تتفقد فاطمة أصص نباتات الزينة المرصوفة بجانب بعضها البعض بالقرب من شجيرة الياسمين البلدي في منزلها الجديد بمدينة سلقين، تفرغها من تراب العام الماضي، تخلطه التراب الجديد بسماد عضوي حصلت عليه من مربي أغنام يسكن جوارهم، وتستبدل أيضا التالف والمهترئ من عبوات معدنية بفعل الرطوبة والشمس بأخرى جديدة.
من الحوض إلى الشرفة
الفترة الزمنية، بين مطلع نيسان حتى أوائل حزيران، موسم لهواة الورد ونباتات الزينة لجمع أصناف مختلفة واقتناء أنواع جديدة وزراعتها والعناية بها حتى تنمو وتزهر على شرفات منازلهم، أو في فسحات البيوت السماوية ويقتني قسم من السكان ورد الصالون الذي ينمو داخل المنازل، للاستمتاع بمشهد النباتات الخضراء وروائح الزهور العطرة، أثناء جلساتهم الصباحية لتناول فنجان القهوة، أو عصراً في استراحة ما بعد الغداء.
تفضل أم محمد نبات الحبق والريحان والسجاد البلدي بلونه الخمري على بقية أصناف الورد الموسمية الأخرى، كونها تمنح الرائحة العطرة والمنظر الجميل منذ اللحظة الأولى لزراعتها، دون داع لانتظارها حتى تزهر. وعن تعلقها بنبتة الحبق تقول أم محمد: “يكفي أن تلمس أوراقها الناعمة بيديك، لتعلق بهما رائحتها الزكية فأصلي على النبي كلما شممتها”. أما نسرين فتقصد مشاتل الورد في حارم بحثاً عن أصناف ورد جديدة، فهي كما تقول: “تفضل الأنواع النادرة والمستهجنة حديثاً، كونها تتمتع بالتفرد”.
غياب المساحات في منازل المهجرين وخيامهم، وعدم الاستقرار في المنازل المستأجرة، دفع كثر من ربات المنازل للتخلي عن تربية نباتات الزينة، تقول أم يوسف (مهجرة من مدينة حلب) إن أكثر ما عز عليها وقت تهجيرها كانت نباتاتها التي تركتها في حي طريق الباب الذي كانت تسكنه، هي لا تريد “التورط” مرة أخرى بمفارقة ما تحب، ولذلك امتنعت عن تزيين منزلها بالنباتات الجديدة.
مقابل ذلك، تشاهد حين مرورك في شوارع مدن وبلدات إدلب، شرفات مزينة بنباتات الزينة، تقول نوال مصطفى (مدرسة) إن التهجير لم يمنعها من زراعة بعض نباتات الزينة والاعتناء بها على شرفة منزلها، تخبرنا أنها لن تستطيع أن تبدأ نهارها دون “عِرق أخضر” في المنزل. كما تداولت مواقع إخبارية صوراً وفيديوهات لخيام زينت بأحواض الورد من قبل ربات منازل يعشن في المخيمات.
وتضيف المصطفى أن ربات منازل فقدن الاهتمام بنباتات الزينة، الحرب وعدم الاستقرار سبب مهم في تراجعهن عن زراعتها، أعرف نساء احتفظن بأصص من نباتاتهم ونقلنها معهن في رحلة النزوح، ومع تكرار الأمر، وفي كل منزل سكنه أو خيمة، تركن قسماً منها، إضافة لعدم التعود، تشرح نوال “نحن معتادات على البيوت العربية بمساحات واسعة، تأخذ أحواض الورد جزء كبيراً منها، أما اليوم فبيوتنا المستأجرة لا تتسعنا نحن دون نباتاتنا”.
تراجع عمل مشاتل نباتات الزينة
العناية والاهتمام بـ نباتات الزينة وزراعتها ليست حكراً على النساء فقط، بل يتشارك فيها الرجال أيضاً، إذ يزرع “عهد الحسين” المولع بالورد منذ الصغر، نباتات الصبار الشوكية داخل “مشتل خاص” في كفر تخاريم، المكان الذي هجّر إليه بعد خروجه من مدينة كفرنبل، يقول إنه يقتني اليوم أزيد من أربعين صنفاً من النباتات الشوكية بأشكال وألوان مختلفة، بلدية مثل (أذان الأرانب وتاج الملكة) ومستوردة مثل (الألوفيرا والأوركيد).
يرى أبو وليد (صاحب مشتل للورد والأشجار في بلدة اسقاط)، أن تجارة نباتات الزينة تراجعت عن السابق، وذلك لأسباب عدة أهمها: ارتفاع أسعار النباتات، وضيق مساحات الأسواق عما كانت عليه في السنوات السابقة.
ويرجع أبو الوليد السبب في ارتفاع الأسعار لتكاليف الإنتاج الباهظة، ثمن التراب والأسمدة وعبوات الغراس، كذلك أسعار المحروقات اللازمة لتوليد الكهرباء وإيصال المياه إلى الشتلات، إضافة لأجور العمال.
ينتج مشتل أبو وليد مئات الأصناف من نباتات الزينة مثل (الريحان وشجيرات الغاردينيا والأوكالبتوس وأشجار الكينا والسرو والعنب). إضافة لأنواع مستوردة من أوروبا يجهل هو نفسه اسمها، لكن منظرها الجميل يبعث الراحة في النفس. ويختلف السعر بحسب حجم النبتة ونوعها، منها ما يتراوح بين ليرة إلى خمس ليرات تركية للواحدة، وأخرى يصل ثمنها لخمسين ليرة تركية، وأحيانا أكثر من عشرين دولاراً كبعض أنواع الشوكيات والصبار، والشجيرات المستوردة.
يصرف أبو وليد منتجاته من الورد والشجيرات عبر باعة المفرق الذين يسوقون إنتاجه إلى المدن والبلدات الأخرى في الشمال السوري، فبلدة كإسقاط لن تستوعب مئات الغراس والشتلات التي ينتجها.
باعة جوالون
أبو العبسي بائع ورد متجول، وأحد المهجرين من ريف حلب الشمالي، يتنقل بين مدينة وأخرى في سيارته لمكشوفة، ينادي على نباتاته في شوارع المدن والبلدات، بعد أن يكون قضى القسم الأول من النهار يبيع في بازارها الأسبوعي، يتفق أبو العبسي مع أبو وليد بأن إقبال الناس على شراء الورد أقل من السنوات الماضية. يقول أبو العبسي: ” بعد أن كنت أرجع عصراً إلى منزلي وقد بعت حمولة يومي، الآن لا أكاد أجني ثمن الوقود للسيارة، في أيام كثيرة”.
تقول أم يوسف إن السبب الرئيسي في تراجع الإقبال على نباتات الزينة هو “اليأس”، ربات منازل فقدن الاهتمام بترتيب منازلهن المؤقتة، أما الخيام فمكان لا يصلح لتلك الهواية، مع ما تفرضه حياة الخيام من نقص في المياه وتقلب المناخ والغبار، وهو ما يُفشل زراعة نباتات الزينة ويؤدي إلى موتها.
ضمن عبوة سمن معدنية فارغة زرعت حسنة نبتة الحبق، علها تضفي شيئا من حياة ونوعا من الدفء على جمود خيمتها في أحد مخيمات كفرلوسين، تشمها كل صباح، تهز وريقاتها في المساء، تحتفظ برائحتها على كفيها وهي تضع رأسها على الوسادة، تسترجع بها صورة حديقة منزلها الغناء في ضيعتها بريف المعرة الشرقي، قبل النزوح.