في صباح السادس والعشرين من أيار، كان الجو هادئاً إلا من هتافات بعيدة، امتطيت سيارتي حتى وصلت إلى تقاطع قريب، فشاهدت العديد من السيارات تنتظر الإذن بالتحرك من قبل أحدهم، فاضطررت للوقوف حتى يفسح المجال لي.
إلى يميني في الشارع الآخر عشرات السيارات الخاصة والعامة المحملة بالأعلام واللافتات واللوحات والرجال والنساء والأطفال والكائنات المموهة، وأغان وطنية وغير وطنية، تنتشر في الهواء، تمجد الأرض والشعب والقائد الأوحد.
قررت أن أتحرك بعد أن طال انتظار تحرك زفة العرس الوطني، لكن أحدهم قام بالنباح على سيارتي كي أتوقف. تجاهلته ومضيت في طريقي وأنا أتابعه بالمرآة الخلفية وهو يلهث ورائي ويكيل الشتائم -على ما أظن- لأني مواطن لا ينصاع للأوامر.
تساءلت في نفسي عن جدوى هذه المبالغة بالتعامل مع هذا العرس الوطني، من خلال التطبيل والتزمير، إذا اعتبرناها حالة دستورية، وحقاً انتخابياً، تمارسه أغلب الشعوب بهدوء، ودون أي مظاهر “تشبيحية”.
في الليلة التي سبقت الانتخابات الرئاسية سمعت صوت انفجار قريب، وسمع دويه في أنحاء مدينة حلب، كان جلياً أنه وقع في محيط حندرات أو الكاستيلو، وماهي إلا دقائق حتى سارعت مواقع التواصل الاجتماعي إلى تبريره، بأن وحدات الهندسة قامت بتفجير بعض المخلفات المتفجرة.
سألت أحد الجيران فأجاب بصوت خافت بأنه يعتقد أن ذلك الصوت قادم من ساحة سعد الله الجابري التي تتوسط المدينة.
لم يكن كلامه منطقياً حسب حركية الصوت وسمته، لكن الإحساس بالخوف كان متنامياً في النفوس، على شكل ارتعاش غير منتظم في دقات القلب والسيقان. جُهزنا جميعاً للخوف والمفاجآت وتعليق الشماعات.
الاستنفار الأمني في “زفة العرس الوطني” كان في أعلى درجاته، على أغلب التقاطعات التي تؤدي إلى مركز المدينة، أو إلى الدوائر الانتخابية، والتي تحفل بصورة مرشح واحد، وهو بطل العرض المسرحي.
وقد اضطرت بحزن عميق، وبنزين قليل، أن أسير مسافات إضافية حتى وصلت إلى وجهتي البعيدة، فالبنزين والتأخر عن العمل، والشلل الكامل لمجريات الحياة والرزق، فداء للوطن وقائده.
بعد أن استسلمت لكرسي وثير في مكتبي، وأشرعت سيجارة الحمراء القصيرة، بدأ الدخان يغطيني، وبدأت التفكير..
بتصديرها كانتخابات ديمقراطية فلا بد من حظوظ متساوية للمرشحين الثلاثة، في مراكز الاقتراع، من خلال البرامج الانتخابية التي تبث على أرض الواقع، والقنوات الرسمية والخاصة، والصحف، ومواقع التواصل الالكترونية، ولابد أن تكون الجهات الأمنية والعسكرية على الحياد، لاسيما أنها غير مخولة للاقتراع حسب القانون غير المعمول به.
كل مرشح يمثل حزبه، وهذا أمر حضاري، ولكن الغريب أن أغلب الأحزاب المعارضة تدعم حزب السلطة الحالي، من خلال اللافتات والإعلانات والأغاني التي تمجد قائد ذلك الحزب، وأحسب أن المرشحين المنافسين قد انتخبا المرشح الذي ينافسهم، حرصاً منهم على الوحدة الوطنية، والقرار الوطني المستقل، ولكن وبشكل مفاجئ هتف هاتف في ذهني: أنت في سوريا!
الفضول قادني مساء للولوج إلى أحد مراكز الاقتراع، في مدرسة قريبة مني، لاستكشف ما يجري داخل أروقة هذا اليوم العظيم. ثلاثة عناصر من الشرطة بلباسهم الميداني الكامل، يجلسون على الباب، وقد تفجرت على وجوههم سيول من العرق والتعب، ألقيت التحية، فردوا بأحسن منها، ولم يحركوا ساكناً.
قلت: ألن تقوموا بتفتيشي؟
قال أحدهم: لا داع.
في غرفة مجاورة للباب الرئيسي، رأيت سيدتان تجلسان، وأمامهما أكداس من الأوراق والأسماء وكؤوس الشاي، وشطائر الفلافل. دعتني إحداهما للدخول، ثم ناولتني قلماً مربوطاً بخيط، حتى لا ينسل إلى جيبي بعد الاقتراع، وورقة تحمل صوراً للمرشحين الثلاثة، وأسفل كل واحدة منهن دائرة فارغة.
قلت: هل يمكنني أخذ مجموعة من هذه الأوراق الانتخابية للذكرى؟
فأجابت المسؤولة: ليس لدينا الكثير، فقد تم إحضار ألف منها إلى مركزنا، وأخشى ألا تكفينا، ونقع في حرج مع الزبائن من الرجال والسيدات.
قلت مستطرداً: الأحياء منهم والأموات! فسالت من وجهها بسمة رمادية القسمات.
قلت: هل يمكن أن تفكي قيد هذا القلم، لأني أريد الذهاب إلى الغرفة السرية، والتي كانت عبارة عن ستارة بيضاء في الزاوية، ومن ورائها طاولة صغيرة.
فأجابتني بأن الأمر لا يستحق.
فكشرت ضاحكاً: فعلاً.. فالأمور محسومة، وعليه فلا داعي لكي أقترع.
فقالت: هذا حقك يا أستاذ.
فأجبتها: ليتني أحصل على حقوقي الأخرى يوماً ما.
كانت المحبرة التي تحوي الحبر السري قريبة مني، ومغلقة بإحكام، وبعد تبادل النظرات بيني وبين المحبرة والموظفتين، قالت إحداهما:
هل تحب أن تضع خنصرك فيها؟
فأجبتها بأن هذا الأمر لازم على الجميع.
لكنها أخبرتني بأن أغلب الزبائن لم يقبلوا أن تلطخ أصابعهم بالحبر حرصاً على جمال ولون خناصرهم، ومساعدتهم على الاقتراع في مراكز أخرى لتزيد حظوظ مرشحهم المسكين.
عند الباب شاهدت إحدى النساء وعلى حضنها طفل وتجر آخر، وهي تتساءل بحماسة عن الوقت المتوقع لإعلان النتائج، لمعرفة الرئيس الجديد للدولة في ظل هذه المنافسة الشرسة والشريفة.
وللانتظار بقية…