فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

في عيد الثورة .. ما زلت أسرق الحلوى وآكلها متخفياً

مصطفى أبو شمس

لا أذكر أني حضنت ملابسي بانتظار صباحات يوم العيد، لكني على الأقل سمعت تلك الجملة مرات عديدة وقرأتها في أكثر من مكان، أيضاً كنت أتخيل شكلي باللباس الجديد والعيديات التي […]

لا أذكر أني حضنت ملابسي بانتظار صباحات يوم العيد، لكني على الأقل سمعت تلك الجملة مرات عديدة وقرأتها في أكثر من مكان، أيضاً كنت أتخيل شكلي باللباس الجديد والعيديات التي من الممكن أن تملأ جيوبي وما الذي سأشتريه بها إن تم الأمر على خير ما يرام. غالباً ما فشلت جميع مخططاتي في هذا اليوم تاركاً إرهاقه على جسدي الصغير بعد مشقة توزيع الضيافة وصب القهوة وتلبية طلبات من هم أكبر سناً مني، أعظم ما حصلت عليه وقتها قدرتي على الوصول لحلويات العيد وملء جيوبي في غفلة من الجميع، والتلذذ بها لاحقاً وحيداً ومختفياً عن أعين الرقباء.

ليلة أمس، كان مساء بوردو صافياً منعشاً، تركت لنفسي ليلاً حرية التدخين في غرفتي وأنا أفكر في احتضان أي ذاكرة متوافرة أمامي، الكتب القليلة التي حملتها معي في رحلتي كانت أمامي مرتبة بالطريقة نفسها التي وصلت بها، عناوينها إلى الحائط بطريقة لا يمكن معها معرفة أسمائها، يمكن تخمين ما تحتويه من لون الورق وسماكة الكتاب، حاولت التقاط أحدها لكن يدي لم تطاوعني فعدت لممارسة التدخين مرة أخرى.

بقي في كيس الدخان أمامي خمسة علب، جهزت نفسي للاتصال بصاحب الدخان المهرب وتراجعت بعد أن نظرت للمرة الأولى لساعة الهاتف المحمول، كانت العقارب تشير إلى الثالثة فجراً.

في العام ٢٠١٣ وفي مدينتي حلب، عشت ليلة كاملة دون تدخين، أمضيتها على الشرفة في انتظار أي شخص يمر لأطلب منه سيجارة تريح ضجيج رأسي، حتى إن صادف مرور شخص من أمام نافذتي هنا في بوردو فلا أعرف إن كنت سأستطيع أن أطلب منه مثل هذه الخدمة، رغم أنها تنتشر في الطرقات بطريقة فجة. في صباح تلك الليلة الحلبية وصلت إلى تاجر الدخان في طريق الباب، واشتريت ثمان وأربعين كروزاً من الدخان الذي ألفت مذاقه، ألقمتها رفوف البراد بعد أن تحول إلى خزانة بفعل انقطاع الكهرباء.

ابتسمت لفكرة شراء الكمية ذاتها هنا، ذلك سيتطلب كافة مستحقاتي المادية من عملي لأشهر، وعدت أتفقد عدد علب الدخان أمامي قبل أن أركن إلى فكرة أني لن “أنقطع من الدخان وأن ليلة واحدة لن تستهلك خمس علب كاملة منه حتى لو أكلتها أكلاً”.

فكرة من الأمان المغلفة، نحاول إقناع أنفسنا بها هنا، نحن اللاجئين الذين وصلنا إلى أمان مفترض يقتضي ضمن مفهومه الأساسي “عدم الخوف من بكرا”، فلا حاجة لشراء قطعة ذهبية لزوجتك تضعها في صرة وتحكم إخفاءها في مكان أمين، لتنام وأنت مرتاحي البال لأي طارئ يعترضك.

الضمان الصحي لأطفالك، المدارس المجانية الجيدة، التنقل المجاني أيضاً في أماكن كثيرة من أوروبا، السكن المتاح بالحد الأدنى، خاصة إن كنت تمتلك عائلة من ثلاثة أطفال أو أزيد من ذلك، المساعدة الاجتماعية لتلبية حاجات الطعام واللباس، كل ذلك يستدعي عدم الخوف، كذلك عدم الادخار، فجميع الظروف الطارئة “محلولة” بشكل من الأشكال.

هذا كله يحولك إلى حالة من البلادة واليأس، وبمعنى أدق يفقد حياتك النكهة المصحوبة بالخوف والطموح في آن معاً، الخوف الذي كان يستدعينا على عجل لاختبار إنسانيتنا في كثير من المواقف، التعاضد، تعزية بعضنا البعض، ومفهوم السند، العائلة، الأصدقاء، أبناء الحي الواحد، وفي دائرة أعم زملاء الدراسة والعمل.

في بداية العام ٢٠١٤ من حلب، كان قد مر على زواجي شهر وبعض الشهر، حين قصف منزلي واحتاجني الوقت لدقائق قبل الوصول إليه، لم أجد أبواباً في المنزل، كانت كلها قد خرجت من أمكنتها باستثناء باب واحد، كان معاكساً لاتجاه القصف، واختبأت به زوجتي تنتظر لحظة وصولي. بجانب الباب كان ثلاثة من أصدقائي قد وصلوا قبلي إلى المكان فاكتفيت بالابتسامة.

خمسة أيام فصلت بين تهدم منزلي ومكان عملي، احتاج كل منهما لساعات فقط قبل أن يعودا للحياة من جديد، أبواب ورفوف جديدة ونوافذ من النايلون لحمايتنا من البرد وشظايا الزجاج، وكذلك للحفاظ على الستر.

لا أذكر يوماً أني كنت وحيداً خلال السنوات التي عشتها في حلب الثورة، أياً كان الوقت أو الظروف، ولا أذكر أيضاً أني كنت خالياً من حلم يقظة في ليلة من لياليها كما أنا اليوم.

يمر اليوم عقد على الثورة السورية، أزيد من أربع سنوات على حلب المستباحة وطرقاتها البعيدة، مثلها أو أكثر في مناطق تعني لأشخاصها بدرجة أكبر أو أقل ما تعنيه لي حلب، نواظب على لعبة العد من جديد، في السنة القادمة ولاحقتها وما يليها، لكن عقداً من الزمن ليس بالأمر الهين، أطفال كبروا ولم نعد نميز ملامحهم إلا بالشبه من آبائهم الشهداء، مراهقات أصبحن أمهات، وشباب بدت عليهم علامات الشيب والتجاعيد.

عشر سنوات، بهدف واحد، وأحلام يقظة كثيرة، تستدعي تلك المواظبة اليومية عليه درجات عالية من التقدير في أماكن تعنى بالطموح، أما في حالتنا فلا نشعر مطلقاً أننا أمام إنجاز حقيقي، فذلك ديدن وجودنا، من جمعية أمي الأسبوعية التي لا أذكر أنها انتهت يوماً وأوراق القرعة التي تطلب مني كتابتها، وحتى الوصول إلى التقاعد من عمل روتيني لأربعين سنة للوصول إلى راتب لا يسمن أو يغني من جوع، مروراً برباعية الدراسة -الجيش -الزواج -حلم الحصول على سكن.

عقد من الزمن صرت ترى في خفاياه وجوداً لوعي سياسي، حتى وإن كان هزيلاً، يأساً وعدمية للجدوى أراها محقة ومحببة، استمراراً يتناقله جيل عن جيل ويفلح دائماً بحفظ جزء من السردية اللازمة، ترقباً حذراً ومثله عدم اكتراث بما يحدث وسيحدث في الأيام المقبلة.

بجانب السرير المخصص للأصدقاء الغائبين في غرفتي وجدت نفسي وقد غلبني النوم دون حلم يقظة، أحضن “اللابتوب” الصغير خاصتي وأتجهز ليوم عيد شاق، أسرق فيه بعض الحلوى، آكلها متخفياً، بعد أن منعني مرض السكر ونظرات زوجتي من المجاهرة بالمعصية.