تعطلت المؤسسات القضائية التابعة للنظام في المناطق التي خرجت عن سيطرته، وحاولت فصائل سورية وجهات مدنية تشكيل محاكم وهيئات قضائية بديلة، اصطدمت هذه المحاولات بالقوى العسكرية وهيمنتها على القضاء في إدلب من خلال أشخاص يتبعون لها، إضافة لتغييب دور الأكاديمين المختصين من محامين وقضاة، أيضاً غياب جسم واضح يحكم المنطقة وفقاً لقوانين وأحكام مكتوبة.
لجان صلح
تزامن خروج مناطق واسعة في إدلب، منذ بداية الثورة، عن سيطرة النظام بضرورة تشكيل هيئات قضائية بديلة عن المحاكم القديمة، تولت هذه الهيئات التي شكت من قبل الفصائل مهمة فض الخصومات بين السكان دون قوانين مكتوبة أو هيكلية، وعرفت باسم “لجان الصلح”.
كانت لجان الصلح وفض النزاعات أولى الهيئات التي نابت عن المحاكم سنة 2011 شكلها مدنيون وعسكريون، وتولت الفصل في قضايا الجنح والمخالفات والميراث، واعتمدت مبدأ “التراضي” بين المتخاصمين في الحكم على القضايا التي وصلت إليها، أبرزها لجنة جرجناز ولجنة جبل الزاوية ولجنة خان السبل، بحسب أبو رمزي (أحد العسكريين العاملين بها في ذلك الوقت).
قضاء “المشايخ“
أُنشئت مراكز أمنية تتبع للفصائل العسكرية في العامين الأوليين من الثورة، ويقوم عليها فيها ما اصطلح على تسميته بـ “شيخ”، يتولى التحقيق مع المتهم، ويصدر حكمه بناء على معرفته وفهمه لنصوص الشريعة الإسلامية، ويقوم الفصيل بتنفيذ الأحكام الصادرة عنه.
في فصائل صنفت كمعتدلة (مثل جبهة شهداء سورية)، كثيراً ما كان قائد الفصيل أو أحد مساعديه يمارس دور القاضي، دون النظر إلى خبرته ومؤهلاته العلمية، يقول نزار وهو مقاتل وشاهد على تلك الفترة “كان السكان ممتعضين من طريقة التقاضي، إذ لم تكن تلبّي احتياجاتهم بسب افتقار متولي القضاء للخبرة، وغياب الآلية الواضحة في التعامل مع القضايا”.
في عام 2013 اتجهت عدة فصائل و”مشايخ” لتشكيل مجلس القضاء الشرعي، وذلك بإنشاء محاكم مهمتها النظر في الدعاوى الجزائية والمدنية في منطقة سيطرة كل فصيل، منها محكمة جرجناز وجبل الزاوية ومعرة النعمان.
اشترط في تلك المحاكم تعيين قضاة من حملة شهادة الشريعة أو المعاهد الشرعية أو من خريجي جامعة الأزهر في مصر، ودخل المحامون لأول مرة على خط عملها بصفة استشارية فقط، لكن “تلك الشروط لم تطبق، وبقيت حبراً على ورق”، بحسب رامز السالم قاضٍ سوري أنهى عمله في محاكم النظام مع بداية الثورة السورية وانتقل للعيش في تركيا، والذي قال”عرفت من بين من تم تعيينهم في هذه المحاكم قضاة لم يتخطى تحصيلهم العلمي المرحلة الثانويّة!”.
أنهى تشكّل الهيئة الإسلامية للقضاء، في العام 2014، عمل مجلس القضاء الشرعي، وذلك باتفاق فصائل، أهمها حركة أحرار الشام وفيلق الشام ولواء الحق. انتشرت في إدلب وريف حماه. واستندت الهيئة على “الشريعة الإسلامية” في الحكم القضائي، واستمدّت قوتها التنفيذية من الفصائل الموقعة على تأسيسها.
قام النظام القضائي في الهيئة الإسلامية على درجتين من التقاضي، بوجود إحدى عشرة محكمة درجة أولى، ومحكمة تمييز في بنش درجة ثانية مهمتها النظر في الدعاوى المقدمة إليها من محاكم الدرجة الأولى، لتقر الحكم الصادر منها أو تلغيه كلياً أو جزئياً.
تألفت الهيئة الإسلامية للقضاء من رئاسة الهيئة، ومكتب التفتيش القضائي ومكتب المتابعة، والنيابة العامة والديوان العام ودواوين المحاكم الأصلية ( تمييز وصلح) والفرعية ( غرف صلح وكاتب بالعدل)، والقوة التنفيذية والأمنية في المحاكم والهيئة العامة.
لمحاكم الصلح أربع غرف: غرفة الأحوال الشخصية وتختص بالدعاوى المتعلقة بأمور الزواج والطلاق والنسب، وغرفة الجنايات التي تنظر بجرائم القتل والسرقة والتعامل مع النظام، وغرفة جزائية تتضمن الدعاوى المتعلقة بالمشاجرات وحوادث السير وسرقة العقارات، وغرفة مدنية تختص بالدعاوى العينية والشخصية العقارية، والأضرار الناجمة عنها والمنازعات على الأموال والعقود.
استمر عمل محاكم الهيئة الإسلامية حتى تموز 2017، وهو موعد تشكيل مجلس القضاء الأعلى باجتماع الهيئة الإسلامية ومجلسي القضاء الأعلى في حلب والغوطة الشرقية لدمشق ودار العدل في حوران، وشهد ذلك الوقت تفعيل دور المحامين ورجال القانون، وسُمح لهم بالتوكّل والترافع عن المتهمين، وحوّلت القضايا التي تحتاج للنظر والمداولة لمكتب مختص يشرف عليه قانوني يحمل شهادة حقوق، مهمته النظر في الدعاوى من الناحية الشكلية والإجرائية. وشرعي يملك شهادة في الشريعة الإسلامية يقوم بإصدار الحكم النهائي للقضية.
وصف حقوقيون هذه الخطوة بـ “الإيجابية”، لكن المحامي غزوان قرنفل (رئيس تجمع المحامين السوريين في تركيا) قال “من البديهي قيام المحامين بممارسة مهامهم”، وتساءل “لماذا يمنع المحامي أصلاً من عمله؟”، واعتبر إن إبعاد المحاميين عن العمل أحد أهم أسباب فشل النظام القضائي في المنطقة.
أشرف على عمل كل غرفة قاض وشرعي في آن واحد، يشترط أن يكون حاملاً لشهادة في الشريعة الإسلامية، ومستشار حقوقي من نفس درجة القاضي، ويجب أن يكون حاصلاً على شهادة الحقوق، وكاتب ضبط للجلسات، كما يحق للمستشار في حالات محددة إصدار الأحكام، إلا أنها تبقى بحاجة للتصديق من رئيس الغرفة.
يقول المحامي غزوان قرنفل “رغم تطور تلك المحاكم واتباعها تنظيما جيداً، إلا أن تبعيتها للفصائل العسكرية مالياً وتنفيذياً وإدارياً حال دون وجود جسم قضائي موحد، ما أدى لاختلاف القوانين المطبقة في كل محكمة، وبالتالي زعزعة استقرار العمل القضائي”.
في آب 2017 اتجهت محاكم الهيئة الإسلامية إلى العمل بالقانون العربي الموحّد كمرجعية وحيدة، هذه الخطوة لم يكتب لها الاستمرار، إذ بدأ الاقتتال بين حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام، لتقوم الأخيرة بحل المحاكم وتغييبها عن الساحة القضائية في إدلب منذ منتصف أيلول 2017.
صراع على العدالة
قامت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حاليّاً) في العام 2013 بتشكيل هيئات قضائية في المناطق الخاضعة لها في إدلب وحلب، واعتمدت كغيرها من الأجسام القضائية في المناطق المحررة آنذاك، على رؤية الشيخ أو الأمير، وعرفت بتشددها في الأحكام وتطبيق العقوبات الجسديّة، إلى جانب قدرة تنفيذية عالية على تنفيذ هذه الأحكام استمدتها من عناصر الشرطة الإسلامية.
يقول القاضي رامز السالم إنّ محاكم تلك الفترة اتّسمت بازدواجية الأحكام القضائية، فلا مرجعية قانونية واضحة وثابتة لها، إذ كان كل حكم يصدر بناء على اجتهاد القاضي وفهمه لنصوص الشريعة. حتى غدا من الممكن أن يحصل المتّهم على حكميين مختلفين في المدينة نفسها، وقلّما تتشابه الأحكام بين قاض وآخر، إضافة لغياب شبه تام للمحامين والقضاة الذين انشقوا عن نظام الأسد، وتدخل واضح من قادة الفصائل في شؤون القضاء.
يعزو المحامي غزوان قرنفل غياب المحامين والقضاة في هذه المحاكم لسببين: اتجاه قضاة منشقين لتشكيل محاكم، بعد تأسيس مجلس قضائي حر منتصف 2013، و بناء جسم قضائي مدني يسد الفراغ الحاصل، وهو ما رأته حركة أحرار الشام تطاولاً على سلطتها ما دفعها لإغلاق مكاتب القضاة ومصادرة معدّاتهم في حارم ودركوش، إلى جانب اعتماد الفصائل على الشرعيين في محاكمهم بذريعة الحكم وفق أصول الشريعة.
ويبين فيلم وثائقي بثته قناة bbc البريطانية بعنوان “صراع على العدالة”، طبيعة النظام القضائي في المحكمة الشرعية التابعة لجبهة النصرة في سراقب، ودور القاضي الشرعي في استجواب المتهمين وإطلاق الأحكام وغياب المحامين، وتنفيذ الحكم الصادر بحقهم من قبل عناصر تابعين لها، ورصد الوثائقي اعتراضاً مدنيين على أحكام هذه المحاكم والمطالبة بإلغائها والاستعاضة عنها بمحاكم مدنية تضم حقوقيين وقضاة.
أحمد من أبناء جبل الزاوية حكم عليه بالسجن ثلاث مرات في ثلاث محاكم مختلفة، تتبع إحداها لحركة أحرار الشام واثنتين لجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً)، يقول “إن شيخ المحكمة لم يحرّك ساكناً عندما أخبرته بتعرضي لأقسى أنواع التعذيب في السجن. اكتفى بقراءة أسطر من كتاب وضع على الطاولة ثم الحكم علي بالسجن لمدة ستة أشهر”.
في العام نفسه مثل أحمد أمام محكمة لجبهة النصرة، بتهمة السرقة، كانت ثمن المسروقات هذه المرة أقل من سابقتها، يقول “تعرضت للتعذيب أيضاً”. حكم على إحمد بالسجن لمدة سنة كاملة، لكنه خرج بعد سبعة أيام بـ “واسطة ثقيلة” من أحد القادة، على حد قوله، جعل قاضي محكمته يقضي بتبرئته تحت ذريعة السرقة بدافع الفقر لا الحرفة.
سلطة ذائبة
نهاية العام 2017 تشكلت حكومة الإنقاذ، واتخذ القضاء شكلاً تنظيمياً أكبر، وبدأت وزارة العدل فيها بتنظيم عمل المحاكم في المناطق الخاضعة لسيطرتها. منها محكمة المعاملات المدنية (معاملات، أحوال شخصية، جزاءات)، ومحكمة الجنايات المركزية (تنظر في قضايا القتل)، ومحكمة الاستئناف المركزية (مختصة بالقضايا المطعون فيها للاستئناف)، ومحكمتان عسكريتان (تنظران في القضايا التي يكون فيها المتهم مقاتلاً)، والمحكمة الإدارية ( تنظر في الدعاوى المرفوعة من قبل هيئة أو مؤسسة).
تقوم وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ بتطبيق القرارات الصادرة عن المحاكم التي بقيت تستمد مرجعيتها من أحكام الشريعة الإسلامية غير المقننة “غيرمنظمة ضمن مواد”، والفقه الإسلامي والموسوعات الفقهية ومجلة الأحكام العدلية. مع عدد كبير من التعاميم الصادرة من وزير العدل والمجلس الأعلى للقضاء (وهو مختلف عن مجلس القضاء الأعلى المذكور سابقاً) لتنظيم عملها.
يقول المحامي نزيه البيوش (من مؤسسي نقابة المحامين الأحرار) إن القضاء في إدلب يتمتع بدرجة جيدة من الاستقلالية، فضلاً عن امتلاك قوة تنفيذية قادرة على تطبيق القانون في كل مناطق إدلب، كما أن ثقة الناس بالجسم القضائي باتت أكبر بعد تشكيل وزارة العدل. لكن القاضي رامز السالم يقول إنه “من الخطأ الحديث عن استقلالية القضاء دون فصل للسلطات، القضاء في إدلب يتبع لوزارة العدل في حكومة الإنقاذ التي تتبع هي الأخرى لهيئة تحرير الشام”.
لا ينكر يحيى (اسم شائع اخترناه لناشط إعلامي من جبل الزاوية) دور المحاكم في فض الخلافات بين المتنازعين وتأدية الحقوق والواجبات، لكنه ينتقد القضاء في إدلب من ناحية الحكم على ناشطين وصحفيين بالسجن أو الغرامة لمجرّد أنهم عبروا عن رأيهم المخالف لجهة ما، وهذا يكشف حجم التدخلات والضغوط التي تمارس على القضاء من قبل هيئة تحرير الشام.
يقول يحيى: ” إن الناس ليسوا متساوين كما يزعم القضاة الشرعيين في إدلب، فالقانون يطبق على الضعيف الذي لا ظهر له ولا سند”، ويستشهد يحيى بحالات لمقاتلين ارتكبوا جرائم دخلوا السجن وخرجوا بعد أيام أو أشهر.
نشرت نقابة المحامين الأحرار دراسة بعنوان (الواقع القضائي والمحاكم في سورية بعد عام 2011)، قالت فيها إنه لا يوجد قانون موحد وواضح المعالم تستند إليه المحاكم التي ذكرناها سابقاً في إصدار أحكامها.
وتقول الدراسة التي استهدفت 950 شخصاً مراجعاً لهيئات قضائية، (من سكان مناطق المعارضة السورية ومنها إدلب وريفها)، إن ثلثي المراجعين لا يعرفون مسبقاً القانون المطبق في الهيئات القضائية في مناطقهم، ونصفهم قالوا إن القضاة يستخدمون الكنى والألقاب بدلاً عن أسمائهم الصريحة.
وتغيب المرأة عن العمل القضائي، بالرغم من وجود نساء أكاديميات يمتلكن خبرات يمكن الاستفادة منها، مقابل وجود قضاة رجال بدون خبرات سابقة أو مؤهلات قانونيّة، إنما هم خريجو كليات ومعاهد شرعيّة، بحسب الدراسة.
نظمت وزارة العدل في حكومة الإنقاذ دورات تهدف لتدريب وتأهيل وتخريج قضاة، وتنشر كفيديوهات على صفحة الوزارة في فيس بوك. وعن هذا يقول المحامي غزوان قرنفل إن التدريب واكتساب المهارات شيء جيد من حيث المبدأ، لكن القاضي ليس وجبة سريعة، يجب تحضيرها بهذه الطريقة، فدراسة القانون والدورات اللاحقة لها تحتاج لست سنوات على الأقل، ولا تتم بدورة تدريبية بشهر ونصف الشهر”.
يرى حقوقيون أن وجود هذه المحاكم ضرورة بعد خروج المؤسسة القضائية التابعة للنظام من إدلب، نظراً لحاجة الناس لجهة تفصل في قضاياهم المستجدة ونزاعاتهم، ولتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية، لكن الأمر مرهون بقدرة المحاكم على الاستجابة لحاجات الناس وحل مشاكلهم والقضاء بينهم بالعدل كي تكسب ثقتهم. كذلك استقلال هذه المحاكم ووجود مواد واضحة للحكم فيها، وتفعيل دور المحاميين والقضاة في الجسم القضائي السوري.