تجاوزات كبيرة على الأملاك العامة يشهدها حرش الخالدية في عفرين، من مساكن عشوائية وزعتها فصائل عسكرية على مهجرين من مختلف المناطق السورية، وتحطيب طال أشجار الحرش خلال السنتين الماضيتين.
وكانت فصائل عسكرية تسيطر على “جبل ترندة” في حرش الخالدية قد قامت باقتطاع مساحات من الأملاك العامة وتوزيعها مجاناً على مهجرين، بواقع أربعمائة متر لكل عائلة، وتدفع الأخيرة تكاليف البناء على نفقتها الشخصية، ويحق لها بناء المساحة التي اقتطعت لها بالشكل الذي تراه مناسباً وبحسب قدرتها المالية، لكنها لا تملك وثيقة تثبت ملكيتها للأرض وأحقيتها في البناء عليه، بحسب أبو خالد العامل في صفوف الجبهة الشامية.
يقول أبو خالد: “الأراضي الموزعة هي ضمن أملاك الدولة ولا وجود لأملاك خاصة فيها”. ويتم توزيع الأراضي على المهجرين الراغبين بذلك عن طريق لجان من مختلف المناطق.
بناء بمصير مجهول
يبدي مهجرون قلقهم من تبعات ما يبنونه من مساكن عشوائية في حرش الخالدية، فغياب أي وثيقة رسمية تثبت ملكية صاحب المنزل للأرض، دفعت البعض لصرف التفكير عن البناء.
يقول مصطفى العلي “مهجر من دمشق يقيم في عفرين”: إن البناء في الحرش يعد مجازفة بمدخراتنا المالية، لا شيء يضمن حقوقنا بعد البناء، إضافة لانعدام أي نوع من الخدمات في المنطقة وصعوبة الطريق الواصل إلى الحرش”.
محمد “مهجر من خان الشيح في ريف دمشق ” قال إنه غامر بما يمتلك من نقود، وبنى منزلاً ليسكنه رغم المصير المجهول مع انعدام ما يثبت ملكية البناء، يقول: “تعبنا من دفع الإيجارات والتنقل من منزل لآخر في عفرين، الحصول على منزل بات حلماً لكل مهجر”.
وبنى محمد غرفة واحدة إضافة لمطبخ وحمام في قطعة الأرض المخصصة له، يقول إنه وفي حال حدوث أي طارئ وإخراج المهجرين من الحرش سيخرج معهم، ويرى أن التكاليف التي دفعها للبناء كان سيدفعها ثمناً لمنزل بالإيجار.
قلع جائر لأشجار الحرش
عند مرورك في الجبل تشاهد بقايا أشجار الصنوبر التي اقتطعت أخيراً لتتحول إلى أبنية جديدة، كذلك تشاهد مساحات واسعة من الأراضي قطعت أشجارها وبيعت كوسيلة للتدفئة.
تقدر هذه الأراضي بهكتارات كانت تضم آلاف الأشجار، وإن كانت هذه الأراضي ما تزال أملاكاً عامة وفق صكوك الملكية، لكن الأشجار المقطوعة لن تعود للحياة مجدداً. لتتغير ملامح جبل ترندة والأحراش المجاورة بعد زحف الكتل الاسمنتية على مساحنه الخضراء.
تختلف المنازل التي بنيت في حرش الخالدية من ناحية المساحة والتجهيز بحسب إمكانيات أصحابها، منها مؤلف من غرفة واحدة يجاورها مطبخ صغير وحمام دون إكساء بكلفة وسطية قدرها أصحابها بألف دولار أمريكي، ومنازل أخرى بمساحة أكبر مكونة من غرف عديدة، إضافة لمطبخ وحمّام وتتراوح كلفتها بين ثلاثة إلى أربعة آلاف دولار حسب نوع الاكساء. كما كان للمزارع حضورها في الجبل إذ تجد منازل محاطة بحدائق وقد لفها سور حجري، تتفاوت مساحة البناء فيها بين مئتين إلى أربعمئة متر، قسم منها جهز بمسبح، تقدر كلفتها بنحو عشرة آلاف دولار، وتعود ملكيتها في الغالب لعناصر وقيادات عسكرية.
بعيداً عن أولوية المنظمات
بنى مهجرون سوراً حول الأرض التي وُزعت لهم للحفاظ على مساحتها دون تجاوز من الأراضي المجاورة، لعجزهم مادياً عن الاستمرار بالبناء، يروي من تحدثنا معهم إنهم ينتظرون تبني مشروعهم من قبل إحدى المنظمات ومساعدتهم في الإنشاء، ويقول حسين “مهجر من ريف دمشق” إنه لا يمتلك القدرة المادية لبناء المنزل، بعد أن أرهقته تكاليف الإيجارات المرتفعة، في انتظار أن تأتي بعض المنظمات لمساعدته وأقرانه في البناء وتخديم المنطقة.
“السكن في الحرش سيكون مؤقتاً لحين إيجاد حل لما يمر به الواقع السوري من تعقيدات وفي أول فرصة سأعود إلى منزلي الذي هُجرت منه” يضيف حسين.
فقدان الخدمات الرئيسة في موقع البناء يشكل تحدٍّ للراغبين في السكن بحرش الخالدية، الطرقات جبلية وعرة والطريق الرئيسي الواصل للحرش شديد الانحدار، يمر بالقرب من عدة مقالع حجر تركت آثارها من التراب الناعم والغبار على جانبيه، ما شكل معاناة إضافية للعابرين عليه.
كما تغيب الخدمات الطبية عن الموقع كلياً ويلجأ الأهالي إلى مشافي عفرين للعلاج. وتوجد مدرستان ضمن مخيمين قريبين من الموقع يضطر سكان الجبل لنقل أولادهم إليهما رغم افتقارهما لأدنى مقومات العملية التعليمية.
حفرت إحدى المنظمات ثلاثة آبار في المنطقة لتخديم المنازل بالمياه، وافتتح بعض السكان بقاليات ومحلات بيع الخضار، لتأمين مصدر دخل لهم وبث الحياة في أرجاء الجبل، لكن تبقى مدينة عفرين وجهة السكان الرئيسية لتأمين احتياجاتهم.
بين الاستقرار وحق العودة
يتخوف ناشطون من محاولة توطين المهجرين بما ينسيهم حقهم في مناطقهم التي هُجروا منها، معتبرين أن هذا الأمر قد يساهم بتقبل المهجرين لواقع الحال الذي يعيشونه، ويلغي من أذهانهم فكرة العودة و المطالبة بحقوقهم.
يقول عز الدين العلي “مدير اتحاد نشطاء جنوب دمشق” : يحق لكل المهجرين البحث عن الاستقرار والأمان، شريطة ألا يكون ذلك على حساب حقهم الأصلي بالعودة، وذلك لا يعني أننا نطلب من المهجرين البقاء في الخيام وما تمثله من معاناة، لكن الحياة في ذلك الموقع لا تختلف كثيراً عن حياة المخيمات، وبالتالي يمكن تحسين ظروف معيشتهم بالمخيم بجزء من المبلغ المالي الذي سيدفعونه في بناء منزل ضمن حرش الخالدية.
منطقة مخالفات ولا يوجد أوامر قضائية للتعامل معها
سمح المجلس المحلي في عفرين لمنظمتين ببناء منازل صغيرة في محيط حرش الخالدية للمهجرين، وباقي عمليات البناء تمت دون رخص صادرة عن المجلس.
يقول محمد حاج عبدو مدير المكتب القانوني في مجلس محلي عفرين: “منح المجلس قطعتي أرض لمنظمتين من أجل بناء بيوت عوضاً عن المخيمات، وسيتم نقل النازحين إليها قريباً. وهناك من يقوم ببناء مساكن عشوائية خارج إرادة المجلس، حيث تم توزيع الأراضي من قبل جهات لا تتبع المجلس، وهي مخالفات تعامل كأي مخالفة وتعدٍّ على الأملاك العامة، يرفع المجلس المحلي المخالفات إلى القضاء لكن لم يصدر أي قرار بإزالة أي مخالفة في عفرين حتى الآن”.
وتابع العبدو: “لا يمكن للمجلس تخديم المنطقة فطبيعتها تحتاج إمكانيات كبيرة لا يستطيع المجلس المحلي تقديمها”.
عدم شرعية البناء في أملاك الدولة
أقر القانون السوري قوانين خاصة للتعامل مع أملاك الدولة، منها القانون رقم 252 لعام 1959 الذي عرّف أملاك الدولة الخاصة والذي يمنع إشغال أملاك الدولة من دون ترخيص مسبق من قبل مديرية الإصلاح الزراعي، والقانون المدني الصادر عام 1949 و الذي نص على عدم جواز التصرف بالأموال العامة أو الحجز عليها أو تملّكها بالتقادم، والقانون رقم 273 لعام 1956 و الذي لا يعترف بأي أبنية شيّدها الأفراد على أراضي الدولة بطريق الغصب أو الاستيلاء أو الإشغال بدون ترخيص.
يقول المحامي علي رشيد الحسن: إن التجاوزات التي تحصل اليوم على أراضي أملاك الدولة وسياسة الأمر الواقع التي تتبعها الفصائل المسيطرة على الأرض ليس لها أي أثر قانوني في المستقبل، وبالتالي فكل سكن قائم عليها يعتبر سكناً عشوائياً تتوجب إزالته.
تتفاوت آراء من تحدثنا معهم من المهجرين، يقول بعضهم إن مصاعب وتكاليف الإيجار تدفعهم للمجازفة وبناء مساكن عشوائية بكلفة بسيطة تمنحهم بعض الاستقرار، في حين يرى آخرون إن أي بناء بهذا الشكل مخاطرة قد يتحمل تبعاتها المهجر عند أي تغيّر في خارطة السيطرة على المنطقة.