تتعلق الأنظار داخل إحدى الخيام في مخيم الهدى، بمدفأة قديمة رثة، يحسب الناظر إليها للمرة الأولى أنها قَطَعت عقوداً من العمل حتى وصلت إلى ما هي عليه، غير أن علاقتها بالفحم الحجري المشتعل داخلها، لم تتعدّ العام أو العامين.
وسط منخفضٍ ماطرٍ في الخارج، لا يجد الأهالي أملاً أكثر من مدفئة ذات أطراف معدنية رقيقة تزداد احمراراً مع كل وجبة جديدة من الفحم الحجري، وما أن تخمد نارها قليلاً ويختنق الدخان فيها، حتى تعود لتنفجر من جديد، وتتناثر شظايا الفحم الملتهبة من ثقوبها المهترئة، معلنة إعادة الإقلاع.
يحضر الفحم الحجري بقوة في مخيم الهدى وعشرات المخيمات في المنطقة الممتدة من بلدة الدانا بريف إدلب الشمالي وحتى الحدود السورية التركية، كوقود أساسي للتدفئة، لكن المشكلة في غياب المدافئ المخصصة له.
يعزو أبو مروان، مدير مخيم الهدى، سبب لجوء الشريحة الأكبر من سكان المخيم إلى الفحم الحجري، لاعتماد الكثير من المنظمات الإنسانية توزيعه على الأهالي النازحة في المخيمات دون غيره من مصادر التدفئة الأخرى في فصل الشتاء، إضافة لإمكانية شراء أكياس الفحم بالتقسيط من تجار الفحم في المنطقة.
مصادر الفحم الحجري
أوسع أسواق الفحم الحجري تقع في بلدة أطمة على الحدود السورية التركية، ويقصدها أهالي المنطقة والمناطق المجاورة لشرائه نتيجة وجود العشرات من المخيمات الحدودية، يبيع سكان فيها ما يمنح لهم من الفحم للتجار الموجودين في المنطقة أو قسم منه نظراَ لاعتمادهم على مصادر تدفئة أخرى أو قضاء فصل الشتاء دون مدافئ.
يقول أحمد الشايب، أحد تجار الفحم، إن “مصدر الفحم الحجري هو الأراضي التركية، يتم جلبه وتوزيعه من قبل المنظمات الإنسانية، ويوجد عشرات الأصناف تتراوح أسعارها بحسب جودتها وسرعة اشتعالها”.
يتراوح سعر كيس الفحم وزن ٢٥ كيلو غراماً بين 25 إلى 65 ليرة تركية، ويختلف السعر تبعاً لنوعية الفحم وجودته وسرعة اشتعاله، إضافة لِخلوه من الحجارة.
كما يتم تمييز الفحم من خلال لون الغلاف الخارجي، إذ يوجد العديد من الأصناف مثل الأكياس البرتقالية والخضراء والصفراء والحمراء، بالإضافة للأكياس الزرقاء التي تعتبر من أفضل الأنواع التي تنتجها شركات معروفة مثل “الجوزي” و”الأتاش”.
يوجد أيضاً فحم الحراقات الذي تنتجه محطات التكرير المحلية، ويُباع على هيئة أكوام يتم تعبئتها في أكياس، وبيعها حسب الوزن، وسعر الطن الواحد منه نحو ١٨٥دولاراً.
سابقاً، لم يكن الفحم الحجري ضمن مصادر التدفئة الأساسية في المخيمات، لكن مع بداية عام ٢٠١٦، وبالتزامن مع ارتفاع أسعار المحروقات، بدأت المنظمات الإنسانية بتوزيعه على الأهالي، وكان استخدامه محدوداً حينها، نتيجة غياب المدافئ المخصصة له، إذ أن معظم العائلات التي كانت تستخدمه تلجأ إلى مدافئ “البيرين” أو مدافئ المازوت، بعد تحويلها وإجراء بعض التعديلات عليها.
في السنوات الثلاث الماضية بدأ استخدام الفحم الحجري، مع دخول المدافئ المخصصة له إلى المحال التجارية بالمنطقة، إلا أن نسبة كبيرة من الأهالي، وتحديداً من يعيشون في المخيمات، لم يكونوا قادرين على شراء هذه المدافئ لارتفاع أسعارها، ما أدى إلى افتتاح ورش متخصصة بصناعة مدافئ الفحم أو تحويل أنواع أخرى من المدافئ بإضافة أدوات بدائية لها.
رحلة البحث عن مدفأة الفحم
في جولة بحث داخل المحلات التجارية المخصصة لبيع المدافئ في مدينة سلقين، تغيب مدافئ “الفونت“ المخصصة لإشعال الفحم عن غالبية المحلات.
يثير الانتباه وجود عشرات الأصناف من المدافئ أمام أحد أكبر محلات الجملة الموزعة للمدافئ في المدينة، أغلبها مدافئ تعمل على القشور بأنواعها، بالإضافة إلى مدافئ البيرين والمازوت وغيرها، وسط غياب لمدافئ الفحم الحجري التي تم الإبقاء عليها داخل المحل.
غَلَبَ على تلك المدافئ أناقة التصميم وانتمائها لماركات عالمية، والتي تتميز بصلابة معادنها المصنوعة من الفونت من الخارج، والقرميد الحراري من الداخل، وتتمتع بصلاحية استخدامها للفحم والحطب والبيرين واحتوائها على فرن.
يحتفظ التجار بمدافئ الفحم داخل المحلات، وذلك لارتفاع أسعارها،تبدأ بمئتي دولار وتنتهي بأربعمئة وخمسين دولاراً، ولثقل أوزانها التي تتراوح بين الثلاثين والمئة كيلو غراماً.
فرق السعر يكون عادة للمدافئ المستعملة، وهو ما كان يشرحه أحد تجار المدافئ للزبون الذي أنهى رحلة بحثه عن المدافئ بقوله “أربعمئة وخمسين دولار بتعيّشني سنة”.
صاحب المحل تحدث عن سبب غلائها وندرة وجودها في الأسواق، وأرجع ذلك إلى ارتفاع أسعارها الذي يتطلب رأس مال كبير؛ جعل وجودها مقتصراً على المحلات الكبيرة فقط.
ورش لصناعة مدافئ محلية
لم تُعرف صناعة المدافئ وتعديلها قبل عقدٍ من الآن، إلا أن دخول أصناف جديدة من الوقود لم تكن معروفة سابقاً في الشمال السوري، مثل المحروقات المكررة، ومروراً بأنواع مختلفة من الفحم والبيرين،وانتهاءً بالقشور، فتح المجال لتشكيل ورش بدائية تعمل على تصنيع أو تعديل المدافئ بما يتناسب مع الوقود المتداول، بتكلفة مختصرة، وجعلت منها مقصداً لشريحة واسعة من الأهالي بهدف التخلص من شراء مدفأة جديدة.
في الشارع الواصل بين قرى وبلدات البردغلي ودير حسان والذي كان يعتبر سابقاً من الطرق الموحشة، بات من أكثر الطرق اكتظاظاً بخيم النازحين حالياً.
عشرات المخيمات هنا وهناك تملأ المكان، وأسواق متقطعة، وورش تصنيع بدائية محدودة تتجلى في محلات الحدادة، والتي تحول معظمها إلى ورش لتصنيع المدافئ أو تعديلها.
تختلط في تلك الورش مواد وأدوات تنتمي لمهن عدة، فبالإضافة إلى قطع الحديد، هنالك أنابيب المياه المصنوعة من الفونت، وقطع القرميد الرقيقة، وأجهزة البخ، وبودرة الإسمنت، وغيرها من المواد اللازمة في تكوين تلك المدافئ.
واحدة من تلك الورش يملكها أبو صالح من بلدة حلفايا، والذي انشق قبل تسعة أعوام عن سلك الشرطة، واستقر في هذا الشارع منذ أربع سنوات.
يروي أبو صالح قصة نزوحه وهو يقطّع أحد أنابيب المياه المصنوعة من الفونت، والتي كانت تستخدم سابقاً كخطوط لتغذية المدن الرئيسية بالمياه، وكيف انتهى به المطاف بافتتاح ورشة حدادة، تحوّلت بشكل روتيني إلى ورشة تعديل وتصنيع المدافئ في فصل الشتاء، يشاركه فيها ولداه اللذان باتا يعملان معه في الورشة، بينما ينهمك أحد أولاده بجبل الطين والآخر بقص قطع الصاج الرقيق.
يقول أبو صالح “لا يقتصر عملنا على التعديل فقط، حيث نقوم بتصنيع نماذج مختلفة ونقوم بعرضها في الخارج، بالإضافة لتنفيذ مخططات وفق رغبة الزبون”.
وأثناء انهماك أبو صالح في الحديث، يقاطعه أحد الزبائن، وفي يده ورقة رسم عليها مخططاً لمدفأة تعمل بواسطة القشور، ويطلب من أبو صالح أن ينجزها له في أسرع وقت وفق التصميم الذي رسمه له.
مدافئ عدة يعرضها أبو صالح خارج المحل، وأغلبها لأشخاص جاؤوا بها من مخيمات مجاورة، لتعديلها بما يتناسب مع حرارة الفحم العالية، وبعضها عُرض للبيع، وغالبيتها مخصصة للفحم.
معظم تلك المدافئ تم تعديلها بواسطة تصفيحها من الداخل لتصبح صالحة لاستخدام الفحم الحجري الذي يتميز بحرارته العالية.
من بين تلك المدافئ ثمة مدفأة بيرين حافظت على شكلها الخارجي المستدير، إلا أن وزنها تضاعف عدة مرات. التعديلات التي طرأت عليها تظهر جلية من خلال تطويق جوانبها من الداخل بصفائح حديد لمنع تعرضها للاهتراء، وإنزال دلو من أنابيب المياه المصنوعة من الفونت، مساحة قطره 12 إنشاً، لوضع قطع الفحم داخله.
وهناك مدفأة أخرى مربعة الشكل، لكنها أكثر وزناً من تلك المستديرة،زوِّدت هي الأخرى بدلو مصفح صُنِعَ من جرّة أوكسجين، بعد قصها مناصفة، ليستعمل الجزء الآخر منها لمدفأة أخرى.
كما يجري تصفيحها من الداخل بقطع القرميد الناقل للحرارة، بالإضافة لتزويدها بعدد من أنابيب الفونت أقل اتساعاً، تم تحويلها من بيت النار وتوجيهها على زوايا المدفأة، وهو ما يسمح لمرور الحرارة داخلها، لإعداد الطعام عليها وتسخين المياه.
يقول أبو صالح “في عملية تعديل المدافئ غير المهيئة للفحم الحجري، نقوم بالاستغناء عن الجهاز السابق المصنوع من الحديد الرقيق، ونضع بدلاً منه جِرار الأوكسجين، أو أنابيب الفونت بعد قصها بطول خمسة وثلاثين سنتمتر، بعدها نعمل على تدعيم صفائحها الداخلية بصفائح حديد سميكة أو قطع قرميد ناقلة للحرارة”.
ويعتمد تحديد أسعار هذه المدافئ تبعاً لإجراءات التعديل التي تطرأ عليها، وتتراوح ما بين المائة والثلاثمائة ليرة تركية.
كما تختلف أسعار المدافئ التي تُصنَّع محلياً في تلك الورش، وتتراوح أسعار المخصصة منها للفحم ما بين الثلاثين والمئة دولار.
وهو ما يراه عبد الرحمن الحسن، نازح من ريف معرة النعمان، مقبولاً بعض الشيء، إذا ما قورن بأسعار مدافئ الفونت المستوردة.
بينما اكتفى أبو منذر بمدافئ البيرين، التي تبدأ أسعارها من ثمانية عشرة دولاراً لتشغيل الفحم، لوجود قطع تبديل لها في حال تعرضها للاهتراء، مثل الدلو المخصص لوضع الفحم، والشبك السفلي.