بين كل محل ومحل في أسواق إدلب، متجر يغرق بمواد التجميل ” المكياج المقلّد ” عن ماركات عالمية، قسم منها يصنع في ورش محلية تحاول جاهدة محاكاة العبوات الخارجية الأصلية في اللون والشكل و”اللوغو”، تاركة لما في داخلها الحرية في تعبئة مواد مخالفة، أو تلك القادمة من الصين وتركيا والإمارات عبر المعابر وطرق التهريب، والتي تمتاز بحرفية أعلى في التقليد إلى الحد الذي يصعب معه التمييز بينها وبين الأصلية إلا بعد استخدامها.
ماركات عالمية مثل “جولدن روز، ماكس فاكتر، كوين، ماك، ديور، لوريال، مايبيلين..” تأخذ مكانها على رفوف المحلات، وبأسعار لا يمكن أن تنافسها شركاتها الأم في بلدانها الأصلية، تقول سيدات تحدثنا معهن “يكفي أن تقرأ السعر لتعرف أنها مزورة أو مقلدة في أفضل الأحوال”.
ليس لهذه الشركات وصول إلى إدلب لمحاسبة المزورين والمقلدين، وليس هناك قوانين في إدلب تصون الملكية وتمنع بيع هذه المنتجات التي قد تسبب آثاراً جانبية سيئة على وجوه السيدات مع استخدامها، كالتهيج الجلدي والبثور والندبات.
السعر هو الحاكم الفعلي في أسواق “المكياج”
أنفقت سيدات أوروبا نحو ٦٠ مليار دولاراً على مواد التجميل في العام ٢٠١٣، وهو العام الذي شهد أزمة اقتصادية عالمية لم تطل سوق “المكياج” الذي استحوذ على ٢٠٪ من مبيعات المستحضرات التجميلية في ذلك العام وفي مختلف دول العالم، وفي الدول العربية وصل إلى نحو ٢.١ مليار دولار، بمعدل ٣٣٤ دولاراً للشخص الواحد.
ليست سوريا واحدة من الدول الأعلى تصنيفاً في شراء “المكياج” غير المقلد، لكنها من بين الدول التي ينتشر فيها التقليد والتزوير لهذه الماركات العالمية، بسبب انخفاض دخل الفرد مقارنة بارتفاع أسعار مواد التجميل التي قد ترافق السيدات لسنوات طويلة، تقول نساء تحدثنا معهن، ومنهن السيدتان “نوال ومنى السعيد”، إن زواجهما مضى عليه أزيد من عشر سنوات وما زلن يحتفظن ببعض “المكياج” من جهاز عرسهن، تقولان إنها تعود لماركات أصلية لم يعد لها وجود في أسواق إدلب، المكان الذي هجرن إليه من مدينتهم في حلب.
ويقول أبو جهاد (صاحب محل بيع مكياج ومستحضرات تجميل في مدينة إدلب) إن ” المكياج المقلّد ” سمة بضائع السوق في محله ومعظم المحلات الأخرى، ويرجع ذلك لزيادة الطلب عليه وسعره المناسب إذا ما قورن بالماركات العالمية التي وصف منتجاتها بـ “الجودة العالية والأسعار الباهظة”.
ويضيف أبو جهاد “قلة من النساء يسألن عن منتجات أصلية، الجميع يبحث عن المواد المقلدة ويستخدمنها، هن يعرفن إنها ليست الأصلية ولكن ما يملكنه من نقود يحكم هذه المسألة”.
ولاء شابة تسكن مدينة إدلب، وهي عروس أرادت شراء مواد تجميلية لجهازها، تقول إنها أنفقت ٤٠٠ ليرة تركية (٥٠ نحو دولاراً) على شراء المكياج، والذي تضمن “كريمات البشرة والشعر، و”المسكرة” هي أداة خاصة برموش العين، وعدة أقلام من الكحل والظل وأحمر الشفاه”، بأسعار تراوحت بين عشرة إلى عشرين ليرة للمنتج، دون الاكتراث لماركة المنتجات التي اشترتها، فهي حسب خبرتها بشراء المكياج أصبحت تعرف ما يناسب بشرتها ودخلها بنفس الوقت
تقول ولاء إن هذا المبلغ قد يكون ثمن قطعة واحدة من ماركة “لوريال” أو “مايبيلين” المعروفتين، فأقل كريم أساس للبشرة أو علبة “بودرة” تكلف بين 10 الى 15 دولاراً، وهناك بعض القطع التي يتجاوز سعرها ٥٠ دولاراً، أي ما يعادل راتب عامل لشهر كامل في إدلب.
يصعب على ولاء التمييز بين المكياج المقلّد والأصلي، وفي كل مرة تقع فريسة الغش كما أخبرتنا، وتعتمد على نصيحة صاحب المحل ومدى ثقتها بجودة ما يبيع.
يخبرنا أحمد اليوسف وهو تاجر مواد تجميلية من تركيا إلى إدلب، إن الجميع يعرف بتقليد هذه المواد، ولكن فروقاً كبيرة تكمن بين التقليد والتزوير، إذ يراعي الذين يعملون على تقليد هذه المنتجات المواد الأساسية والتي تستخدم من ماركات محلية أو رخيصة الثمن، يتم تبديل العبوات الخارجية ولصاقات الكتابة، وبيعها في الأسواق بأسعار مناسبة، أما المزورة فغالباً ما تحتوي على مواد “لا تنفع ولا تضر”، وهي قليلة الاستخدام والبيع في الأسواق.
يقول اليوسف إن السبب الرئيسي لتقليد هذه المنتجات (الحالة النفسية للنساء)، هن يردن استخدام ماركات عالمية يشاهدنها في الإعلانات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، هذا أمر شبه مستحيل مع ارتفاع أسعارها، ولذلك يلجأن إلى البضائع المقلدة ليشعرن بالرضا.
تخبرنا نسرين وهي شابة في العشرين من عمرها تسكن في ريف إدلب الشمالي، إن الظروف الاقتصادية تدفع الفتيات لشراء المكياج المقلّد ، وإن الأمر لا يتعلق برغبتهن بالحصول على ماركات عالمية فقط، هن يحاولن الحفاظ على جمالهن وسط ظروفهن المادية، فالأسعار هي من يحكم ذوقهن، إضافة لتبادل التجربة بين الفتيات عن أنواع من الممكن أن تؤدي الغرض.
تهريب لا استيراد
تحصل المحلات الصغيرة في المنطقة على “المكياج المقلّد” من تجار الجملة، الذين يحصلون عليها من الصين وتركيا والإمارات وغيرها من الدول عبر المعابر، وتغيب الرقابة عن المراكز والمحلات التجارية، بحسب ما يقول أبو هشام صاحب مركز “جملة” لبيع المكياج في مدينة سرمدا، ويتم استيراد البضاعة من ماركات متنوعة وجودة مختلفة عن طريق شحنها من تركيا مع الالتزام بمدة صلاحية المنتجات.
أما الماركات العالمية فيتم شراؤها بناء على طلبٍ خاص من الزبونة، وأحياناً تدفع جزءً من ثمنها، لضمان بيعها، فهي غالية مقارنة بباقي المنتجات وتطلبها فئة معينة من النساء الميسورات.
ويقول أبو جهاد: يتم استيراد البضاعة بشقيها الأصلي والتقليد من علامات تجارية متنوعة، مثل ماركة “بيوتي سيتي” “جوسي بيوتي” “ديرماكول” “أولاي” “ماكس فاكتر”، وغيرها لجميع مواد التجميل من كريمات البشرة أي ما تعرف “بالفونديشين” وأقلام أحمر الشفاه، والمسكرة وغسول الوجه والمطريات وكريمات الشعر والعدسات اللاصقة وعلب الظل وغيرها من أنواع مواد التجميل. وتلعب المضاربة دوراً في تحديد سعر المنتجات، إذ لا يوجد سعر ثابت يلتزم به جميع التجار، وكل يبيع بسعر مختلف.
تستطيع منال الحمصي، فتاة تقيم في مدينة إدلب، التمييز بين المنتجات بناء على خبرتها في شراء المستحضرات، ومعرفة العلامة المميزة لكل قطعة، حسب متابعتها لصفحات “المكياج العالمية” التي تميزها عن غيرها من المقلد، بالإضافة لرائحة المنتج وشكلة الخارجي وسعره وثقة الزبونة بصاحب المحل الذي يعرف القطع ومصدرها ويهتم بالحفاظ على رضا زبائنه.
تدفع منال أضعاف سعر المنتج المقلد للحصول على كريم خافي عيوب “كونسيلر”، من ماركة “مايبيلين العالمية” وتقول “إن الغالي يبقى ثمنه فيه” فهو ذو جودة عالية لا تضاهيه أي منتجات أخرى في السوق.
تخبرنا أنها قبل عام كانت تحصل على قطع مكياجها من تركيا عن طريق إحدى صديقاتها، لصعوبة وجود ماركات عالمية في أسواق إدلب، أما اليوم فالوضع أفضل بعد انتعاش الأسواق والحركة التجارية، وزيادة عدد محلات بيع المكياج، وبات من الممكن حصول الفتيات على طلباتهن ومن مختلف الماركات عن طريق أصحاب المحلات.
تقصد منال محلات معينة تحرص على وجود قطع من ماركات متنوعة لتلبية الزبونات اللواتي يرغبن بشراء الماركات، كمحل “مكياجي” و”شانيل” في شارع الخمارة، ومحل “ريتشي” في سوق الصاغة بمدينة إدلب، ليلبون طلبها بعد “توصيتهم” على ما تريد. وتشتري ما تحتاجه من مستحضرات تجميلية أصلية من ماركات عالمية، تقول إنها لا تثق بأي مستحضر مقلد، إذ سبق أن تضررت بشرتها لاستعمالها مستحضرات عادية وتكلفت ضعف سعر المنتج على العلاج والدواء.
نستخدم المكياج لأنفسنا
تستخدم الفتيات الماكياج لإخفاء عيوب في البشرة أو الاعتناء بها، كذلك إبراز جمالهن، تقول نسرين إنها تستخدم المكياج في المنزل، “أضع المكياج لنفسي، أشعر بالراحة والجمال وهذا يكفيني”.
يوضح تقرير لموقع يورو نيوز تراجع استخدام أحمر الشفاه في فرنسا بنسبة ٧٥٪ بعد فرض الكمامة خلال الحجر الصحي الذي رافق انتشار فايروس كورونا، مقابل زيادة في استخدام طلاء الأظافر والرموش.
تعلق نسرين على هذه الأرقام، تقول إن الأمر مختلف هنا، هناك قد تضع الفتيات المكياج خلال توجههن إلى المقاهي ودور السينما والأسواق، هذا الأمر غير متاح هنا، نحن فقط نستخدمه لأنفسنا وداخل البيوت، ونزيله عند التوجه إلى أي مكان، أما المتزوجات فيستخدمنه لأزواجهن وداخل المنزل أيضاً.
بشرة متعبة
إن النسبة الأكبر من الفتيات اللواتي يرتدن عيادة الطبيبة “سهى عثمان” في إدلب، ممن يعانين تهيجاً وحساسية وتصبغات جلدية وزيادة في طول شعر الوجه، بحسب الطبيبة التي قالت إن “المكياج المقلد” أو “المزور” هو أحد الأسباب لهذه المشكلات.
وتوجه “عثمان” عدة نصائح للمرأة بشأن انتقاء مواد التجميل، أهمها تطبيق المكياج أولاً على الجبهة وأطرف الوجه، ثم على باقي البشرة لمعرفة مدى حساسية البشرة اتجاه المنتج، ويجب تنظيف الوجه بشكل دائم لإعادة فتح المسامات و منع تشكل “الزيوان”، كذلك الابتعاد عن الكريمات التجارية الرديئة أو المقلدة لاحتوائها على مواد سيئة وضارة لخلايا البشرة.
فيما ترجع فاطمة جمعة (صاحبة محل بيع مكياج) الضرر إلى نوع وحساسية البشرة بين النساء، فهناك مستحضرات تناسب بعض السيدات دون غيرهن ولا تسبب أي تشوه أو حساسية، وقد لا تناسب ذوات البشرة الجافة مثلاً فالأمر يعود لخبرة المرأة ومعرفة ما يلائمها.
تقول فاطمة “لم تشتكِ أي من الزبونات سوء المنتجات التي أبيعها، على العكس فهي من النوعية الجيدة والثمن المناسب لدخل شريحة واسعة من النساء، وإن لم يكن من ماركات أجنبية معروفة”.
تقول فتيات في إدلب إن “المكياج” رفاهية لم تعد من أولوياتهن، وقد تكتفي إحداهن بقلم واحد من أحمر الشفاه والكحل أو مرهم “واقي شمسي” دون أن تحفظ حتى اسمه أو تعلم أنه نسخة مقلدة عن ماركة أجنبية.