فقد محمود، وهو لاجئ سوري في ألمانيا، قدرته على تمييز لهجات أبناء السوريين في ألمانيا، ومعرفة المحافظة التي ينتمون إليها بسبب هجرهم للغتهم العربية واعتماد كثير منهم على لغات بلد اللجوء.
العربية مهمشة أو غائبة في مدارس أوربا
يتلقى أبناء اللاجئين السوريين تعليمهم في المدارس الرسمية الأوروبية، ويتقنون لغة البلد المضيف بحكم الواقع والجغرافيا، بوصفها مفتاح اندماجهم داخله، ويرى كثير ممن تحدثنا معهم أنها حلّت محل لغتهم الأم. إذ يعجز أبناء كثير منهم عن قراءة نص عربي قصير، أو إتقان مبادئ الكتابة، في حين تغيب مادة اللغة العربية عن حقائبهم المدرسية، وإن وجدت تكون اختيارية مع لغات قد يلجأ اللاجئون إليها على حساب لغتهم الأصلية، وسط غياب لدور الأهل في الحفاظ على لغة أبنائهم الأم.
يقول محمود: “إن عدد الولايات الألمانية التي تدرّس العربية ضمن منهاجها ارتفع مؤخراً من ثلاث ولايات ألمانية إلى عشر، وبهذا خطت ألمانيا خطوة جيدة باتجاه تنمية تدريس اللغة العربية مقارنة بكل البلدان الأوروبية”.
لكن اللغة العربية لا تدخل في خانة المواد الأساسية خلال امتحان الثانوية العامة، وتُدرس بمعدل حصة واحدة أسبوعياً، ما يدفع كثير من الطلاب لتهميش لغتهم وانتقاء مادة أخرى كالإنكليزية أو الفرنسية.
وفي فرنسا دخلت اللغة العربية ضمن منهاج المدارس الرسمية بقرار من الحكومة سنة 2015، وقد ذكر تقرير أعده معهد مونتاني الفرنسي عام 2016 أن ثلاثة عشر ألف طالب يدرسون اللغة العربية من أصل خمسة ملايين ونصف مليون طالب، ووفقاً لأرقام وزارة التربية الوطنية بلغ عددهم أربعة عشر ألف في العام الدراسي 2019/2020، وهي نسبة قليلة، رغم أن العربية أصبحت لغة أجنبية ثانية اختيارية مع الإيطالية والإسبانية.
اللغة العربية خارج الحوارات المنزلية
أدت رغبة اللاجئين في الاندماج ضمن مجتمعاتهم الجديدة إلى حرف ألسنتهم نحو لغة البلد المضيف، في المدرسة والطريق والسوق وفي البيت أيضاً، وخاصة أصحاب الأعمار الصغيرة أو المولدون هناك، مقابل مفردات عربية قليلة يتذكرونها وتساعدهم في الحديث مع أهلهم ممن لم يلمّوا باللغة الأجنبية بشكل جيد أو أقاربهم في سورية والدول العربية.
قبل سبع سنوات انتهي مطاف النزوح بزكي وزوجته وأولاده الثلاثة في النمسا، يقول إنه دائماً يتخذ دور المترجم عندما يتحدث أولاده مع أقاربه في سورية ومنهم والدته، لضعف مستواهم في اللغة العربية، وتوقفهم على ما اكتسبوه قبل الهجرة.
ويرجع ذلك إلى أنه وزوجته حاولا منذ البداية تعليمهم اللغة الألمانية ،”أنا وزوجتي كنا نتواصل بالعربية، لكننا انتقلنا لمشاهدة التلفاز بالألمانية وتحدثنا مع الأطفال بالألمانية فقط لنتعلم كلنا، اعتدنا على ذلك”، ما ساعد في ارتقائهم في سلم الحياة المدرسية، مقابل تراجع مستواهم في اللغة العربية، وجهلهم بمبادئ القراءة والكتابة والنحو.
تنبّه زكي مؤخراً إلى واقع أبنائه اللغوي، وحاول تدارك الأمر بإعادة تعليمهم اللغة العربية، إلا أنه بقي مقيّد اليدين، فلا مدارس تعلمهم ولا جمعيات أو بلديات تقدم لهم دروساّ في المنطقة التي يعيش فيها.
هالة العبود لاجئة سورية في ألمانية ترى الأمر من زاوية أخرى، تقول إنها غير معنية بتعليم أطفالها للغة العربية فقد أبصروا النور في ألمانيا، و يحتاجون الألمانية لفهم ما يجري حولهم ولتأمين مستقبل جيد، بينما لن يحتاجوا العربية سوى في التواصل معنا داخل المنزل فهم لن يعودوا إلى سورية أبداً.
حلول فردية
يرى من تحدّثنا معهم أنه لا يوجد منهاج واضح لدى المؤسسات التعليمية في إدراج اللغة العربية في المدارس، يقابله إصرار كثير منهم على تعليم أبنائهم لغتهم الأم، ما دفعهم لاجتراح حلول فردية تحت قاعدة الرمد أفضل من العمى.
محمد جعدان (لاجئ سوري في النمسا) يقول إنه يخصص ساعات لتعليم أولاده العربية على مدار الأسبوع، كما يطلب من أولاده الكبار تعليم أخوتهم الصغار مبادئ القراء والكتابة،” ليس هذا فقط” يردف، حتى الموسيقى والشعر والقصص القصيرة يلقيها على مسامعهم، كما يرسلهم كل أسبوع للمسجد لتقوية لغتهم أكثر.
لم يتسنّ لجعدان فعل ذلك فور وصوله للنمسا، لكنه أحس بفجوة عميقة بين أبنائه ولغتهم حين كتب أحدهم اسمه بالعربية من اليسار إلى اليمين، ما دفعه لتعزيز وتقوية مستواهم اللغوي.
لا يريد جعدان لأولاده أن يضيعوا لغتهم، بوصفها جزء من هويتهم، لكنه يقر بصعوبة تعليم الصغار في المنزل، وفي الوقت ذاته يلقي اللوم على أولياء الأمور الذين أهملوا تعليم العربية لأولادهم، إذ يتعمد كثير منهم بذل أدنى جهد تعليمي مع الأطفال داخل المنزل، أو إرسالهم لأحد الأماكن التي تعنى بتعليم العربية في أيام العطلة، كالجمعيات والمساجد أو دورات تعليم اللغة و لا يستشعرون بخطر إهمال العربية.
ووفقاً لأرقام المجلس المركزي للمسلمين zmd يوجد نحو ألفين وخمسمائة مركز عبادة ونحو تسعمائة مسجد على عموم الأراضي الألمانية توفر تعليماً باللغة العربية، باعتبارها لغة القرآن الكريم، لكن ثمة عائلات سورية تريد أن يتعلم أولادها بطريقة غير إيديولوجية أو مرتبطة بعقيدة، كما يوجد عائلات غير مسلمة أيضاً.
مبادرات إنقاذ اللغة
أطلق لاجئون مبادرات تبنّت تعليم العربية بطرق عصرية ومبتكرة، للنهوض بواقع اللغة وإنقاذها، كمبادرة “العربية لغتي” التي أطلقها مجموعة من الأكاديميين السوريين في ألمانيا، والتي اعتمدت أسلوب اللعب والتسلية لجذب الأطفال السوريين، لتشعرهم بالمتعة وتمنحهم الرغبة بالتعلم خلال أيام العطلة، وذلك بحسب تصريح مؤسسها السوري عبد القادر باقي لموقع مهاجر نيوز.
أيضاً كان هناك تجربة تعليم العربية عن بعد، كمدرسة سما أون لاين، التي قال مؤسسها إياد عطا الله المقيم في هولندا لموقع الجزيرة نت إنها تبدأ عبر خمس مستويات بتعلم مبادئ الكتابة والحروف، وتنتهي بمرحلة متقدمة من الإعراب والقراءة بشكل ممتاز.
إضافة لوجود دورات دائمة، يقوم عليها ناشطون وجمعيات، تتولى تعليم الأطفال للغتهم الأصلية مقابل مبلغ مالي لا يتجاوز مائة وخمسين دولاراً.
تقول المدرّسة حنين، بحسب ما نشره موقع مهاجر نيوز، وهي مختصة بتدريس العربية في فرنسا، إن تعلم العربية سيمكن الطفل من التواصل مع ثقافته الأم عبر مناهج علمية مدرسية صحيحة، وفي كل الأحوال سيواصل الأطفال التحدث مع أهاليهم بلغة الأصل داخل المنزل. فبدل أن تبقى مكتسباتهم المعرفية لثقافتهم الأم محدودة ومقتصرة على خبرة ومعرفة الأهل، ستمنح لهم الفرصة للإبحار داخل ثقافتهم، بتشكيل هوية ثقافية تمنحهم طمأنينة للثقافة الجديدة التي انتقلوا إليها، بعيداً عن المعاداة أو الذوبان.