حتى قبيل غروب الشمس، يهرب علي (من بسنيا بقضاء حارم في ريف إدلب) رفقة عائلته، من صيف ترتفع فيه درجات الحرارة إلى ظلال بستان قريب يملكه أحد سكان البلدة. تحت أشجار الزيتون يفترش الرجل وأطفاله الخمسة قطعة قماشية خصصتها زوجته لمشوارهم، تضع عليها ما جلبته من لوازم حملوها مشياً على أقدامهم ليصلوا إلى متنزههم، تجلس وزوجها لشرب الشاي في الوقت الذي يزرع الأطفال المكان بالركض واللعب.
ليس بعيداً عن المكان، تقصد عائلات جنبات الطرق العامة بين مدينتي سرمدا وحارم للهروب من درجات الحرارة العالية والترويح عن النفس، في مدن اكتظت بالسكان وغابت عنها المتنزهات والحدائق العامة، تشاركها في ذلك مئات الحافلات التي تعبر الطريق جيئة وذهاباً، بينما تجد عائلات أخرى في طرقات “الكورنيش” و “الساحات الجديدة” مكاناً ألفته لمشوارها اليومي، بين أكشاك الإكسبريس التي تحولت إلى مقاه في الهواء الطلق.
سيارة.. دراجة نارية.. قدمان
تحدد وسائل النقل التي تملكها العائلات شكل ومكان النزهة، إضافة لقدرة العائلات المادية، يقول منذر إسماعيل، وهو مهندس يعمل في مدينة سرمدا، إنه يستغل أيام العطل الأسبوعية لاصطحاب عائلته للترويح عن أنفسهم.
يملك الاسماعيل سيارة خاصة وهو ما يوسع خيارات الأمكنة التي يقصدها، لكنه وجد ضالته في مكان على الطريق العام بالقرب من مزرعة “كتيان” هرباً من ضغط المدينة وضوضائها، يقول إنه يلجأ إلى جنبات الطرق حاملاً لوازم الرحلة ليستمتع بمشهد المدن والقرى الحدودية ضمن سهل واسع لا ينتهي، ويخبرنا أن “صيف هذا العام حار جداً، البقاء في المدينة يشعرني بضيق الصدر وبما يشبه الاختناق، فآتي إلى هنا طلباً للراحة وتحسين مزاجي وصحتي”.
على جنبات الطرق عشرات الدراجة النارية، لشبان أصدقاء، عائلات صغيرة، عائلات أكبر تجلس كيفما اتفق، يبحثون عن مكان لهم على الطريق المزدحم، وغدت الدراجات النارية وسيلة لنزهات قريبة بعد غياب الحدائق ووسائل النقل العامة وارتفاع أسعار الوقود.
لا يملك علي سيارة، لكنه يملك دراجة نارية صغيرة لا تقو على حمل أطفاله جميعاً، يقول إن عمله في أحد الأفران يستهلك ثلثي يومه، أما الثلث الأخير فيخصصه لنزهة في بستان جارهم القريب، يقول “وجدنا في بستان جار لنا مكانا للنزهة، نقصده في يوم العطلة مشيا على الأقدام ونظل هناك لبعد غروب الشمس، هربا من جو المنزل الحار صيفا”.
يقول من تحدثنا معهم إنهم لم يختاروا الطرقات كمكان للتنزه، ولو أتيحت لهم فرصة وجود حدائق عامة مخدمة لما تكدوا مشقة الذهاب بعيداً، إضافة لتكلفة التنقل.
كورنيش ومقاهي
يجد حسام، مهجر من مدينة معرة النعمان يسكن مدينة سلقين، رفقة أصدقائه في مقاهي الإكسبريس مكاناً للقائهم اليومي، يقول إن هذه المقاهي تنتشر على جنبات مدخل المدينة الشرقي الذي يعرف بالكورنيش. ويرى أن هذه المقاهي تجذبه أكثر من الطرقات العامة والبساتين التي تفتقر لأي نوع من الخدمات، كذلك تفرض على قاصديها ساعات محددة للعودة، إذ يتجنب قاصدوها العودة في ساعات متأخرة من أماكن يجهلون تضاريسها.
يستغرب حسام خلو مدينة مثل سلقين المكتظة بالسكان من حدائق ومتنزهات عامة، لكن يحيى رفيق حسام يبدي إعجابه بما طرأ على شارع الكورنيش من تحسينات حولته لمقصد العائلات، مثل أعمدة الكهرباء والمقاهي العامة.
يتحدث يحيى عن هذه التحسينات التي تزامنت مع بداية فصل الصيف، والتي شملت نقل محال الإكسبريس من الرصيف الشمالي، حيث كانت تنتشر على براكيات وعوازل بلاستيكية مختلفة الأشكال والأحجام، إلى الرصيف المقابل، لتصبح ضمن أبنية حجرية منسقة قام المجلس المحلي ببنائها واستثمرت من قبل أصحاب الأكشاك أنفسهم.
كما عمل المجلس على وضع كراسي معدنية تتسع لأكثر من شخص، ورمم الرصيف بطرفه الشمالي، ليستخدمها رواد الكورنيش الراغبين بالجلوس وقضاء بعض الوقت هناك.
يقول شاكر حاج أحمد، رئيس المجلس المحلي في المدينة: لاحظنا تدفق الناس على الكورنيش، خاصة في ساعات الغروب وما بعدها، طلباً للفسحة والترويح عن النفس، لذلك قام المجلس بالاهتمام والعمل على توفير بيئة أكثر جمالية وخدمية، عبر إعادة ترميم المكان وإحداث أكشاك حجرية حديثة وموحدة عوضاً عن تلك القديمة، إضافة إلى تخديم الكورنيش بأعمدة الإنارة وأنوار الزينة لتسهل الرؤيا وتجميل المكان، واصفاً مشهد تجمع الزوار في الكورنيش ليلاً “بالمهرجانات اليومية”.
لم يكن الكورنيش وحده من طالته التحسينات، فساحة السبع بحرات المعروفة في المدينة هي الأخرى أعيد ترميمها وصيانتها، بعد سنوات من الإهمال حولتها إلى مكب لأكياس الشيبس الفارغة ومخلفات أكواز الذرة. أضيئت الساحة بأضواء ملونة، واستثمرت بعقد مع المجلس، لتتحول إلى كافتيريا في الهواء الطلق، يؤمها الزوار مساء، يستمتعون بمنظرها الجميل، ونسمات الصيف القادمة من الغرب، ويتناولون المكسرات والمشروبات بأنواعها لمن يرغب.
يقول حاج أحمد “لم يكن هدفنا الأول من الترميم العائدات المالية للمجلس، بقدر ما سعينا لتحسين صورة المدينة بأعين أهلها وزوارها، وتأمين مكان للنزهة لم يكن متوفراً فيها قبلا، وهو ما لقي دعماً من قبل إدارة الخدمات في حارم”.
الاهتمام بالمرافق العامة ومداخل المدن، لم يكن حكراً على سلقين وحدها، فساحة مدينة حارم من جهة المدخل الغربي، تم الاهتمام بها وإعادة صيانتها لتغدو مقصداً لكثير من العائلات، إضافة لما يقدمه استثمارها من دعم مادي للمجالس المحلية.
تقصد أم خالد رفقة صديقاتها، وبشكل شبه يومي، دوار سرمدا الرئيس، بعد أن تمت توسعته وزراعته بالعشب الأخضر، من قبل مجلس المدينة، تجلسن حتى وقت متأخر، تتبادلن يومياتهن وأحاديث الذاكرة عن طرقات وساحات تركنها يوماً في مدنهن التي هجرن منها، ويحلمن بالعودة إليها.