تلقت أم محمد “سيدة من بليون تعيش في لبنان” نبأ وفاة عمتها الذي ظهر لها في مجموعة صوت بليون، على فيسبوك، والتي تنقل أخبار قريتها في جبل الزاوية، لتتأكد من الوفاة باتصالها بواحدة من ذوي المتوفاة.
تقول أم محمد إنها بحثت داخل الصفحة لتجد صوراً وأخباراً عن وفيات أخرى في قريتها، وتخبرنا أن غصة من الحزن والذكريات رافقتها خلال تصفح هذه الأخبار، حيث غدا “الموت خبراً والتعزية تعليقاً على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن كان مواساة وتصبيراً وتعاطفاً بين سكان القرى”.
تهتم صفحات اجتماعية بنقل أخبار الوفيات في كل منطقة من مناطق إدلب، بعض الصفحات تختص فقط بأخبار الوفيات، حيث تنشر خبر الوفاة وتبين سببها ومكان وقوعها، إضافة إلى موعد الدفن ومكانه ومراسم العزاء، فيما تولت صفحات أخرى توثيق شهداء الثورة نتيجة غياب مثل هذه التوثيقات في وسائل الإعلام الرسمي في مناطق المعارضة.
من مآذن المساجد إلى صفحات الفيس بوك
قبل نزوح سكان جبل الزاوية مطلع العام الماضي، كان للإعلان عن حالة الوفاة طقساً تقليدياً في معظم مناطق إدلب، حيث ينادى على المتوفى من مئذنة الجامع ويحدد موعد الصلاة والدفن، وتتكفل المراسلات الهاتفية بإخبار من هم خارج البلدة، بحسب أم محمد.
أسس مصطفى الأحمد صفحة “صوت بليون” والتي تهتم بهذا النوع من الأخبار، يقول “إن هذه الصفحات استجابت للمتغيرات التي طرأت على الأهالي الذين توزعوا في مشارق الأرض ومغاربها، لذلك كان من الواجب علينا إعلامهم بكل وفاة، حيث لم يعد للمسجد دور في الإبلاغ عن الوفاة بعد تهجير معظم سكان قرى جبل الزاوية إثر الحملة العسكرية على إدلب”.
ويرى الأحمد أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الإخبار عن الوفاة باتت أهم وأكثر انتشاراً من الشكل التقليدي الذي ارتبط في مجتمعنا بحالات الوفاة، باعتبارها تؤدي دوراً أوسع في إخبار كل من هو خارج البلدة، سواء في المخيمات أو خارج سوريا، إضافة لمعارف المتوفى من القرى الأخرى.
يتصدّر “هاشتاج بليون وفاة ” و”الآية إنا لله وإنا إليه راجعون” منشور النعوة في صفحة الأحمد، والذي يتضمن معلومات تخص (اسم المتوفى وصورته في حال موافقة أهل الفقيد إضافة إلى مكان وتاريخ الوفاة) حيث يحصل الأحمد على تلك المعلومات من ذوي المتوفى عبر الواتس آب.
تاريخ واسم وصورة وسبب وفاة
غالباً ما تسمى صفحات الوفيات بأسماء المناطق، لتصبح جداراً افتراضياً تلصق عليه نعوات موتى المدينة وريفها.
أنشأ ياسر شريط “أحد أبناء إدلب” صفحة وفيات مدينة إدلب الخضراء عام 2014، وطور مشروعه لاحقاً عبر إنشاء مجموعة خاصة أسماها “وفيات مدينة إدلب وما حولها” نهاية عام 2017 كتوسعة للحيز الجغرافي الذي يعمل ضمنه، واستهدف مناطق جديدة حول إدلب، جمع في الصفحتين نحو مئة ألف متابع، ما حقق له تفاعلاً جيداً.
يقول ياسر “إنه بدأ بتسجيل الوفيات في صفحته بسبب ميله نحو التوثيق ورغبة منه في إيصال الخبر لمن اضطر للسفر خارج إدلب، ما جعل هذه الصفحة المنصة الأهم في نشر أخبار الوفيات في المدينة”.
لا يتلقى ياسر أي دعم مادي لقاء جهده، يستقي معلومات الوفاة من مكتب دفن الموتى في إدلب ومن الأصدقاء والمعارف.
تتباين النعوات المنشورة في صفحة ياسر ولا تأخذ قالباً واحداً وذلك حسب المعلومات المتوفرة التي ترافق حالة الوفاة، فهناك وفيات يذكر تاريخها وسبب الوفاة وعمر المتوفى مع مكان وساعة الصلاة عليه ثم دفنه، إضافة إلى تحديد مكان العزاء، بينما تفتقر حالات أخرى إلى جزء من هذه المعلومات، بسبب رفض الأهل لذكرها.
يقول إنه يمضي أكثر من أربع ساعات يومياً في ملاحقة أخبار الوفيات في مكتب الدفن والمراسلات الهاتفية مع الأصدقاء، سعياً لتسجيل الوفاة، ومن ثم الوقوف على التعليقات وحذف غير اللائق منها، خاصة إن كان المتوفى في مناطق النظام.
يسجل ياسر هذه الحالات في صفحته لأن مكتب الدفن يمتنع عن توثيق هذه الوفيات، بينما يقوم ياسر بنشر تلك الحالات بهدف الإخبار والتوثيق.
ويؤكد على أن صفحاته سهلت للسوريين، وبالذات من هم في الخارج، إمكانية التفاعل مع الوفاة وتقديم التعزية إلكترونياً وتأدية واجبهم الاجتماعي تجاه أهل الفقيد.
يحصي حسن بركات وهو شاب من مدينة إدلب نحو ألف وسبعمائة تعليق تعزية على منشور أعلن فيه وفاة شقيقه “في مجموعة وفيات إدلب”، حملت تلك التعليقات في غالبها عبارات الدعاء للمتوفى والمواساة لأهله.
يقول بركات إن رؤيته لهذه التعليقات خفف من آلامه بفقده، لأنه لمس من خلالها وقوف الناس معهم في مصيبتهم رغم بعد المسافات.
يذكر ياسر أن انشغاله بتسجيل حالات الوفاة صبغ حواراته مع أصدقائه ومعارفه بصبغة الموت، فقد كانت أحاديثه في مجملها أسئلة عن الموت وتاريخه، ما دفع كثيرون ممن يعرفونه لنعته بـ “البومة أو الغراب وأشياء تدل على الموت أو الشؤم”.
خطوة للتوثيق
لأخبار الوفيات زاويةً ثابتةً في الصحف الورقية السورية وتتضمن تلك الزاوية نعوات وشكر على تعزية، ومع قيام الثورة غابت تلك الصحف عن إدلب ولم يعنى الإعلام في مناطق المعارضة بهذه الزاوية، فقام ناشطون بعملية توثيق الوفيات، منهم باسل زيداني الذي حاول من خلال” صفحة وفيات شهداء إدلب أنشئت 2015″ تسجيل وفيات الشهداء من مدنيين ومقاتلين في مدينته، ويقول إن ما دفعه لذلك هو غياب الصفحات المماثلة، لذلك تراه في حالة بحث دائمة عن الوفيات، إذ كان يقوم بتقصّي أخبارها ونشرها في صفحته.
يركز زيداني في منشوراته على الصورة وذكر سبب الوفاة وتاريخها، يقول” لا نريد أن تكون ذاكرة الأجيال القادمة عرضة لمقصلة النسيان“، فيما يعمل حالياً على إحداث ذكرى سنوية لكل شهيد داخل الصفحة، وإحصاء عدد شهداء كل سنة.
يرى من تحدّثنا معهم أن البحث في هذه الصفحات عن أسماء الوفيات قد يستغرق وقتاً طويلاً، كما أنها تفتقر لجداول تحصي أعداد المتوفين.
يشيد علي العبده “مدرس تاريخ من إدلب” بعمل هذه الصفحات في نشر أخبار الوفيات والاحتفاظ بها، لكنه في الوقت ذاته يرى أنها ليست بمأمن من الضياع خاصة أنها على فيس بوك، فقد تكون عرضة للإغلاق والاختراق والتهكير في أي لحظة، ناهيك عن حملات التبليغ التي يقوم بها النظام.
بينما يرى محمد” مهندس من إدلب” الأمر من زاوية أخرى، يقول” إن الأولوية هي إعلام الناس بالوفاة لتفرقنا في كثير من دول العالم، أما التوثيق فهو مهمة أخرى تلقى على عاتق المؤسسات والمنصات المختصة بالأرشفة، لا على هذه الصفحات التي تعد بالدرجة الأولى شخصية وتطوعية”.