لم تقوَ الطفلة الجريحة في جبل الزاوية على الحياة. أرادت أن تكون رفقة أخواتها الثلاث في رحلة السماء. قبيل يوم من “أضحيات” العيد التي افتدت يوماً نبياً وسارت قرباناً سنوياً. في وعينا أنها ستحملنا يوماً إلى السماء، لكن الطريق إليها بات اليوم يسيراً، وبمختلف أنواع الأسلحة ودون تكبيرات.
بين عيدين، مئات الانتهاكات، عشرات القتلى، قصص ما تزال تقنعنا بأننا قادرين على الدهشة والاستغراب، هناك دائماَ ما يشعر أجسادنا بالبرد والقشعريرة.
عائلات تجاور بعضها في المقابر، عروس تودع زوجها ومهنئيها، إعلامي يوثق دمه، أم حائرة تبحث عن طفلاتها بين الأنقاض، وتتجاوز اسم الطفلة الأولى لتبحث عن ناجية بينهن، ناجية تعزز حقها في الأمومة والحياة والعيد، دون جدوى.
الطريق إلى جبل الزاوية، مسقط رأس عائلات كثيرة توزعت في المدن الرئيسية للتعلم والعمل، كان حجّاً في سنوات مضت، سيارات صغيرة وتكاسي أجرة وسوزكيات لأبناء القرى الفقيرة التي تخلو من فرصة عمل، يصلون قبل يوم ليعيشوا عيدهم بين أهلهم، يذبحون القرابين ويتبادلون زيارات قصيرة، يسهرون جماعات للعب الورق وتبادل الطرائف، يتعرفون على أطفال جدد لأقاربهم لم يتح الوقت لهم ليعرفوهم، ويجددون الالتصاق بالمكان والانتماء له.
جلابيات بيضاء، وصحون من كعك “الزرد” وحلويات العيد تتوزع بشكل صندوق مفتوح في البيوت الكبيرة مفتوحة الأبواب للقادمين، أصوات رجال خشنة، وشباب يسيرون ببطء خلف آبائهم وأعمامهم دون أن يحق لهم الجدال أو الكلام، سوى الإجابة عن أسئلة عابرة خاصة.
تتضاعف أعداد السكان في جبل الزاوية مع كل عيد. بحيرة يتساءل أشخاص عن نسب القادمين الجدد، يحاولون التشبيه عليهم، يعرفونهم من دمهم وطريقة مشيهم وكلامهم، يضحكون لكلمات تتفلت من صغارهم تقاوم اللهجة الأم لكل قرية، الآباء يخفون حرجهم بأيديهم ويمسكون قلبهم بأيديهم كلما أرادوا الكلام خشية الخروج عن النص.
تمرّ أيام العيد سريعة في جبل الزاوية، تنتهي الإجازات القصيرة قبل أن تبدأ طاحونة الحياة بقذف أبنائها إلى مدنهم وأعمالهم، يحاولون تمديدها لساعات قبل مغادرتهم، يتركون جزء من نفوسهم في المكان ويتركونه على مضض.
حياة قاسية عاشها أبناء الجبل، مواسم شحيحة في أراض جبلية تباع مواسمها بأبخس الأثمان، خدمات قليلة وطرق وعرة، غياب لمصانع أو معامل أو ورش، قسم منهم تشبث بالتعلّم للنجاة، آخرون نزحوا قبل أن يخلق هذا المفهوم في سنوات الثورة، باحثين عن لقمة العيش، أما القسم الأكبر فوجد في اللجوء إلى لبنان ضالته منذ سنوات طويلة، عملوا في القطاف والزراعة والبناء والحدادة، أملهم النجاة بأبنائهم إلى مصير مختلف.
مع بداية الثورة السورية احتمى أبناء جبل الزاوية بجبلهم، وجدوا فيه ما كان ينقصهم، صارت لإجازات طويلة غير محدودة، وبحثوا عن وسيلة للاستقرار في مكان لا يتسع لعمل الجميع، ولكنه يؤمن، على الأقل، حالة من الأمان المفقودة في مناطق أخرى.
حجّ جديد صادفه جبل الزاوية مع اشتداد القصف، مهجرون قسرياً من مختلف المدن السورية وجدوا في حجارة الجبل وأهله ما يركنون إليه لحمايتهم، وفي كل يوم كانت المجازر تزداد والجبل الآيل للسقوط يتهاوى، حتى قضمت بعض قراه في السنة الماضية.
يمثل جبل الزاوية عقدة الطريقين الدوليين، ويطل عليهما معاً، يدخل في تفاهمات السياسة ودهاليزها، ويستعصي على الخسارة، غالبية سكانه تركوه إلى الشريط الحدودي، ومع عودتهم الجزئية بعيد الهدنة التي أقرت في آذار 2020، كانوا على موعد مع موت آخر وسلاح جديد.
منذ شهرين يعيش من تبقى في جبل الزاوية حربهم وحيدين، بعيداً عن أولويات المؤسسات والمنظمات الإنسانية، بمدارس متفرقة وتعليم خجول، وبمراكز صحية متوقفة، والأهم من ذلك باستهدافات متكررة.
لم يقوَ العائدون إلى جبلهم على حياة الخيام، هناك حيث لا هواء الجبل متوافر ولا ماؤه، على أنقاض منازلهم تابعوا رحلتهم إلى البقاء، هذه المرة أيضاً، صرنا نعرفهم من دمائهم، ليست الدماء التي تحرّك الأنساب، بل المستباحة التي ملأت الطرقات، ومع عيد الأضحى حملوا حقائبهم ليغادروا المكان لا إلى جبلهم الذي ألفوه، لكن بعيداً عنه إلى مكان يحاولون فيه البقاء على قيد الحياة.
لا أضاحٍ ولا حجاج في جبل الزاوية اليوم، لا رسوم للكعبة والحرم على واجهات المنازل المهدمة، لا زيارات للمقابر ولا كعك “زرد” في المكان، الطريق إلى الحجّ بات مرسوماً بشكل آخر وأنت تنتظر قذيفة تحملك إلى السماء.