها في المساحة الضيقة التي توفرها لهم غرف المخيمات. تقول ختام: “استعضت عن الخزانة بأدراج بلاستيكية لملابس الأولاد، وأكياس سماد بيضاء أو كراتين أضع فيها ملابس العائلة “.
خصوصية مشتركة
تبدي سحر، استغرابها من فكرة تأجير المرأة لثيابها، إذ تعتبرها متعلقات خاصة، ولا تحب أن يشاركها أحد تلك الخصوصية، وأن هذا ينطبق على كل ملابسها دون استثناء، فكيف بفستان غالباً ما يرتبط بمناسبة عزيزة، وعاش معها لحظات وذكريات سعيدة، فهي تبذل وقتاً وجهداً حتى تجد ما يعجبها من ثياب، ولا تحبذ أن تستغني عن تلك اللحظات أو تشاركها فيها أنثى أخرى.
في حين ترفض ايمان فكرة استئجار فستان، ولا تتخيل نفسها وهي ترتدي فستان سيدة أخرى، وتشاركها تلك الخصوصية، خاصة إن جمعتهما مناسبة معاً، وعلمت أنها صاحبة الفستان الذي ترتديه، عندها ستشعر بحرج شديد، لكنها لا تلوم الاخريات إذا قمن باستئجار فساتين، فعملها كموظفة في إحدى المنظمات يوفر لها دخلاً جيداً يمكنها من شراء فستان جديد، وهذا ليس حال الجميع.
تفضل هبة ارتداء قطع مميزة ولم يسبق أن ارتداها أحد قبلها، لكنها لا تعارض أن ترتدي أخريات ثيابها، فكل ما يهمها وقتها أن تكون أول من ارتداه، وبعدها يصبح قطعة عادية كغيره من الملابس. تعبر هبة عن شعورها بالقول: “مؤكد سأشعر بالسعادة لأن ذوقي في اختيار الملابس أعجب غيري، وناسب ذوقهن فاخترن ارتداءه”.
لا تتفق كل الفتيات اللواتي تحدثن معهن، ومعظمهن بأعمار متوسطة بين الثلاثين والأربعين عاماً، على خصوصية الفستان بنظرهن، مثل دعاء التي لم تجرب استئجار أو تأجير فستان من قبل، لكنها أعارت الكثير من فساتينها لصديقاتها، ولم يشعرها ذلك بانتهاك لخصوصيتها، وأن الفستان بنظرها مجرد قطعة قماش، ولا يشكل لديها أي نوع من الحميمية، ما يزعجها حقاً تقول دعاء: “أن تقوم إحدى صديقاتي بإعادة الفستان الي، وقد أحدثت فيه تلفاً ما، ما يضطرني عندها لإصلاحه”.
نقلت نساء ما تملكنه من ثياب إلى محلات الإيجار أو إلى صفحاتهن على وسائل التواصل الاجتماعي. بين مؤيدة ورافضة، تشعر نساء في الشمال السوري بخواء خزانات ملابسهن ما يضطرهن للحيرة عند كل مناسبة، مكتفيات بما يمكن أن يجدنه من حلول أو الابتعاد عن المناسبات العامة تجنباً للحرج أو ارتداء ثوب ملأت صوره وسائل التواصل الاجتماعي.