فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

صورة تعبيرية -إنترنت

الفراغ ورائحة الأمهات ولمة العيلة

مصطفى أبو شمس

لم تعد أمي تناديني باسمي الأول. في آخر محادثة معها يوم أمس حاورتها باسمها الأول وخاطبتني بلازمة “أبو”، أخبرتني عن “لمة العيلة” وإنها تنتظر اليوم الذي ترى فيه أطفالي بفارغ […]

لم تعد أمي تناديني باسمي الأول. في آخر محادثة معها يوم أمس حاورتها باسمها الأول وخاطبتني بلازمة “أبو”، أخبرتني عن “لمة العيلة” وإنها تنتظر اليوم الذي ترى فيه أطفالي بفارغ الصبر.. أطفالي الذين تعرفهم عبر شاشة الهاتف ووصلات الإنترنت المتقطع.

في حوار سبق حديثي مع والدتي على ضفة نهر موحل هنا في بوردو كنت أقاوم أمام صديقي رغبتي في إظهار القهر، تحدثنا عن الأمهات هناك، وكيف نهرب من ذاكرتهن. أخبرني أنه حمل والدته ذات وعكة صحية وصعد بها أدراجاً إلى الطابق الخامس، وتذكرت أني لم أناول أمي حبة دواء منذ سبع سنوات، وأني أعرف أسعار أدويتها دون أن أعرف ما تعانيه من مرض.

حين هاتفتها، قالت إنها استقبلت مكالمة من أخي الأكبر، كانت قائمة تصلي كعادتها في كسر الوقت والغربة بالدعاء والابتهال، سألها عما إن كانت مشتاقة له قبل أن يدق باب البيت المشرع دائماً في انتظارنا، أخبرتني أنها أخطأت في عدد الركعات ولكن ما تذكره أنها صلت كثيراً لتراه، ترانا جميعاً.

أكملت منذ يومين سنتين في فرنسا أمضيت معظم أيامهما محجوراً في غرفة بنافذة على حديقة أشجارها عالية، رغم أني في الطابق الرابع إلا أنها أطول مني بأمتار، على بابها علقت ثيابي كيفما اتفق وعدة كمامات متسخة ببقايا رماد السجائر والزفرات، وفي درج خزانتها احتفظت بقصاصات ورقية حملتها معي تسع مرات، كانت تلك المرات حظي في النزوح والانتقال بين منزل وآخر.

في غرفة أمي القديمة خزانة حديدية من درج واحد، مقاسها لا يتجاوز نصف متر، كانت أمي تحتفظ بقصاصاتنا وشهادتنا وجلاءاتنا المدرسية، وصورنا.. صورنا في مراحل زمنية كثيرة، والتي غابت منذ اختراع الهواتف المحمولة.

أمي كانت تقبّل صورنا كلما هزها الشوق، رأيت ذلك مرات عديدة، وفي كل مرة يغيب فيها أحدنا لفترة طويلة عن الدخول إلى غرفتها ليشرب قهوته في حضورها ويستمتع بالدعاء الذي تخلقه من بنات أفكارها، لم يكن سجعاً ما كانت تقوم به، هي كلمات تركبها كيفما تريد، وأمام ابتسامتي الخبيثة كانت تخبرني أن “الله يفهم ما تقوله ويعينها على نطقه”.

في غرفتي أستنشق نوعاً من البخور الموضوع في زجاجة بنفسجية، أحاول جاهداً أن أبعده قدر الإمكان عن مكان جلوسي، وأحاول بجهد أكبر استعادة رائحة غرفة والدتي أو ربما رائحتها.

لا تستخدم أمي الشامبو، قالت لي يوم أمس إنها منذ خلقت تستخدم صابون الغار، لا أخفيكم أني بحثت عنه في شوارع بوردو ووجدته في أحد المحلات المغلقة بسبب كورونا، اقتربت من الزجاج علّي استنشق الرائحة، لكن دون جدوى. الحياة هنا كتيمة حتى على الرائحة.

بين ملابسنا كانت تضع (برش الصابون) أيضاً، ذلك لا يشبه (برسيل وأومو وعروض المولات الكثيرة)، تعبق من غسيل أمي رائحة النظافة وتمتلئ ملابسي اليوم برائحة العطور التي تخفيها.

على سريرها المغطى بشرشف أبيض كالثلج، حرام (الدب القطبي) الناعم، لونه أخضر وعليه ورد بأحجام مختلفة من ألوان كثيرة. في منتصف السرير كانت تستند إلى الحائط، تضع وسادتان خلف ظهرها وتحمل بين يديها (سبحة مية وحبة) بنية اللون، تهز رأسها وظهرها مع كل تسبيحة كراقص مولوية، وتغيب كمتصوف عما حولها، وحين تلتقط رائحة واحداً منا ترفع عينيها وتشير بيديها، أن اجلس، وتستمر في “جلسة الذكر” خاصتها.

هناك روائح لا يمكن تحضيرها وتقطيرها في زجاجة، رائحة الجامع الأموي في حلب، مسجد المرتضى في كلس التركية، جدتي لأمي تلك القصيرة بثوبها الأخضر التي أوصت أن تدفن فيه، تبغ والدي، برودة صيدليتي بعد أن طالها القصف، الفلافل، حموضة رضيع ترك الحليب أثره على ثيابه بعد نوبة من وجع الأسنان، ورائحة أمي.

في غرفتي الجديدة إحدى عشرة بلاطة (طولاً) وستة بلاطات ونصف البلاطة (عرضاً)، أحفظ عن ظهر قلب مسافاتها، آثار الإسبريسو على ثلاثة منها، ألمس بيدي أصيص الورد الذي أهديت إياه منذ مدة لا أتذكرها، في كل يوم عشرات المرات في مسير التوتر الذي أعيشه، البلاط هنا دون (نقوش)، ولا تفلح دعوة أمي لي بالرزق (عدد نقش البلاط) هنا.

في غرفة أمي ريحانتان وأصيص حبق، وفي الزاوية (قلب عبد الوهاب)، كانت تكسبنا (الصلاة على النبي) كلما مررنا ولمسناها وفاح عطرها، ولتزيدنا بركة كانت تضع على طاولة القهوة (أصيص الحبق) ومع كل رشفة من الفنجان صلاة على النبي وعبق جديد من رائحتها.

تحتفظ أمي بقلم في جلبابها، هي لا تجيد القراءة والكتابة، كانت تحتفظ به لنا في كل مرة ننسى أقلامنا أو نفقدها. وفي زحمة الورق على طاولتي القديمة كان القلم الذي تحتفظ به رفيقي في كتابة ما يخطر لي، وكانت تستعيده صباحاً وهي ترتب قصاصاتي في خزانتها الحديدية.

في الفراغ الذي أعيشه هنا ألجأ إلى جهازي المحمول، أحرفه الصغيرة تجبرني على التحديق وتمنعني من كتابة ما يحلو لي، وبكبسة واحدة أمحو كل ما كان يخطر في بالي، لا أم لي هنا تحتفظ ببقاياي.

منذ أيام طبخت “قهوة مرة”، لم أجد دلّة ولكني لحسن الحظ وجدت فناجين دون أذنين، فتحت الباب على مصراعيه في انتظار من أقهيه ويشاركني غربتي، مرت ساعات ثقيلة دون أحد، بعيداً كانت أمي تتفقدنا فلا تجد أحداً، أخبرتني أنها طبخت هي الأخرى “القهوة المرة” في انتظارنا، ملأت واحدة من الدِلال الكثيرة التي تملكها، سخنتها مرات عديدة، دون أن يشاركها أحداً منا قهوتها، حملت سبحتها وعادت للدعاء من جديد.