جلسات كثيرة جمعتني بأصدقاء لي بعد تهجيرنا من كفرنبل ، مدينتنا التي ما زال لاسمها ذلك الصدى في نفوسنا، وفي كل مرة كنا نستعيده كنت ألمح حزناً وزفرات وشوق على وجوههم المتعبة وأرواحهم المعلقة بما فقدناه بخروجنا.
سهرات السمر في “البشاخ”، نزهات (شنشراح)، الحنين لخبز التنور، الشوق للمرور بشوارعها ودوارها كانت أكثر الأشياء إلحاحاً على الذاكرة وحضوراً في مفرداتهم. أجلس بينهم كمستمع، أحاول استرجاع صوراً جميلةً عشتها في مدينتي، علني أشاركهم شعور الفقد، لكن دون جدوى، تمر الصور في مخيلتي دون أن يهزني شوقهم، يحافظ صوتي على ثباته وعيناي على تحجزهما.
أنطوي على مكان قصي مع ذاتي، أحاول يائساً إخفاء ما تبلد من مشاعري وعدم تأثري الكبير، أبحث عن سبب لكل ذلك الجمود، أجلد نفسي بعدم الانتماء، قبل أن أتراجع، أعزو الأمر لألفة جمعتني بمكاني الجديد، يدهشني ما وصلت إليه من أسباب غير مقنعة فأهرب بالزمن إلى صيف عام 2012. وقتها عرض على عديلي حمود (أبو مفيد) أن أصحبه وأسرتي، في رحلته إلى بلدة أطمه الحدودية، استعداداً لعبوره باتجاه تركيا، ليستقر في مخيم أورفه، أذكر أني رفضت ذلك العرض، أخبرته أن ما يعتزم فعله لا يمكن تسميته سوى “الهرب”، لمن سنترك البلد إذن!
جرت تلك المحادثة التي مكثت فوق صدري اليوم بعد أيام من تحرير كفرنبل، وعقب غارة استهدفت منزل أبي مفيد، طمأنينة التحرير والخوف من الاستهداف بما حمله هذان الشعوران من تناقض لم يفلحا وقتها بتبرير ما يقوم به، خاصة وأن عبارات من مثل “عضة كوساية” و”جاينك لاترحل”، كانت ما تزال تطرب أسماعنا وتثير حماستنا. بعبارة أخرى كنا نظنها مسألة أيام لا سنوات.
اخترت البقاء مثل كثر من أبناء كفرنبل وقتها، كما فضل البعض المغادرة كحمود، الذي ما زال يتصل بي هاتفياً حتى اليوم، من منزله بالقرب من فرانكفورت بألمانيا، نتحدث عن سوريا وكفرنبل بشغف، وحنينه لها وإيمانه بعدالة قضية لم تتزعزع. يقول إنه مازال يحمل كفرنبل في قلبه.
تمسكي بالبقاء في الأرض التي أنتمي لها لم يهتز أو يتراجع، حتى وأنا عالق تحت ركام بيتي الذي أحالته صواريخ غادرة لطيران النظام، إلى كومة من الحجارة. لم أفقد هذا الشعور حتى وأنا ازيل الركام عن ابنتي الصغيرة العالقة معي، وصوت بكائها وتوسلاتها يخترق أذني، “بابا حاسة رجلي صاروا مي”.
لحظات عايشتها في التاسع من آذار 2017، حولت ما جنيته في رحلة عمري والشيء الوحيد الذي أملكه في هذه الكرة الأرضية الشاسعة، إلى دمار وغبار كتم أنفاسي وعائلتي حتى كدنا نختنق بفعله، لكن رغم ذلك كان المنزل رؤوفاً بنا، فتوقف السقف البيتوني على مسافة سنتيمترات قليلة من رؤوسنا، ليمنحنا حيزا ضئيلاً للحركة، وفرصة جديدة للبقاء، ويقيناً راسخاً أن العناية الإلهية كانت تظلنا.
أزيد من أربعين يوماً، قضيتها وأسرتي ضيوفاً ننتقل من منزل لآخر، بعد أن فقدنا منزلنا، ليستقر بنا المقام في منزل مستأجر في حي “البيراس” غربي كفرنبل، ونعاود حياتنا السابقة مرة أخرى، دون أن أفكر لحظة واحدة في مغادرة مدينتي وأرضي، حتى وإن لم أكن أملك فيها حبة تراب.
تجربتي مع النزوح الداخلي في كفرنبل، تركت أثرها بما أحسه اليوم من برود عاطفي عندما يذكر اسمها، وأظن أن ذاك التهجير السابق خفف عني عناء وألم التهجير اللاحق نحو الشمال السوري، حيث أقطن اليوم، وانا استقبل عامي الثالث معه. اخترت في هذه المرة الرحيل على البقاء، كنت في طليعة من غادروا المدينة، لم تكن كفرنبودة قد سقطت وقتها، لكن الغارات والقصف تكاثف على المنطقة، وراح يستهدف القرى، وصوت هدير الطائرات وصفير البراميل، منع أولادي النوم لأيام، فكانت الهجرة هي الحل، في حين رفض كثر الرحيل واختاروا البقاء حتى اللحظة الأخيرة، صمدوا لستة أشهر قبل أن يلحقوا بي لنتقاسم نزوحنا اليوم في ذات الشمال، فهل نزوحي كان نكرانا لبلدي؟ وهل بقاؤهم كان أكثر وفاء وانتماء؟ لا أملك إجابة حقاً!
في الصف العاشر كنت اتنافس مع زميل لي لنيل إعجاب فتاة. كنا ننتظر ذهابها إلى مدرستها الإعدادية كل يوم، قبل أن نلتحق بصفوفنا، غالباً بعد أن يرن الجرس.
كان زميلي يتمتع بجرأة لم أملكها في حينها، في مرة رمى إليها بورقة خط عليها عبارات حب بلغة افترضتها ركيكة وبخط سيء. لكن، كلانا، أنا الخائف من التعبير عن حب كان يسيطر علي، وهو الجريء الذي خطا خطوة تجاهها، لم نفز بها، تزوجت من آخر وبقيت ذكرياتنا لنا، أقول في كل مرة التقيه بها بعد أن أعاد النزوح لم شملنا معاً متسائلاً حول من كان يمتلك في قلبه حباً أكبر للفتاة، قبل أن أركن لفكرة الخسارة، خسارتنا معاً.