يقف حسين (9 سنوات) على رؤوس أصابعه، في محاولة ليمسك صينية الطعام الموضوعة على الطاولة العالية، استعداداً لإيصالها على قدميه لأحد الزبائن القريبين من المطعم الذي يعمل داخله في مدينة صيدا اللبنانية، إذ بدأ مهنته الجديدة ” ديليفري” منذ أسابيع، منهياً بذلك مسيرة ثلاث سنوات من الدراسة الابتدائية.
يقول بعد أن أزال كمامته عن وجهه إنه ترك المدرسة منذ انتشار فيروس كورنا، “صار التعليم عن بعد، وفي أيام الدوام الطبيعي يتغيب المعلمون بسبب الإضراب”.
يعجز حسين وأخوه منير(10 سنوات) عن قراءة سطر باللغة العربية بشكل جيد، أو إتمام عملية حسابية تلقوها في دراستهم، حسب والدهم، ويقول إنهما لم يتلقيا التعليم كما يجب، وخاصة في الآونة الأخيرة إذ اقتصرت الدراسة على التعليم عن بعد خلال فترات طويلة من السنة”.
لا يختلف حسين عن آلاف الطلاب السوريين ممن فقدوا فرصهم في التعليم بعد انتشار كورونا في لبنان، تقول دراسة مشتركة للمفوضية السامية للأمم المتّحدة وبرنامج الأغذية العالمي، إنّ 65% من الأطفال السوريين المسجلين في المدارس ( بين 6 و17 سنة) لم يتابعوا تحصيلهم العلمي بعد الانتقال لنظام التعليم عن بعد، وذكرت الدراسة أن ثلث الطلاب الذين تلقوا التعليم عن بعد لم يتمكنوا من متابعة دروسهم بالشكل المطلوب بسبب انعدام أو عدم كفاية خدمة الإنترنت، و تضاعفت نسبة الأطفال المنخرطين في العمل لترتفع من 2,6% في 2019 إلى 4,4% في 2020.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش، نقلاً عن مسؤولين في وزارة التربية إن عدد الأطفال السوريين بين (6 و17 سنة) كان 660 ألف طفل في العام الدراسي 2018-2019، (277 ألف منهم التحقوا بالمدرسة)، وفي العام 2020-2021 تم تسجيل 190 ألف طالب فقط، بينما لم يسجل 25 ألفًا آخرين ممن كان ينبغي أن يلتحقوا بالصف الأول.
إغلاق، مدمج، عن بعد
أغلقت المدارس اللبنانية أبوابها بشكل مؤقت في نهاية شباط 2020 واستمر الإغلاق حتى 15 آذار 2020، وذلك خلال خطة الحكومة في رفع حالة التأهب في مواجهة كورونا، تخلل هذه الفترة نشر فيديوهات على صفحة الوزارة في فيس بوك تظهر تعقيم المدارس وتجهيزها للطلاب، وتعاميم لتنظيم عمل الهيئة الإدارية، ووعود بفتح المدارس.
تزامن ارتفاع أعداد كورونا في لبنان مع موعد فتح المدارس في 15 آذار، وقتها أقر مجلس الوزراء الإغلاق العام لأسبوعين بما فيها المدارس العامة والخاصة والجامعات والروضات. واعتمدت الوزارة نظام التعليم عن بعد لتفادي انقطاع الطلاب عن حصصهم حتى نهاية العام الدراسي في 13 حزيران 2020.
بداية العام الدراسي 2020-2021، وفي 10 تشرين الأول بدأت المدارس تفتح أبوابها باعتماد خطة التعليم المدمج، والتي تقوم على دراسة الطلاب أسبوعاً في المنزل وأسبوعاً حضورياً، مع مراعاة تواجد نصف عدد الطلاب في المدرسة والنصف الآخر في المنزل، والمبادلة بينهما في الأسبوع التالي، بحسب الأستاذ وجيه المصري مدرس في إعدادية عبرا الرسميّة.
لم يدم هذا النظام طويلاً فقد ارتفع أعداد المصابين بكورونا وعاد التعليم عن بعد إلى الواجهة في 11 تشرين الثاني، إلى أن أصدرت الوزارة قرار العودة للتعليم المدمج في 15 نيسان والعمل به في 21 نيسان ٢٠٢١. ومن خلال رصدنا عدد أيام الدراسة لهذا العام ( من بدايته حتى موعد الامتحانات في تموز) وباستثناء يومي السبت والأحد كعطلة رسمية تبين أن نسبة الأيام التي حضر فيها الطلاب السوريون إلى مدارسهم لم تتعدّ 10%، ونسبة 90% كانت للتعليم عن بعد والعطل والأعياد والمناسبات.
العملية التعليمية معطلة في مدارس كثيرة
“الفساد يساوي الجوع” عبارة كتبت على رغيف خبز ونشرتها صفحة “الأساتذة المتعاقدون لتعليم اللاجئين السوريين في لبنان”، في إشارة لاتهام السلطات اللبنانية بسرقة رواتبهم وتأخيرها، إذ لم يستلم المدرسون رواتب الفصل الثاني في العام الماضي وفصلي هذه السنة.
أعلن معلمون عن إضرابهم عن الدوام في 6 كانون الثاني 2021، إذ انقضى أكثر من شهرين في عام دراسي جديد، ولم يحصل معظمهم على رواتب الفصل الثاني من العام الماضي، بدأ الإضراب مثل كرة الثلج، بعد ستة أيام من بدئه، وارتفع عدد المدارس التي امتنعت عن التعليم إلى 144 مدرسة، من أصل 340 مدرسة وفقاً للوائح المقدّمة من الوزارة إلى المفوّضية.
خلال الإضراب نفذ المعلمون اعتصامات أمام مبنى وزارة التربية، والمفوّضية، واليونيسيف، والتي قالت ممثلتها في لبنان يوكي موكو في بيان نشرته الوكالة الوطنية للإعلام في 25 شباط 2021 “إنها تدرك الوضع الصعب للمعلمين، وأكدت أنها تتابع الموضوع، و أبدت تعاطفها معهم وأثنت على استمرار قسم منهم بتعليم السوريين”.
هذا الثناء والتعاطف مع عدم تقديم ضمانات باقتراب موعد الرواتب وتحسينها من الدولة لم يثر اهتمام المعلّمين بحسب من تحدّثنا معهم، ما دفع لجنة (الأساتذة المتعاقدون) لإعلان استمرار إضرابهم في اليوم نفسه، والدعوة إلى تنفيذ إضراب شامل بعد زيادة عدد المدارس التي امتنعت عن تعليم لاجئين سوريين.
كذلك انضمت رابطة التعليم الأساسي إلى الإضراب في 25 شباط، ودعت إلى وقف التدريس بداية شهر آذار 2021. وقالت الرابطة إن لديها معلمون في الدوام الصباحي لم يحصلوا على مستحقاتهم من العام الماضي، كما طالبت بصرفها (إن قبضت)، حسب سعر صرف الدولار في السوق.
في حين حملت وزارة التربية اللبنانية الجهات المانحة كالاتحاد الأوروبي والمفوضية واليونيسيف مسؤولية التأخير والإطالة في دفع رواتب عشرة آلاف مدرس، ودعت هي الأخرى إلى تعليق أعمال التدريس عن بعد (من 8 حتى 14 آذار 2021) عبر موقعها الرسمي لمدة أسبوع.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها بعنوان (لبنان: الحاجة إلى اتخاذ إجراءات بشأن تعليم النازحين السوريين، ونشر في موقعها الإلكتروني في 26 مارس) إن الحكومات الأوروبية تقوم بدفع رواتب المعلّمين بالدولار الأميركي، ومع ذلك، يتم إيداع الأموال في البنوك وتصرف الرواتب بالليرة اللبنانية بسعر أقل من سعر السوق.
وفيق سيف الدين مدرس متعاقد خاض تجربة إضرابات كثيرة، واتجه مؤخراً للعمل كسائق تاكسي يقول إنه يشعر بوجع أهالي الطلاب السوريين إثر حرمان أبنائهم من التعليم، لكنه في الوقت ذاته يخبرنا أنه يشعر بالحرج أمام عائلته التي تحتاج نفقات مضاعفة في ظل الضائقة الاقتصادية.
“كيف يريدوننا ان نعلّم من دون مقابل، لا يمكن أن يستمر الوضع هكذا، صرفت كافة مدخراتي وعليّ ديون، أين الحكومة واليونيسف والمفوضية، لماذا لا يلتفتون إلينا”.
سعيد أبو العينين مهندس لبناني دفعه قلة فرص العمل إلى تعليم الطلاب السوريين بعد الظهر، إلى جانب عمله في صيانة الموبايلات، لكنه توقف عن التدريس مع بداية الإضراب “مش مجبورين نعلم من دون مصاري”.
إضراب المعلمين وامتداده لأشهر سبب شلل شبه كامل للحركة التعليمية بحسب أهالي الطلاب السوريين الذين تحدّثنا إليهم، ما دفع قسم منهم لدفع أبنائهم لسوق العمل، وخاصة بعد استفحال الازمة المالية بإعطاء الأولوية للعيش قبل الدراسة.
تحدّث معد المادة مع 20 عائلة سورية من مختلف المناطق اللبنانية، 12عائلة قالت إنها لم تعد ترسل أولادها للمدرسة بسبب تغيب المدرسين أو امتناع المدارس عن استقبال أبنائهم نتيجة استمرار عدد لا بأس به في الإضراب.
خيط رفيع
مطلع نيسان الماضي حذّرت منظمة أنقذوا الطفولة في تقرير لها بعنوان (أزمة التعليم في لبنان: دق ناقوس الخطر)، من “كارثة تربوية” في لبنان ستنعكس على الفئات الأضعف جراء الانهيار الاقتصادي الذي فاقمته تدابير التصدّي لفيروس كورونا. وقدرت عدد الأطفال الموجودين خارج مدارسهم بأكثر من 1.2 مليون طفل.
وجاء في التقرير أيضاً أن نسبة الفقر في صفوف اللاجئين السوريين ارتفعت إلى 90%، إذ لا تستطيع العديد من العائلات تأمين مستلزمات التعليم عن بعد، أو تضطر عوائل للاعتماد على أولادها لتوفير الدخل، فضلاً عن أن الطلاب السوريون تلقوا تعليماً متدنياً قياساً بالطلاب اللبنانيين.
وقالت مديرة المنظّمة في لبنان جينيفر مورهيد في ذات التقرير إن تعليم آلاف الأطفال في لبنان معلّق بخيط رفيع، وقد لا يعود عدد كبير منهم إطلاقاً إلى المدرسة، واعتبرت مورهيد أن العدد الأكبر من اللاجئين في لبنان هم الأكثر تضرراً من الأزمة المتدهورة بسرعة.
بينت دراسة استقصائية نفذتها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، استهدفت 10 آلاف عائلة محتاجة في نيسان 2020 أن كل عائلة تملك هاتف ذكي واحد في المنزل في وقت لا تملك فيه أي عائلة تقريباً أجهزة لوحية أو حواسيب.
إخراج الأطفال من المدرسة ودخولهم في سوق العمل لاقى ردود أفعال ووجهات نظر مختلفة بين مؤيد ومعارض. أبو منير “والد الطفل حسين” هو أول من دافع عن هذا الموضوع يقول إن عمل أبنائه اختصاراً لفترة “دراسة لن تفيدهم”، فهم محرومون من الوظائف في حال أتموا تعليمهم، والحكومة اللبنانية والمفوضية لا تكفل لهم العمل الوظيفي.
أبو يونس هو رب أسرة من خمسة أفراد يقول إن أغلب عائلات اللاجئين فقيرة وتكافح لتأمين عمل لأولادهم حتى وإن كان على حساب تعليمهم، ويشبه واقع تعليم السوريين بـ”الثوب المهترئ والذي مهما حاولت رتقه لن تحصل على نتيجة جيّدة”.
سعاد لاجئة سورية وهي أم لأربعة أطفال اتجه أبناؤها للعمل رفقة أبيهم، تقول إنهم لم يتسربوا من المدرسة لأنه أساساً لم يكن هنالك تدريس، تخبرنا أن عملهم في الوقت الحالي لتسديد نفقات المنزل، وتؤكد سعاد أن هناك عجزاً في تأمين متطلبات التعليم عن بعد كالإنترنت الجيد والكهرباء، والأجهزة اللوحية والأجهزة الخليوية التي تمكنهم من الرجوع للدرس في أي وقت، فهي لم تستطع توفير موبايل لكل ولد من أبنائها.
تقول سعاد إن المفوضية تركت الطلاب لمصيرهم المجهول، فمنذ انتشرت الجائحة وأغلقت المدارس لم يحصل الطلاب على أي دعم رغم الوعود الكثيرة بتزويدهم بأجهزة لوحية وبطاقات إنترنت.
نتعلم لنعلّمهم
تتزايد التحدّيات التي تقف في طريق عائلات اللاجئين في رحلة تعليم أولادهم، ومع ذلك يرى عدد منهم أن هناك ما يمكن إنقاذه لحين انتهاء الجائحة.
فاطمة لاجئة سورية وتعمل في مجال التسويق الإلكتروني قررت خوض تجربة تعليم أبنائها بمفردها، تقول إنها تقضي ساعات أما شاشة هاتفها في تعلم المنهج الدراسي وخاصة مادة الرياضيات واللغة الإنجليزية، تحاول حفظ الدروس وطريقة شرحها مستعينة بفيديوهات ومقاطع مسجلة على الإنترنت، وبذلك تهيئ نفسها لشرح المنهاج لأولادها ومن معهم من أبناء الحي السوريين.
تقول فاطمة إنها وصلت في دراستها للصف الثامن قبل أن يخرجها عمها من المدرسة، “بكفي لهون دراسة خليكي بالبيت” ولا تريد لأبنائها أن يكبروا بدون تعليم، وتصر على متابعة تدريسهم حتى بعد عودتهم للصفوف، إذ ما زالت المدارس تعاني نقصاً في المعلمين على حدّ قولها، وخاصّة بوجود قسم معلمين أصحاب اختصاصات لا علاقة لها بالتعليم ( مهندس، محاسب، محامي ).
أثناء تجوالك في شوارع مدينة صيدا تشاهد طلاباً بملابس أنيقة في طريقهم إلى مدراسهم، التي ما تزال ملتزمة بأسلوب التعليم المدمج إذ لم ينته الفصل الدراسي الثاني وممكن أن يتحدد موعد الامتحان في منتصف تموز القادم .
فادي (14) عاماً عاد مؤخراً للتعلّم رفقة زملائه وقد لفّت يده بضمادات طبية، تقول فاطمة إنه منذ فترة توقف عن التعليم اتجه للعمل في منشرة خشب “مصلحة دهب هكذا قالت والده، لكنه عاد بعد أيام بيد تنقص إصبعين”، تبتسم لتقول” أنا والإصابة كنا السبب في عودته للمدرسة”، حيث كان لفاطمة دور في إقناع والدة فادي بأهمية التعليم وضرورة عودته للمدرسة.