يدرس أحمد في الصف الثاني الابتدائي ضمن دار للأيتام في مدينة إدلب رغم تجاوزه الثانية عشرة من العمر، يقول إن فقدانه لأهله والحياة التي أمضاها دون منزل، يعيش في شوارع المدينة، أبعدته عن مقاعد الدراسة. ويحلم الطفل بمتابعة تحصيله العلمي، يقول إنه يعمل جاهداً لتحقيق ذلك، كما يحلم بشراء دراجة هوائية والوصول إلى والدته في تركيا حيث سينعم بوجبة غذائية ساخنة ومنتظمة (البطاطا المقرمشة ومية الفرنجي) أكثر ما يخطر في باله من ذكريات عن الحياة التي عاشها رفقة عائلته.
أمضى أحمد وابن خالته محمد نحو سنتين متنقلين بين مدن وبلدات إدلب، ينامان في أي مكان يوفر لهما بعض الأمان، كالحدائق والمساجد والشوارع أحياناً، أحمد ومحمد اثنان من أطفال كثر تواجههم أثناء تجوالك في إدلب، يتسولون طعامهم من المارة وينامون في الحدائق والساحات.
يقول أحمد إن القصة بدأت مع اعتقال والده من قبل قوات النظام، ليعيش رفقة أخوته في منزل جدته بحلب. حيث تعرضت أمه لما أسماه بـ “المضايقات” من قبل أقرباء زوجها ما دفعها للانتقال إلى إدلب، تمهيداً لدخول تركيا والالتحاق بأسرتها هناك.
تنقلت عائلة أحمد في مراكز للإيواء بإدلب، قبل أن تعثر الأم على فرصة عمل كمستخدمة في أحد المشافي، وتمكنت من استئجار منزل لأطفالها، بينما بدأ أحمد بالعمل عند أحد الحلاقين، حيث عاش حياة وصفها بالجيدة رفقة والدته في إدلب، قبل أن تدخل إلى تركيا على أمل أن يتبعها أحمد وابن خالته الذي يكبره بثلاث سنوات عبر طرق التهريب.
يقول أحمد إن جدته أرسلت لهم المال ليتمكنوا من دخول الأراضي التركية، لكن المهرب سرق المال وتركهم في العراء، وهنا بدأت رحلة تشرد أحمد ومحمد بعد أن تاها ولم يجدا أمامهما سوى الشارع ليناما به، معتمدين في معيشتهما على بعض الأموال التي يقدمها لهم أهل الخير.
يقول أحمد: “امسكت بنا الشرطة التركية بمنطقة الريحانية على الحدود، أجبرنا بعد رمي أحذيتنا المثقلة بالطين على المشي حفاة فوق الشوك في الأراضي الوعرة، ثم احتجزونا على سطح مبنى ليلاً تحت المطر حتى الصباح، أوصلونا بسيارة إلى معبر باب الهوى والشبان تعرضوا للضرب وسرقت أغراضهم وبعض هواتفهم المحمولة”.
فشل الطفلان في العثور على عمل يناسبهما، وأمضيا أشهراً متنقلين بين الأزقة والحارات، حتى التقى بهما شاب استفسر منهما عن سبب تواجدهما في الشارع، وبعد معرفته بقصتهما أخذهما مع الطفل عبد الله الذي يعيش في الشارع منذ ثلاث سنوات أيضاً إلى منزل يسكنه شاب صديقه، ثم استأجر لهم منزلاً في إدلب وأتى بسيدة تعتني بهم مع عدة أطفال آخرين، ومعلمة تساعدهم لمتابعة دروسهم التي يتلقونها في المدرسة، وأسس الشاب ميتماً للأطفال الذين يعيشون دون أهل أو مأوى.
انقطع التواصل بين أحمد ووالدته لمدة شهر بعد وصولها إلى تركيا، ثم حصل على رقم هاتفها من طبيبة في المشفى ومازال ينتظر الوقت المناسب مع ابن خالته ليلتحق بها، يتصل أحمد بوالدته من وقت لآخر يخبرها عما يحدث معه ويطمئن عن أحوالها متمنياً أن يجتمع بها قريباً.
أحمد اليوم في الثانية عشرة من عمره ومحمد بلغ الخامسة عشر ويدرسان في الصف الثاني الابتدائي، لأنهما لم يتعلما سابقاً، ويكبران زملاءهما في الصف بعدة سنوات، ما منعهم من تكوين صداقات مع باقي التلاميذ، يمضيان يومهما بين المدرسة واللعب بصالة ألعاب قرب دار الأيتام التي تقدم له التحصيل العلمي والطعام والمنامة، أما الطفل عبد الله فقد هرب من دار الأيتام وعاد لحياته في الشارع، بحسب أصدقائه.
نتقاسم بطانية واحدة
لم تكن حياة الطفل حسن (من منطقة الشيخ سعيد في حلب عشر سنوات) أفضلاً حالاً من محمد، فقد استشهد والده في بداية الثورة، ثم استهدف الطيران الحربي الملجأ الذي كانت تحتمي به عائلته في حلب واستشهد الجميع باستثناء حسن وشقيقه قاسم الذي يكبره بسنتين.
يقول حسن: “لم يمت الجميع فوراً.. كانت جدتي تصرخ وبعد قليل غاب صوتها ولم أرها بعد ذلك، أما أمي فكانت ملقاة على الأرض، تحدثت مع أختي قربها بصوت هادئ ثم نقلت إلى المشفى ولم تعد، أما أختي نقلت للعلاج في تركيا ودفنت هناك”.
لم يبق من عائلة الطفلين سوى أخت متزوجة في حلب وتعيش ضمن مناطق سيطرة النظام، ولا يملكان أي تواصل معها حيث خرجا رفقة الهلال الأحمر أثناء رحلة التهجير من حلب، مع المرضى والطاقم الطبي لمشفى القدس، حيث أكملا علاجهما في مشفى عقربات شمالي إدلب.
اهتمت بحسن وقاسم سيدة كانت معهما في المشفى حتى تماثلا للشفاء ثم سافرت إلى تركيا حيث عائلتها، يقول حسن إن الطرقات باتت ملاذهم الوحيد، ينامان كيفما وأينما اتفق.
يروي حسن أنه وشقيقه قاسم يعملان ببيع “البسكويت في الشوارع”، أو مسح السيارات وتجميع قطع البلاستيك، يتقاسمان ما يجنيانه لشراء طعام يسد جوعهما، وفي المساء يتقاسمان دفء بطانية قدمها لهما أحد المارة يوماً.
عمل مقابل الطعام
يروي قاسم أنه ترك العمل الذي حصل عليه بـ “التمديدات الصحية” صيف العام الماضي للبحث عن أخيه حسن الذي انتقل للبحث عن عمل في منطقة حارم، يقول إنه وجده يعمل داخل أحد المسابح، يقوم بالتنظيف والخدمة مقابل الطعام والنوم، ليلتحق به ويعملان معاً في مسبح آخر.
يقول قاسم إن حسن كان حارساً لباب المسبح بينما عمل هو في التنظيف لمدة شهر كامل، لكنهما اضطرا للبحث عن عمل جديد مع توقف الصيف ليعملا داخل مزرعة للحيوانات. يخبرنا حسن أن العمل كان قاسياً والأجرة زهيدة لا تكفي ثمن وجبة الطعام فقررا ترك العمل من جديد.
عنف وسجن
تركت حياة الشارع ندباتها على حياة الطفلين حسن وقاسم، وارتفعت حدة العدائية في تصرفاتهما ليدخلا السجن مرات عديدة، وبتهم مختلفة، منها الاعتداء بالضرب أو النوم في الشوارع وداخل الشاحنات أو أمام المحلات.
حاول الطفلان الوصول إلى تركيا، دون جدوى، يقول حسن إن حرس الحدود التركية (الجندرما) كانوا يمسكون بهم في كل مرة، ويعيدونهما إلى الداخل، إلى أن حط بهما المقام داخل دار الأيتام في إدلب.
يفتقد قاسم لوالدته وعنايتها به، يقول إنه يتمنى أن يلمس يدها وهي تغطي جسده البارد لينام مطمئناً، ويحاول تعلم مهنة يعتاش منها، بينما يرجو حسن أن يوفق في إكمال تعليمه، يقول إنه يريد أن يصبح طبيباً.
نظرة على أطفال الشوارع
يرى الناشط الإعلامي “محمد لؤي الحمود” في الحرب السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة أطفال الشوارع في مناطق الشمال السوري، نتيجة فقدان المعيل بالموت أو الاعتقال، إضافة إلى الفقر والحاجة اللذين يدفعان الأطفال للتسول لكسب المال وتأمين لقمة العيش مما يسبب حرمان الأطفال لحقوقهم.
يقول الحمود “إنه يصادف أثناء عمله عشرات الأطفال المتسولين، وبعد تحريه عن قصصهم يجد أن أسرهم تشجعهم على الذهاب إلى الشوارع نتيجة حاجتهم للمال لتأمين معيشتهم”، ويرى أن الحل الأمثل للقضاء على هذه الظاهرة تكمن في تكاتف منظمات المجتمع المدني المنتشرة بالداخل من أجل توفير احتياجات العائلات وإخراج الأطفال من واقعهم وتأمين التحاقهم بالمدارس، فالتعليم وحده من يكفل ضبط تصرفاتهم.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فإن تنامي ظاهرة أطفال الشوارع يعود لارتفاع معدلات الفقر والحرمان لدى السوريين وأطفالهم، وتردي الأحوال المعيشية خاصة في الشمال السوري وانهيار العملة السورية مقابل ارتفاع أسعار السلع الغذائية، وتدهور الاقتصاد بشكل عام وما تبعه من لجوء الأطفال للشوارع.
وبحسب تقرير لمنظمة (أنقذوا الطفولة) فإن جميع أطفال الشوارع يعانون من إجهاد سام بسبب عواقب الحرب والكراهية والكارثة، وعاشوا جميعاً شكلاً من أشكال التخلي لذلك نجد قسماً منهم يعانون من فرط النشاط غير الطبيعي والمتسم بالعدوانية، وإن علاجهم يحتاج إلى تفانٍ ووقت طويل.