“لم تكن خبرتي في إزالة الألغام كفيلةً بتجنيبي مخاطرها فكنت أحد ضحاياها”، هكذا يصف “حسن مقداد” ما حصل معه، فرغم عمله مع الدفاع المدني في إزالة الذخائر والقنابل، إلا أنه فقد أحد ساقيّه بانفجار لغمٍ أرضيّ، حاله كحال مئات المدنيين الذين فقدوا حياتهم أو أصيبوا بسبب مخلفات الحرب التي باتت كابوساً يؤرق أهالي محافظة ادلب.
الإصابة أو الوفاة بأحد الألغام أو القنابل العنقودية، بات خبراً تتداوله وسائل الإعلام كل يومٍ أو أسبوعٍ تقريباً، ففي الإثنين الماضي قُتل الطفل “عبد الوهاب أصلان” (١٥ عاماً) من أهالي بلدة فيلون بريف إدلب، بانفجار ذخيرةٍ حربية من مخلفات قصفٍ سابقٍ لقوات النظام أثناء عمله في قطاف الزيتون.
ووثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” منذ آذار 2011 حتى كانون الأول الحالي، مقتل ما لا يقل عن 2773 مدنياً، عبر المئات من حوادث إنفجار الألغام في مختلف المحافظات السورية، بينهم 672 طفلاً، و292 سيدة (أنثى بالغة)، مشيرةً الى أن 156 منهم قُتل في ادلب بسبب مخلفات الحرب.
“الخبرة لا تحميك من الخطر”
“حسن مقداد” كان متطوعاً في الدفاع المدني منذ بدايات تأسيسه، وكان يعمل ضمن فريق إزالة الألغام، وخلال عمله في البحث عن بعض القنابل العنقودية نهاية 2014، انفجرت به إحدى القنابل، ما أدى الى بتر أحد ساقيّه وتفتت عظم الساق الأخرى
يقول حسن مقداد لفوكس حلب: “سبع سنوات مضت على تلك الحادثة الأليمة، وماتزال تفاصيلها عالقةً في ذهني، لا أنسى كيف استيقظت في المشفى بعدما كنت غائباً عن الوعي بسبب الإصابة، لأتفاجأ أن ببتر قدمي. صرخت حينها عالياً من شدة القهر، ودخلت في أزمةٍ نفسية شديدة”.
يضيف مقداد: “بعد عامٍ من الحزن والألم، قررت تحدي الإصابة والعودة للعمل، فسافرت إلى تركيا لتركيب طرفٍ صناعي، ومن ثم عدت الى إدلب لمواصلة عملي مع الدفاع المدني، فالإصابة زادتني تصميماً على العمل مع الفريق على إزالة الألغام، كي لا يذوق أحدٌ مرارة ما حصل معي، لاسيما أني كنت من ذوي الخبرة بمخلفات الحرب ورغم ذلك لم أنجو منها، فكيف هو الحال مع المدنيين الذين ربما يجهلون أغلب أشكال تلك الذخائر وطرق التعامل معها”.
موسم الرعب!
مخلفات الحرب سبّبت حالةً من الرعب لدى العاملين في مجال الزراعة، خاصةً ضمن المناطق الزراعية القريبة من خطوط التماس مع النظام، وزادت حالات الوفاة في إدلب بسبب الألغام خلال الفترة الأخيرة، ففي الشهر الماضي قُتل مدنييّن اثنيّن وأصيب آخرون بجروح، جراء انفجار لغمٍ أرضي بعددٍ من المدنيين، أثناء عملهم في قطاف الزيتون بالقرب من قرية سان بريف إدلب الجنوبي.
وفي آب الماضي قُتلت شابة وأُصيبت شقيقاتها بينهم طفلة، إثر إنفجار لغمٍ أرضيّ من مخلفات قوات النظام، خلال عملهم على جرارٍ زراعي ضمن أرضهم الزراعية في محيط بلدة كفرسجنة جنوبي محافظة إدلب، وفي الشهر ذاته قضى رجلٌ وطفله، عقب انفجار قنابلٍ عنقودية في محيط بلدة البارة في ريف إدلب الجنوبي خلال عملهما في جمع ثمار التين.
وسبق أن قُتل طفل في الـ15 من عمره، وأصيب آخر بجروحٍ متفاوتة، جراء انفجار جسمٍ من مخلفات الحرب في الأراضي الزراعية بمحيط قرية عين الحمرا في ريف إدلب الغربي، خلال عملهم برعي الأغنام في الخامس من شباط الماضي.
عبادة الخطيب من أهالي بلدة مغارة في جبل الزاوية، فقد أخاه العام الماضي خلال عمله في قطاف الزيتون، يقول إن السكان في جبل الزاوية أصبحوا يخشون من الدخول الى الأراضي الزراعية، بسبب انتشار مخلفات الحرب والقنابل العنقودية والألغام وتزايد تصعيد النظام، خاصة في مواسم القطاف التي أصحبت موسم الرعب بالنسبة لهم، بعدما كانت موسم الفرح بجني المحصول بعد تعبٍ طوال العام
يقول الخطيب: “في شهر آب من العام الماضي خرجت مع أخي لقطاف التين. كنا سعيدين بوفرة المحصول حينها، لكن سعادتنا تحوّلت الى حزنٍ وألم، فحين شارفنا على الانتهاء، فارق أخي الحياة عقب انفجار قنبلةٍ عنقودية كانت مزروعةً أسفل شجرة التين التي كان يعمل على قطافها”.
يتابع الخطيب قائلاً: “معظم سكان جبل الزاوية حرموا من أراضيهم، فأنت مُعرّضٌ بأي لحظةٍ لأن تكون ضحية انفجار الألغام، وأصبح المزارع محتاراً، هل يُراقب الطيران الحربي أم الاستطلاع أم القذائف أم القنابل والألغام، لكن البعض مضطرٌ للمجازفة بحياته لقطاف محصوله، فهو مصدر رزقه الوحيد”.
وتمنع هذه الألغام والقنابل، أغلب السكان والنازحين من العودة إلى منازلهم وإزالة الأنقاض، وإعادة تأهيل وزرع أراضيهم، كما أنّها تؤذي الأطفال الذين لا يتمكنون من اللعب بأمان والذهاب إلى مدارسهم.
ثلاث خطواتٍ لإزالة الخطر
مع بداية عام 2016 عملت منظمة “الدفاع المدني السوري” على تدريب عددٍ من متطوعيها على كيفية التعامل مع الذخائر غير المنفجرة، وقال مدير مركز الذخائر في المديرية الرابعة في الدفاع المدني، رائد الحسون لموقع فوكس حلب: إن “الأنشطة التي يقوم بها الدفاع المدني في مجال مخلفات الحرب تنقسم الى ثلاثة محاور: الأول هو التوعية من مخاطر الذخائر غير المنفجرة والألغام والعبوات الناسفة، حيث تم تنفيذ 1608 جلسة توعية من مخاطر الألغام ومخلفات الحرب، وبلغ عدد المستفيدين من تلك الجلسات 24324 شخصاً منذ تأسيس الفريق في 2016”.
وتتضمن جلسات التوعية إعطاء المعلومات الكافية للمدنيين، حول كيفية التصرف في حال مشاهدة أي ذخيرة أو جسم غريب، وضرورة تنبيه من حولهم وإخبار المختصين في “الدفاع المدني السوري”، حيث يتم تنفيذ تلك الجلسات عن طريق حملات مركزة تستهدف كافة شرائح المجتمع، وتركز بشكلٍ أكبر على الأطفال والنساء.
المهمة الثانية للدفاع المدني تندرج في مجال المسح، من خلال فريق يقوم بزيارات اعتيادية للفعاليات المدنية وإجراء إستبيانات للمجتمعات المحلية، بهدف الوصول للمناطق الملوثة بالذخائر وتحديدها، أو التعرّف إذا كانت تلك المنطقة قد تعرّضت لقصفٍ سابق، أو يُشتبه بوجود ذخائر غير منفجرة فيها، إضافةً لرسم الخرائط للمناطق التي يتم العثور على مخلفات حرب فيها وتزويد فريق الإزالة بها.
وأشار الحسون الى أن “المهمة الثالثة للدفاع المدني في مجال الألغام، تتمثل في التخلص الآمن من الذخائر، والتأكد من نهاية خطورتها وتأمين المنطقة، والبحث عن ذخائر غير منفجرة في حال هناك شك بوجودها، وذلك بواسطة الأجهزة التقنية أو الطرق اليدوية”، لافتاً الى أنه “تم التخلص من 22766 ذخيرة متنوعة، بينها أكثر من عشرين ألف قنبلة عنقودية”.
وتابع قائلاً: “في حال وجود جسم غريب، يجب على من يجده عدم الإقتراب واللمس، وتحذير من حوله من مدنيين آخرين، والإبلاغ عن الذخيرة عبر إخبار أقرب مركز دفاع مدني، أو الاتصال معنا عبر أرقامنا التي قمنا بتوزيعها عن طريق فرق المسح والتوعية، التي قامت بزيارات سابقة لجميع المناطق والقرى، وبعد تلقي البلاغ نقوم كفرق إزالة بالتوجه لهذا المكان، وإتلاف الذخائر والتأكد من انتهاء خطورتها، ومن ثم القيام بحملة توعية جديدة للمدنيين المحيطين بالمكان الذي تم إتلاف الذخائر فيه”.
الخطأ الأول هو الخطأ الأخير
تحديات كثيرة تواجه فرق الدفاع المدني في التعامل مع الألغام، يقول رائد الحسون “ما نقوم به يعد من أخطر الأعمال على الإطلاق، فعملنا يقوم على مبدأ أن الخطأ الأول هو الخطأ الأخير، فأي ثغرة في عملية تفكيك اللغم أو إزالة القنبلة أو المرور فوق أي ذخيرة غير منفجرة، يعني فقدان الحياة أو الإصابة، على عكس باقي المهن، التي ربما يكون فيها مجال للخطأ أكثر من مرة، دون أن يتعرّض صاحبها للأذى”.
وفقدت فرق “الدفاع المدني السوري” أربعة متطوعين، أثناء عمليات ميدانية للتخلص من الذخائر غير المنفجرة في إدلب وبعض أرياف حلب، منذ تأسيس فريق إزالة الألغام في 2016 وحتى الآن.
كما يعاني الدفاع المدني من القصف المستمر والممنهج من قبل النظام وروسيا، والذي قد يتسبّب في مقتل وإصابة عناصر الدفاع المدني خلال عملهم، وبنفس الوقت تعرّض نفس المكان الذي قاموا بتأمينه من مخلفات الحرب للتلوث مجدداً بالذخائر غير المنفجرة.
كذلك يصطدم الدفاع المدني بعوائق أخرى، تتمثل في وجود أشكال كثيرة من مخلفات الحرب، والتي قد تتطلب طرقاً وخبرة كبيرة في التعامل معها، إضافةً إلى ضرورة توفّر معداتٍ خاصة لها، قد لا تتوفر لدى أعضاء الفريق.
ويشير الدفاع المدني باستمرار إلى ضرورة الإبتعاد عن أي جسمٍ غريب، وعدم جمع مخلّفات القصف، التي قد تعرّض حياة الأطفال وذويهم للخطر، وإبلاغ فرقه على الفور.
أبو أكرم حج خلف من قاطني مخيمات أطمة شمال إدلب، فقد ابنه قبل عامين بسبب مخلفات الحرب، ليتحدث عن ذلك قائلاً: “البحث عن لقمة العيش قد تكون تكلفته الموت، ففي ظل وضعنا المادي السيء، كان يخرج ابني للبحث عن الخردة والمواد التالفة لبيعها، وفي إحدى المرات وجد قطعاً حديدية متناثرة في إحدى الأراضي الزراعية، فأسرع لالتقاطها لتنفجر إحداها وتخترق شظاياها جسده الضعيف، حيث فارق الحياة في المشفى بعدما أسعفه أحد المزارعين الذين كانوا في محيط المنطقة”.
نهاية الحرب لا تعني زوال الألغام
تتنوع أشكال وألوان الألغام ومخلفات الحرب المنتشرة ضمن مناطق الشمال السوري، ووثق “الدفاع المدني” استخدام قوات النظام وروسيا أكثر من 11 نوعًا من القنابل العنقودية خلال عمليات القصف.
كما عمد النظام وروسيا الى استخدام طائرات إستطلاع لإلقاء قنابل مزودة بألغام معدة للتفجير عبر أسلاك، علماً أن هذا النوع من الألغام يقوم بنشر أسلاك في محيطه بطول 10 أمتار لتشكل أفخاخاً، وأحياناً تنفجر ذاتياً بعد تفعيلها بمدة 4 – 24 ساعة حسب حرارة الجو.
ووثق الدفاع المدني إلقاء تلك الألغام في منطقة معرتمصرين بريف إدلب نهاية العام الماضي، دون تسجيل خسائرٍ بشرية.
وقال مدير مركز الذخائر في المديرية الرابعة في الدفاع المدني، رائد الحسون: إن “أشكال الذخائر التي تودي بحياة المدنيين لا يمكن حصرها في نوعٍ محدد، لأن أي ذخيرة غير منفجرة مهما صغُر حجمها أو كبُر، فهي خطيرة قد تؤدي للوفاة في حال لمسها أو الاقتراب منها، ولكن القنابل العنقودية هي من الأنواع الأكثر خطورة، لإنتشارها الواسع وخطورتها الكبيرة”.
ويدعو الدفاع المدني بشكلٍ مستمر خلال حملاته التوعوية المدنيين، إلى توخي الحذر في المناطق السكنية التي شهدت معارك سابقة، نتيجة ارتفاع مخاطر وجود قنابل غير منفجرة وألغام أرضية فيها، إضافةً إلى الأراضي والمناطق الزراعية ومكبّات النفايات والمناطق الصخرية، حيث تُعدّ تلك المناطق من أكثر الأماكن خطورة باعتبارها حاضنةً لمخلفات الحرب.
ويرى الحسون أنه “رغم العمل الكبير على إزالة مخلفات الحرب، إلا أن عدداً كبيراً من الذخائر غير المنفجرة والألغام لا تزال موجودة بين الأراضي الزراعية ومنازل المدنيين وأماكن لعب الأطفال، وستبقى قابلة للإنفجار لسنواتٍ وسنوات، ما يعني أن الخسائر ستمتد لفترة طويلة حتى بعد انتهاء الحرب، ما لم يكن هناك جهود دولية لإزالتها”.
وسجلت سوريا الحصيلة الأعلى في عام 2020 من ضحايا الألغام بـ 2729 ضحية (قتلى ومصابين) 80 % منهم مدنيين، من أصل 7073 قتلوا أو أصيبوا في العالم أجمع، بحسب التقرير الصادر عن التحالف الدولي للقضاء على الذخائر العنقودية والحملة الدولية لحظر الألغام الأرضي قبل أيام.