تجول أم عمر بعينيها على أسعار الخضار والفواكه في سوق إدلب، تقول إنها تبحث عن لوازم فطور طبق رمضان الأول ، وتجري في ذهنها عمليات حسابية توازن بين ما تملكه من نقود وما تريد شراءه.
تقول من تحدثنا معهن من النساء اليوم إنهن اخترن طبقاً واحداً لفطورهن بينما كان اليوم الأول دائماً ما يتصدر مائدته أطباقاً عديدة، وتحايلن على مكوناته لتكون مناسبة من حيث السعر والطعم، وتخلين عن المقبلات التي وصفنها بـ “روح سفرة رمضان وزينتها”، بينما وقعت نساء منهن في حيرة اختيار الطبق الأول، يقلن “إن الخيارات قليلة فرمضان هذا العام يدخل من بوابة الشتاء، إضافة لارتفاع الأسعار الكبير الذي شهدته المنطقة منذ نحو شهرين مع تضاعف سعر الدولار وانهيار الليرة التركية”.
الطبق الأول “مو على أصولو”
تروي أم عمر إنها اعتادت، مثل معظم العائلات الدمشقية، على إن يكون طبق رمضان الأول “أكلة بيضاء”، وحرصت على الحفاظ عليها بعد تهجيرها إلى إدلب، تقول كنا نستقبل رمضان بـ “الشاكرية أو اللبنية أو الكوسا بالبن أو الكبة باللبن” كوجبة باردة على القلب بعد صيام يوم طويل، ولا تحلو المائدة إلى بإضافة المقبلات والسلطات والشوربات، والمشروبات الرمضانية وأطباق الحلويات والفواكه، حسب قدرة كل عائلة.
تخبرنا أم عمر أن كلفة طبق شاكرية لخمسة أشخاص يزيد عن خمس وسبعين ليرة تركية، وهو ما يعادل راتب عامل مياومة لأربعة أيام، فالشاكرية كما تجيد طبخها، أو على الطريقة الشامية الأصلية كما تخبرنا، تحتاج إلى “٢ كيلو لبن غنم بسعر ١٥ ليرة تركية، وكيلو من لحم الضأن يفضل أن يكون من الكتف بسعر ٥٠ ليرة، وقليل من النشاء وبيضة واحدة وورقتي غار وبصلة، إضافة للأرزّ”.
لذلك لجأت إلى حلول تكفل وجود الأكلة البيضاء على مائدتها بسعر مناسب، فاستبدلت لحم الخروف بصدر الدجاج ولبن الغنم بالبقر، تقول أم عمر إن الكلفة وصلت إلى نصف الكلفة الأساسية، ولكن الطعم لا يقارن..
وإن كانت دمشق تستقبل رمضان بـ “أكلاتها البيضاء”، فلربات منازل حلب رأي آخر يغلب عليه أكلة “المحاشي واليبرق”، تقول سناء المهجرة إلى إدلب إنها “فتلت السوق” مرات عديدة لاختيار “بانجان وكوسا معدلات” بحسب وصفها، فهي تفضل أن تبدأ بصناعته “وقفة رمضان”، فـ “المحاشي تحتاج لساعات طويلة وبدها طبخ على نار هادية”، واليوم الأول غالباً ما يكون متعباً.
تخبرنا سناء أن أهالي حلب يفضلون “المحاشي كـ طبق رمضان الأول “، لكن قسماً منهم يطبخ الملوخية والفريكة والشاكرية، وتروي لنا أنها انجذبت للخضار والفاكهة المصفوفة بطريقة متناسقة في المحلات، وهو ما دفعها لملء أكياس كثيرة قبل أن تتفاجأ بالأسعار فتترك نصف ما اشترته بحجة نسيانها للنقود في المنزل.
تقول سناء إن كيلوغرام الباذنجان أو الكوسا يبلغ نحو خمس ليرات تركية، وفي مثل عائلتها تحتاج لنحو ست كيلو غرامات، إضافة للأرز، يبلغ سعر الكيلو نحو خمس ليرات أيضاً، ولحم الخروف، تحتاج إلى كيلو غرام لكل ست كيلو من الباذنجان أو الكوسا، إضافة لرب البندورة والثوم و”العصاعيص أو العظام” التي توضع تحت “المحاشي”.
وتضيف سناء إن طبق “المحاشي” يكلف نحو مئة ليرة تركية، وهو ما يعادل كسوة طفل بلباس صيفي كامل، لذلك لجأت إلى التحايل على الطبق، إذ اكتفت بثلاث كيلوغرامات من الكوسا واعتمدت على ورق العنب المكبوس منذ العام الماضي، كذلك قللت كمية اللحم إلى النصف.
المقبلات تغيب عن الموائد
يزيد ثمن صحن السلطة اليوم عن عشر ليرات تركية، فسعر كيلو واحد من البندورة أو الخيار 7 ليرات، وتنخفض أسعار الخس والبقدونس والبصل الأخضر إلى ليرة واحدة، فيما تغيب أصناف الفاكهة الموجودة في السوق، عن موائد بعض العائلات لغلاء ثمنها وتأخر الصيف الذي هو موسم الفاكهة الطازجة فرمضان هذا العام بنكهة الشتاء البارد كما وصفه الأهالي.
تقول من تحدثنا معهن إنهن يحاولن تأمين الطبق الرئيسي ويقتصدن في مواده بسبب ارتفاع الأسعار، فكيف سيكون بإمكانهن صناعة الأطباق التي وصفنها بـ “الثانوية”، كـ “التبولة والكبة النية وبرك الجبنة والشوربات”، ويخبرننا إنهن سيلجأن إلى طبخها لا كمقبلات بل كطبق رئيسي، كشوربة العدس والكبة النية دون (هبرة)، أو بطاطا مقلية مع التبولة، وستكون حلاً وسط الحيرة التي تقضيها النساء في اختيار طبق رمضان، بينما يريح الأزواج رؤوسهم من هذه المعضلة ويكتفون بالامتعاض خلال مقارنة الطبق اليوم وكيف كان يطبخ في السابق.
حوار نسائي لاختيار الطبق الأول
لا ينتهي النقاش بين أم عمر وجاراتها دون خلاف لن يحل، عنوانه “الأطعمة ومكوناتها وطرق تحضيرها” وأسلحته “التهكم وتمترس كل سيدة خلف مطبخها”.
وفاء (من حلب) ترفض أن يطلق على ما يصنع بلبن ودجاج اسم الشاكرية، تدافع عن اسم “أرمان” المعتمد في كل من حلب وإدلب، فالشاكرية لا تكون شاكرية دون “الدهن واللحم”، الذي يكسبها طعمها، بينما ترى أم عمر في “محاشي سناء” أكلة طيبة تحتاج إلى “عصفر وكمون” الأمر الذي ترفضه سناء مطلقاً وهي تضحك تهكماً “محشي بكمون!!”.
يقطع الخلاف صوت أم فوزي (الحاجة القادمة من دير الزور) وهي تحكي عن “ثرود البامية”، تقول إنه الطبق الأهم في رمضان وغيره من أيام، ويتكون من البامية وقطع اللحم والبندورة والخبز المقلي، ويأكل مع الأرز ويشرب إلى جانبه إبريق من لبن “العيران”.
سراً تخبرنا أم عمر إنها استفادت من أطباق نساء أخريات لكنها لن تعترف بذلك لتبقي الحرب مشتعلة، لكنها في الوقت نفسه تقول إنها قدمت أيضاً نصائح كثيرة لربات منازل من مدن مختلفة، وتعرف إنهن أيضاً استفدن من خبرتها ولم يعترفن بذلك، إلا “ثرود البامية”، فتعترف بفضل أم فوزي في تعليمها صناعته.
تقول سيدات تحدثنا معهن “يغيب الرجال في إدلب، غالباً، عن المساعدة في المطبخ الرمضاني، ويكتفون بانتظار ساعات الإفطار أو النوم ريثما يحين الوقت”، إلا أن “أبو عبد الرحمن” يحرص في اليوم الأول على جمع أولاده وأحفاده حول مائدة واحدة، ويحتكر صناعة الكبة النية لنفسه، ويغرقها بدبس الفليفلة والرمان وزيت الزيتون.