اعتدت القفز بين أصناف التبغ (اللاوطنية) المختلفة بين حين وآخر، وركوب موجة السعر الأقل لعلبة السجائر التي سوف تتسلل إلى صدري، وتلتصق بثيابي، هذا الأمر بحد ذاته كان مستفزاً لزوجتي التي تلتقط الروائح مثل حساس الحرائق، لتنهمر علي بوابل من النظرات الغاضبة، والهمهمات المستنكرة، بسبب روائح الدخان الغريبة التي تتصاعد مني، والممزوجة بالبلاستيك المحروق، والخشب المتفحم، بعد كل سيجارة أتناولها.
“خفف التدخين أو أقلع عنه”، عبارة تخترق أذني الداخلية ثم تخرج من الطرف الآخر بدون تأثير يذكر على وجهي، إلا من ابتسامة أتبعها بكلمة “إن شاء الله”
قفزة وطنية
اتسعت حدقتا بائع البقالية القريبة من منزلي، عندما طلبت منه علبة تبغ وطنية (حمراء طويلة)، تساءل عن “انتقالي المفاجئ من التبغ الأجنبي إلى الوطني”، فأجبته بأنها إحدى قفزاتي الوطنية، لدعم الصناعة المحلية، ورفد الوطن بمزيد من مرضى سرطان الرئتين والقلب والأوعية الدموية…فكلنا للوطن!
وعندما سألته عن سر اختفاء التبغ المهرب والأجنبي، إضافة للارتفاع الجنوني لأسعاره قال: “إن الجمارك تسعى لضبط السوق والتخلص من كل تبغ متآمر على الوطن وأهله، وهنالك نية لاستيراد التبغ (الصديق) من روسيا وإيران بأسعار منافسة”.
كنت أعلم أن إحدى الميلشيات الوطنية قامت باحتكار التبغ بكافة أشكاله وأصنافه وأمراضه لصالحها، وقد نأت بنفسها عن التبغ المصنع محلياً، لضعف جدواه الاقتصادية، إذ تباع علبة الحمراء الطويلة (قديم) بسعر 1500 ليرة سورية، والجديد 1300، والأبيض 900 والقصير 800.. وهلم نزولا للـ (إيبلا) و(الشام).
صيغة محدثة
منذ أيام شاهدت بأم العين إحدى الغزوات المقدسة لل (ف4)، بعتادها الميداني الكامل، على أحد محال الجملة لبيع التبغ الوطني والمستورد، والذي كان يحتوي بضائع تتجاوز قيمتها 100 مليون ليرة سورية، حيث تم مصادرة جميع التبغ ما خلا الوطني منه، وعندما معارضة صاحب المحل وذكره اسم شخص في أحد الفروع الأمنية، عالجه أحد العناصر بشتيمة عصماء، ولكمة مثقفة على وجهه أردته أرضاً، فما كان من الأهالي إلا أن سارعوا إلى الوقوف إلى جانبه بالوعظ والصبر والاحتساب ولملمة ما تبقى من كرامته عن الأرض.
وقد ذكر البعض أن ما حدث جرى مع الكثير من أصحاب المحال، ولكن بخسائر متفاوتة بين سفك ماء الوجه، وبين السرقة العلنية للناس.
صنع من أفخر التبغ
كان صهري غي غابر الأيام موظفاً في أحد مستودعات مؤسسة التبغ، كان يحوي مئات الأطنان من التبغ المجفف، والذي كان يملأ الأرضيات بارتفاع يتجاوز المترين. وقد حدثني أكثر من مرة وهو يشاهد الفئران والجرذان والحشرات ترتع بين تلك الأكوام المكدسة وترمي فضلاتها حيث شاءت، ناهيك عن الرائحة النشادرية النفادة، بسبب البوال المستمر للموظفين في الزوايا.
وقد ذكر لي بأنه كان يرش على تلك الأكوام بعض الكحول، ويضع النفتالين في محيطها، ومصائد الفئران، وبعض الرقى الشرعية لطرد الأرواح الشريرة والقوارض التي تتجرأ على التبغ الوطني، وتمس بنقائه وعذريته.
فلسفة التبغ
في مقالة قرأتها يوما ما، أكد الكاتب أن البشر يتطبعون وينطبعون على البيئة المناخية، والجغرافية، ويتأثرون بشكل مباشر بنوعية الغذاء الذي يتغلل في الشيفرة الوراثية لأجسادهم، ليعطيها القدرة على التكيف والاستمرار، فأهل الصحراء والجبال والذين يأكلون لحم الجمال قساة الملامح، والكلام، والطباع، على خلاف أهل المدن المدجنين بشكل ما.
فهل يعقل أن نوعية التبغ الأمريكي والإنكليزي والفرنسي تؤثر على الانتماء والوطنية بشكل يحول المواطنين إلى كائنات مشغولة بالهجرة ومعاداة الوطن بكل ما فيه من فساد وتشبيح.
مع آخر سيجارة وطنية دخنتها، بدأ الدوار يغتالني، وبدأت دقات نبضي بالتسارع، وأنفاسي بالأزيز، وشعور غريب انتابني لا أعرف تحديده، ولكني أعتقد أن معدل الوطنية بدأ يملأ شراييني، لأبدأ بالرقص والتصفيق والهتاف..