على الطريق الواصل بين الدانا ودير حسان، تحديداً عند نقطة مفرق المخيمات، يعاود حمدو البيوش، إحياء تراث شعبي ارتبط بمدينته كفرنبل، عبر صناعة جرنة حجر البازلت من الحجارة السوداء.
والجرنة حجر بازلتي ذو منشأ بركاني، أسود اللون ومكعب الشكل، يصنع في وسطها تقعر دائري لتأخذ شكل الجرن، تستعمل لإعداد واحدة من الأطعمة الشعبية المشهورة في ريف إدلب الجنوبي، وهي جرنة الباذنجان المشوي أو ما يعرف لدى البعض “بالدقة”.
تراث موغل في القدم
لا يُعرف على وجه الدقة تاريخ صُنع جرنة حجر البازلت، لكن قدمها يعود لسنوات كثيرة سابقة، فالحجر الصخري كانَ أول ما اعتمدُه الإنسان في صُنع أدواته، واعتاد الفلاح في ريف إدلب الجنوبي، استخدام الحجارة المقعرة، وتحويلها لما يشبه الجرن ليقوم بإعداد دقة البندورة والفليفلة، زوادته في الأزمنة الماضية.
ودخلت جرنة حجر البازلت ضمن الموروث الشعبي لمدينة كفرنبل والقرى المحيطة بها، ووجدت ضمن قائمة أثاث أغلب المنازل فيها، إنْ لمْ نقُلْ كلها. وتعلقَ أبناءُ المدينةِ بها كرمزٍ يربطهم بأرضهم وحجارتها، بخاصة تلك الجرون التي قام أصحابها بنحتها وصنعها بأيديهم.
يخبرنا عبد الناصر الزعتور، عن سبب تعلقه بجرنته الأولى، والتي كانت أول ما فكر به، وطلب من زوجته تحميله في السيارة خلال نزوحهم إلى بلدات الشمال السوري، يقول الزعتور: “لقد صنعتها بيدي قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وفي السنة الأولى لزواجي، بعد أن جلبت الحجر من رجمة قريبة في بستان الزيتون القريب لمنزلنا”.
والرجمة تجمع للحجارة يشبه تلة صغيرة، تتوسط بساتين التين والزيتون، قام الإنسان والطبيعة معا بتشكيلها عبر السنوات.
يفضل الزعتور جرنته الخشنة وغير المشذبة على تلك الملساء والتي تصنع اليوم باستخدامِ أدوات صناعية، ويجد في خشونتها ميزة تجعل نكهة الباذنجان تبدو أطيب مذاقاً “لعل ذلك يرجع لكون الخشونة تساعد في زحن المكونات بشكل أفضل، لست متأكدا من ذلك” يقول الزعتور.
جرنة حجر البازلت من الآباء إلى الأبناء
عُرفت أسماء حرفيين بصناعة الجرنة في مدينة كفرنبل، كأحمد العبد الله وعبد الحميد الأسود وغيرهم، وأصبحوا مقصداً لمن يريد اقتناء إحداها، إذ كانوا يعملون في مهنة نحت حجارة البناء البازلتية، ويستغلون أوقات فراغهم في نحت الجرون، مستخدمين أدوات شبه بدائية كالدبورة (مطرقة) المخصصة للحجر الأسود، ويستغرق إنجاز القطعة الواحدة نحو يومين تقريباً.
تطور العمل شيئاً فشيئاً حينما انتقل إلى الأجيال التالية، فأُدخلت عليه المعدات الكهربائية كصاروخ الجلخ متعدد المهام، ما سهل العمل وسمح للحرفي ابتكار نماذج جديدة وأشكال منوعة، منها ما يأخذ شكلاً نجمياً وأخرى تأخذ شكل وردة، وهذا كله يعتمد على حرفية الصانع ونظرته الفنية.
يقول محمود الشاهين أحد صناع الجرنة في كفرنبل “منحت الرسوم المضافة الجرنة شكلاً جميلاً، لاقى استحسان الكثيرين، خاصة أبناء المدينة الذين يقطنون المدن البعيدة كحلب ودمشق”.
يستهلك إنتاج خمس قطع من الجرون لديسك ألماس كامل، لكن العمل في النهاية يظهر بصورة جمالية تستحق ما استهلكته من وقت وجهد ومال. وبسبب ظروف النزوح اليوم، وعدم توفر الحجر الأسود في أراضي البلدات الشمالية، ولانعدام الكهرباء وارتفاع أسعار ديسك الألماس لأكثر من عشر دولارات، هذا كله دفع بمحمود وزملائه الحرفين للتوقف عن صنع الجرنة كما أخبرنا.
البازلت يتفوق على غيره بالنسبة لصناعة الجرون
غادر حمدو البيوش كفرنبل، وقام بنقل آلات منشرة الحجر والرخام الخاصة معه، حيث أعاد العمل بها من جديد، بعد أن استقر به المقام في أحد مخيمات دير حسان، مؤمناً بهذا فرصة عمل لأكثر من عشرين حرفياً، يتوزعون بين صنع مطابخ الرخام والحجر، إلى قص أقلام الموزاييك، ومكابس البلاط، وأضاف البيوش اختصاصاً آخر هو صنع الجرون السوداء، بعد أن تم تأمين الحجر بواسطة مورد يؤمنها من منطقة إعزاز بريف حلب الشمالي، وتأتي الحجارة مقطعة بشكل مكعبات بمقاس 30 سم وبسماكة 10 سم، وأحيانا بسماكة 8 سم، من ثم يقوم الحرفي بتجويرها بواسطة “صاروخ الجلخ”، وإضافة بعض اللمسات الفنية عليها.
كما يبين لنا محمود البزكادي، حرفي صناعة الجرنة في المنشرة، بقوله: “نستخدم بداية ديسكي ألماس بمقاسين مختلفين لمنح التجويف التقعر المناسب، من ثم نبدأ عملية الحف والتنعيم باستخدام ورقات السنفرة، ذات مقاسات متدرجة” بعد أن ينتهي العمل على التجويف، ينتقل البزكادي ليضفي لمسته الفنية، عبر قص زوايا المكعب وقسماً من قاعدته السفلية، ما يمنح الجرنة شكلاً أكثرَ جمالاً، ووزناً أخف بعض الشيء.
وبحسب خبرة حمدو البيوش في مجال التعامل مع الحجر بمختلف أنواعه، أكد على أن الحجر البازلتي هو الأفضل بين كل أنواع الحجارة الأخرى، لتصنع منه الجرون، يقول البيوش: “جربنا صنعها من الرخام ومن الجرانيت ومن كل حجر صلبة وقعت عيننا عليه، وثبت بالتجربة أن البازلت فقط يصلح لصنعها”.
في المنشرة اصطفت عشرين جرنة مصنعة مع مدقاتها الحجرية، محملة في السيارة التي ستوصلها إلى مدينة سلقين، لتسلم إلى أصحابها مقابل مبلغ 70 ل. ت ثمن الجرنة الواحدة.
الجرنة ثقافة تنتقل مع أبنائها
لا يخفي عبد الناصر الزعتور مدى سعادتِه، حينما أبدى جاره من أبناء بلدة إسقاط، إعجابه بطعم جرنة الباذنجان، خلال دعوة غداء وجهها له ليتذوق تلك الأكلة التراثية، وكيف راح يسهب في شرح مكوناتها وطريقة تحضيرها، حيث يدق البصل أولاً، يضاف له قرون الفليفلة الحمراء أو الخضراء، ومن ثم يوضع المكون الرئيس وهو الباذنجان المشوي مسبقاً، ويدق بواسطة المدقة البيضوية والتي هي الأخرى من الحجر البازلتي، حتى يحصل على خليط متجانس ومهروس بصورة شبهَ تامةٍ، فيضاف للمزيج قطع البندورة وطبعا لا ينسى زيت الزيتون ليمنحها نكهته العطرة. ويؤكد له بأنه يمكنه الاستغناء في الشتاء عن الباذنجان لعدم توفره والاكتفاء بالبندورة مع بقية المكونات.
يخبرنا حمدو البيوش كيف توصلت أسرة جاره في دير حسان، للتمييز بين نكهة الدقة في جرنة حجر البازلت السوداء وتلك التي أعدتها في الهاون النحاسي، وبأنهم أقروا أن الحجر الأسود يمنح الدقة طعماً مختلفاً، وأن طعم الدقة من الجرنة مباشرة أيضاً، يختلف عن طعمها لو سكبت في صحن، وهي نكهة خبرها أبناء مدينة كفرنبل وأضحت من المسلمات والبديهيات، مع جهلهم بالسبب الكامن وراء هذه الطعمة المميزة، وبدورهم يقومون بنقل ثقافة الجرنة للبلدات الشمالية التي يقطنوها اليوم، فمن يدري قد نشاهد الجرنة السوداء تتربع في أغلب منازل الشمال السوري بعد مدة من الزمن، هذا في حال لم يتوقف توريد الحجر الأسود من أرياف حلب لسبب أو لآخر.