لم يمنع قرار منع التسول الذي أصدرته حكومة الإنقاذ في إدلب، قبل أشهر، من الحد من تلك الظاهرة، فعشرات المتسولين ما يزالون يفترشون طرقات إدلب ويمارسون عملهم بأساليب مختلفة، يستجدون المساعدات من المارة متحدين قرار المنع والتوقيف الصادر بحقهم.
وبحسب فيديو، نشرته وكالة أنباء الشام المتحدثة باسم الحكومة، فإن القرار جاء بعد تلقيهم شكاوى من الأهالي حول المضايقات التي يتعرضون لها من قبل المتسولين الذين يجوبون شوارع قرى وبلدات إدلب، إضافة للمظهر السلبي الذي تشهده أسواق الشمال وساحاته “وفق القرار الصادر عنها”.
في مسجد اسقاط الكبير وفور انتهاء الإمام من أداء صلاة الجمعة وقف رجل خمسيني بقدم مبتورة وقد رسمت الحياة ملاحها القاسية على وجهه خلف المصلين، سد عليهم باب المسجد وطلب من الجميع الجلوس للحظة واحدة للاستماع لقصته.
مسح وجهه وعرك عينيه وكأنه يمسح دمعهما وبدأ بسرد قصته بصوت مبحوح تخالطه غصة، ” أنا نازح ومعيل لتلات أرامل هم زوجات ولادي اللي استشهدوا بريف حماة الشمالي”. دعّم الرجل حديثه بأوراق ثبوتية ودفاتر عائلية لذوي أبنائه وآيات من القرآن، مطالباً الناس بمساعدته.
لم تمنعه طلبات إمام المسجد المتكررة بالجلوس أو مغادرة المسجد من إكمال حديثه، فصوته الجهور المرتفع كان أكثر وقعاً في المسجد، وانتهى به الحديث لتحميل الإمام ذنب حرمانه من تلك الصدقات.
اختلطت آراء المصلين في المسجد بين منتقد لتصرف الرجل، والذي وجدوا فيه انتهاك لحرمة المسجد، وبين منتقد لتصرف الإمام والذي وجدوا فيه قطعاً للأرزاق.
يقول الرجل الذي رفض الكشف عن اسمه إن قرار الحكومة لا يعنيه بشيء وسيتقيد به في حال تمكن من تأمين مستلزمات عائلته، ومن يطلب المظاهر الحضارية ضمن مجتمعه عليه تأمين احتياجات لناس وتلبيتها قبل إصدار تلك القرارات “وفق تعبيره”.
في سلقين البلدة المجاورة والتي تعتبر أكثر اكتظاظاً بالسكان تجلس امرأة على أحد أرصفة السوق الرئيسي تحمل طفلاً في يدها اليمنى ووصفة دوائية باليسرى تستجدي من خلالها المساعدة لإجراء عمل جراحي لطفلها، لا تحرك ساكناً ولا تهمس بأي شيء، فالطفل الذي تحمله على ذراعها يلخص مطلبها من خلال شكل جسده وأصوات الأنين المستمرة التي يصدرها دون توقف، وعلى بعد أمتار منها تتنوع آراء من التقيناهم بين منتقد لها بحجة أنها متسولة تمت رؤيتها في أكثر من موقع من مواقع المدينة وبين متعاطف مع وضعها الحالي.
ابتسام امرأة أخرى، تسكن محاطة بعشرات حقول القمح، وتجلس أمام أحد أفران المدينة تستجدي ثمن كيس خبز، فأصحاب الحقول الذين اعتادت على عطاياهم كل عام لم يستطيعوا منحها شيء من تلك المحاصيل المخصصة للزكاة، بعد فرض حكومة الإنقاذ نفسها عليهم لتوزيع تلك الصدقات.
تقول ابتسام: “إن أعطيات الناس من زكاة القمح كانت تصلها كل عام حيث كانت تستعمل بعضه وتبيع الآخر لتأمين احتياجات أولادها الثلاثة الذين لم يتجاوز عمر أكبرهم أحد عشر سنة، وبعد انفراد الحكومة بتوزيع تلك المحاصيل لم يلتفت إليها أحد الأمر الذي اضطرها للخروج للتسول والمداومة عليه منذ أكثر من عام”.
في المدينة ذاتها رجل تظهر عليه علامات الهيبة والوقار من خلال لحيته المهذبة وثوبه الأنيق وحطة رأسه البيضاء، يجول محلات المدينة ويطلب من أصحابها الانفراد معهم للحظات يوضح لهم الأمر على أنه فاعل خير يعمل على جمع مساعدات للعائلات الفقيرة، وفي حوزته بعض الأوراق الثبوتية بأسماء تلك العائلات وجرد لقيمة تلك النفقات وكيفية توزيعها وأسماء مستحقيها، يعرضها على أصحاب تلك المحلات يطلب منهم المساعدة، بهدف كسب الثقة، يدعمه في ذلك شكله الوقور الذي لا يوحي أنه متسول.
تختلف أساليب التسول تبعاً لطبيعة المنطقة وجنس المتسول والطبقة العمرية، ولكل منهم طرقه وأساليبه التي يستطيع من خلاها كسب المال إما من خلال استعطافهم أو إقناعهم بطرق خاصة.
في حي الجامعة بمدينة إدلب يتوزع الطفل أحمد وشقيقتاه على كليات الجامعة حاملين معهم علباً صغيرة من السكاكر أو عبوات عطر صغيرة، يستجدون طلاب الجامعة بشكل متكرر لشرائها، الأمر الذي يحرج كثيرين ويدفعهم لدفع ثمنها دون أخذ السلعة التي يبيعها الأطفال للتخلص من إلحاحهم.
ينهي الأطفال جولتهم ليجتمعوا في المكان الذي كانوا قد اتفقوا عليه للعودة إلى مكان إقامتهم قريباً من المدينة عبر إيقاف إحدى السيارات العابرة التي يمكن أن تقلهم دون مقابل.
ينفي أحمد (أحد عشر عاماً) أن يكون هو وأخواته من المتسولين مع إقراره بقبول العطايا التي يمنحها لهم الطلاب، ويصر على أنه يعمل مع أخواته ببيع البسكويت أو عبوات العطر الصغيرة أو الورد”.
نفذ عناصر الشرطة خلال الشهرين الماضيين عدة حملات اعتقال استهدفت المتسولين في قرى وبلدات إدلب. يقول أبو خالد “قاضي شرعي” بعد إلقاء القبض على المتسول يطلب منه التوقيع على تعهد يلتزم فيه بعدم العودة لممارسة التسول من جديد، ويدرس وضعه بشكل كامل، وبناء على الدراسة تتم إحالة الحالات المحتاجة إلى هيئة الزكاة لتخصيص كفالة أو راتب لهم مقابل التوقف عن التسول”.
يرى من التقيناهم من أهالي إدلب إن انتشار الفقر وخسارة آلاف الناس لمصدر رزقهم وقلة فرص العمل وضعت غالبية السكان تحت خط الفقر، ما فتح آفاقاً جديدة لظاهرة التسول رغم قرار الحكومة القاضي بملاحقتهم واعتقالهم.