في تلك الليلة لم ينم (أبو زكي) في المقهى كعادته، بل قرر الذهاب إلى منزله بغرض الاستحمام، ولكنه استفاق على ثلاث تفجيرات متوالية، هزت مدينة حلب، تلتها سحب الدخان لتغطي ساحة سعد الله الجابري بكاملها، حيث (ملتقى جحا) الذي يعمل فيه، والذي أصبح أثراً بعد عين، في تاريخ لن ينساه أبداً، وهو الثالث من تشرين الأول من عام 2012.
بيوت تركت سكانها
قبل هذا التاريخ بسبعين عاما، وضعت الأوقاف يدها، على جميع أملاك اليهود، الذين توجهوا نحو (أرض الميعاد) ، وبدأت بفتح فمها وجيوبها للمستثمرين والمستأجرين، حيث أنها لا تستطيع البيع والشراء فيه .
في نهاية شارع شكري القوتلي الغربية، وعلى ضفة نهر قويق، الذي غطته ساحة سعد الله الجابري برداء إسمنتي صلب، حل ضيف جديد على مقاهي حلب وهو مقهى (منتدى الشام) وقد أضيفت كلمة (الشام)، حتى لا يتم الخلط بينه وبين مقهى المنتدى في شارع بارون (البرازيل سابقاً). وكان المبنى قديماً للسيد “فاخر الجابري” ابن عم سعد الله الجابري الذي سميت الساحة باسمه.
تلج إلى منتدى الشام بعد الارتقاء ثلاث درجات، ليمتزج الزائر مباشرة برائحة القهوة المغلية، وصوت فيروز صباحاً، والقدود والموشحات ظهراً، وأم كلثوم مساء.
باريس بنكهة حلبية
يذكر الدكتور جوزيف زيتون في مذكراته أن المنطقة تلك وبالتقاطع مع شارع بارون، كانت تعج بالمقاهي الفنية والأدبية، إذ كان روادها يملؤون الأرصفة من الطبقة الراقية، بالإضافة لدور السينما والفنادق، حتى وصفه البعض بشارع (الشانزيليزيه) لتقارب المزاج العام بين حلب وباريس.
يتميز المقهى بواجهته الزجاجية الواسعة التي تطل على ساحة سعد الله الجابري من الجهة الغربية، ويشعر زائره أنه دخل إلى صندوق
(الدنيا) مباشرة، وبأنه ليس بحاحة لجريدة (الجماهير) لكي يطمئن على صحة مدينته وأحوالها، حيث الوجوه التي تمر، والبائعون الجوالون، وماسحو الأحذية، والسيارات، كلها تشي بحجم الحياة والفرح الذي ينبعث في المحيط.
شريعة (أبو زكي)
عندما يدخل أبو زكي إلى دائرة أي زائر غريب، يخبره مباشرة بالقواعد والقوانين، قهوة، شاي، زهورات، فقط.
ويبدو جليا تحت سطح الطاولة الزجاجي نقش رقعة الشطرنج، وغياب النرد (طاولة الزهر)، وورق اللعب (الاسكمبيل)، والنرجيلة، والتلفزيون، إلا من هاتف قرصي قديم في بداية الصالة، يرن أحياناً، لتكتشف أن أبا زكي يعمل عامل مقسم -بالإضافة لعمله- للزبائن المواظبين، حيث يخترق صوته الصالة:
-أبو محمد تلفون إلك.
-أستاذ وليد اتصلت مرتك.
وبالرغم من انتشار الهواتف النقالة، فقد استمر رنين الهاتف، لتعرف زوجات زبائنه عن حركة أزواجهن، ومواقيت حضورهم وخروجهم، ومع الأشخاص الذين يجالسونهم، وبمعنى آخر كان يمثل أبو زكي ال Gps لجميع زبائنه وعائلاتهم وأصدقائهم.
ومن الممنوعات الطريفة أنه لا يسمح لصغار السن بالدخول إلى المنتدى إلا برفقة ذويهم، ماعدا بائعي اليانصيب والجرائد وماسحي الأحذية.
كان المقهى يضم مجاميعاً كثيرة ومتنوعة المشارب كالفنانين، والأدباء، والمثقفين، والمدرسين، والمتقاعدين، ولاعبي الشطرنج المحترفين، وسادة النميمة وتجار الفضائح، ولكنه كان خالياً تماما من الجنس اللطيف وبنات حواء.
الهاتف الخليوي يلتهم المثقفين
في عام 2009 وبعد تغول شركتي الاتصالات الخليوية في حلب، وتوسيع أعمالهما ومقارهما، وضعتا نصب عينيهما وسط المدينة، وقد وقع اختيار شركة MTN للاتصالات الخليوية على مقهى منتدى الشام، لموقعه الاستراتيجي والحساس، وبمؤامرة بسيطة، وإغراءات مادية كبيرة، وخطوط مجانية كثيرة لمديرية الأوقاف في حلب، تم افتراس المكان، وتحويله إلى كائن أصفر الملامح والقلب.
أما السيد أبو بكري وهو المستثمر للمقهى، فقد تم تعويضه بالطابق العلوي، والذي كان عبارة عن مستودع كبير ملطخ بالفراغ، وروث الجرذان، وبالعث الذي ينهش خشب سقفه، بعد أن عرضت عليه الأوقاف تخفيض مبلغ الاستثمار، مقابل أن يقوم بإعادة تأهيل المكان على نفقته الشخصية، وتحت ضغط رواد المقهى وزبائنه، فقد قرر الانصياع للقرار مرغماً، وأسماه (مقهى قصر جحا)، وبعد فترة بسيطة تم اختصار التسمية ليصبح (ملتقى جحا).
حارة (كل مين إيدو ألو)
عندما وصل أبو زكي إلى مكان التفجير، لم يجد إلا غبار الذكريات، وتلالاً من الفقد، وصفعة قاسية من الأيام أخبرته بأنه أصبح عاطلا عن العمل، وبأن جحا أصبح يمشي بساق اصطناعية.
لم تقم بلدية حلب، أو مديرية السياحة أو مديرية الأوقاف بأي ردة فعل تجاه مأساة أبي بكري الذي أصبح بساق واحدة، ولا بأبي زكي الذي لم يستطع التأقلم مع مقهى آخر، ولا مع الأنقاض التي كانت تنتظر من يقرأ عليها سورة (يس).
ومع محاولاته المتواصلة لإعادة تهيئة المكان، لم تكن الردود تشفي حزنه، بقول المسؤولين: “تلك الأرض من أملاك اليهود”، وقد طلبت منه الأوقاف أن يقوم بإعادة بناء المكان وإعادته لهيئته الأولى، على نفقته الشخصية، إن كان يرغب بإحياء (جحاه) من جديد.
جواز سفر باتجاه واحد
أبو بكري صاحب المقهى رجل ستيني، يصبغ شعره وشاربيه باللون الأسود، وساقه الاصطناعية بحفنة من الوجع والحزن، يتأمل صورة تظهر موقع المقهى القديم، ثم يتابع عمله وحيداً في المكان الجديد، بعد أن قدم الكثير من التنازلات على مستوى المقهى، فقد سمح بلعب الورق، وشرب النرجيلة، ولعب الطاولة، ومتابعي المباريات، والعشاق الحالمين، والنساء والأطفال، وجميع الكائنات المموهة (بالبوط العسكري)، نتيجة ضعف الحال وصعوبة الحياة ومرض أبي زكي المزمن. حافظ الرجل على مشروباته الثلاث، ولكنها أصبحت بلا طعم أو لون أو رائحة.
ينظر إلى الخارج وهو يتأمل صورة تظهر جحا، يركب حماره الباسم، وتبدو أعلى اللوحة جملة حزينة مكتوب عليها (مقهى عودة جحا).
ولكنه يعرف أنه لن يعود أبداً، بعد أن هاجر إلى الشمال، وفي حقيبته بعض الذكريات، وكمية كبيرة من الأحلام الخضراء.