للتوثيق و الأرشيف أهمية بالغة في الحفاظ على الأدلة، خاصة تلك المتعلقة بالجرائم الخطرة المرتكبة في سوريا، إذ تساعد هذه المعلومات على تحديد أنماط الجرائم ومسؤولية القيادات العليا لمحاسبتهم بمجرد توفر آلية عدالة موثوقة، بحسب هيومن رايتس ووتش في تقريرها بعنوان أولى الخطوات نحو المساءلة في سوريا والعراق.
وتمثل مناطق ريف دمشق، خاصة، مصدراً رئيسياً لهذه المعلومات عن الانتهاكات لما عانته خلال السنوات الماضية، قبل تهجير السكان في العام ٢٠١٨، من حصار ودمار واستخدام للأسلحة الكيماوية واستهداف للنقاط الطبية والمدارس والمرافق العامة لإجبار السكان على القبول بالمصالحات أو خروجهم من مناطقهم.
يقول من تحدثنا معهم، وسنورد روايتهم لاحقاً، خلال التقرير، إن جزء من هذا الأرشيف قد تعرض للتلف أو الفقدان والحذف، ونشهد في هذه المنطقة نشاطاً أوسع “للجيش الالكتروني السوري” الذي يتبع للنظام بهدف الاستيلاء على هذا المحتوى أو إزالته، ما يؤكد أهميته في إدانة النظام أمام المجتمع الدولي، والمحاكم في مراحل لاحقة، ومحاولة محو ما من شأنه أن يكون في المستقبل أدلة دامغة على هذه الانتهاكات.
جيش إلكتروني لمحاربة الأرشيف
يقول الناشط الإعلامي معتز الأسمر، وهو من مهجري داريا، إن شخصاً، تبين فيما بعد أنه يعمل في أجهزة مخابرات النظام، تواصل معه خلال وجوده في داريا عبر فيسبوك، وادّعى أنه يعمل في واحدة من الوكالات الإخبارية، وعرض عليه العمل لصالح الوكالة مقابل راتب شهري (٥٠٠ يورو)، وأرسل له رابطاً لتوضيح طبيعة العمل، وبـ “مجرد الضغط على الرابط للاطلاع على التفاصيل اكتشفت أنه رابط مزيف، وقام باختراق حساباتي الشخصية وتنسيقيات أديرها، ما تسبب بضياع جزء من الأرشيف الذي قمت برفعه على تلك الحسابات”.
ويخبرنا إعلامي للدفاع المدني في الغوطة الشرقية، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، إن معرفات الدفاع المدني تعرضت للاختراق من قبل “الجيش الالكتروني” التابع للنظام، وعلى إثره أغلقت الكثير من الصفحات، كما جرى حذف فيديوهات، وضياع جزء من الأرشيف الخاص بهم.
كذلك يروي إعلامي الدفاع المدني أنه “بعد التهجير ودخول النظام الى مناطق ريف دمشق، باتت عملية التوثيق والأرشفة صعبةً، ولم يعد هناك إمكانية للتعاون مع ناشطين بشكلٍ سري بهدف التصوير وتوثيق الانتهاكات بحق المدنيين والاعتقالات”.
وقال الناشط الإعلامي منتصر أبو زيد، من مهجري المرج، “مع بداية الحراك الثوري في الغوطة الشرقية، بدأ الناشطون بتأسيس التنسيقيات على مواقع التواصل الاجتماعي، لتكون وسيلةً لنقل الأحداث وتوثيق المظاهرات وأماكن القصف وأعداد القتلى والمصابين، ما دفع بالنظام الى تأسيس ما يُعرف بـ«الجيش السوري الالكتروني»، بهدف تعطيل عمل تلك التنسيقيات عبر اختراق صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي أو ارسال كمٍّ هائلٍ من التبليغات عنها، لاسيما خلال حملة قوات النظام العسكرية على منطقة المرج بريف دمشق في العام 2013”.
و “الجيش الإلكتروني” عبارة عن مجموعات مؤيدة للنظام تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لدعم نظام الأسد، وتسعى لتشويه صورة المعارضة، كذلك اختراق حساباتها وحذف أدلة الانتهاكات، وتلاقي شعبية بين الموالين لبشار الأسد ودعماً منهم، ولهم العديد من الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي ، إضافة لحسابات شخصية وهمية تستخدم للإبلاغ عن محتوى، أيضاً يضم عدد من التقنيين والهكر لاختراق حسابات معارضة لشخصيات عامة، أو تنسيقيات وصفحات إخبارية.
حواجز التهجير القسري تمنع مرور الأرشيف
يقول إعلامي الدفاع المدني إن جزء من الأرشيف في كل من الزبداني ومضايا قد تم حفظه على غوغل درايف ويوتيوب وهو ما سلم خلال عملية التهجير، ولم تكن هناك إمكانية لإخراج الأرشيف الموجود على الهاردات والأجهزة المحمولة بسبب التفتيش الدقيق من ميليشيات النظام وحزب الله، وبالتالي لم يستطع الدفاع المدني إخراج أكثر من 30% من أرشيفه في تلك المناطق».
ويشرح الإعلامي “إن الدفاع المدني واجه صعوباتٍ في عملية الأرشفة في داريا وباقي بلدات الغوطة الغربية، حيث كان هناك صعوبة كبيرة في إدخال المعدات اللوجستية، والأموال التي كانت تدخل بالكاد تكفي لتأمين الطعام، ولم يكن هناك سوى معدات بدائية لتوثيق الأحداث، وكانت أغلب عمليات الأرشفة تتم على غوغل درايف، ومن المشاكل التي اعترضت عملية الأرشفة ضعف شبكة الإنترنت، وهو ما كان يُعيق رفع كثيرٍ من الفيديوهات، خاصةً عالية الجودة. وعقب اتفاق التهجير لم يُخرج سوى 30% من الأرشيف».
أما بالنسبة للغوطة الشرقية، فقد جرى إخراج 70% من الأرشيف، حيث إن «أغلب الحواجز التي كانت موجودةً على مخارج الغوطة عند عملية التهجير لم تقم بتفتيش الحافلات، ما ساعد الناشطين وعناصر الدفاع المدني في إخراج الأرشيف عبر الهاردات والأجهزة والهواتف المحمولة»، وذلك فق ما ذكره الإعلامي في الدفاع المدني.
وأشار الإعلامي إلى أنّ هناك «عدة عوامل ساهمت في ضياع 30% من الأرشيف في الغوطة، منها أن الكثير من الصحفيين وعناصر الدفاع المدني خرجوا خلال عملية التهجير من الغوطة مشياً على الأقدام عبر معبر مخيم الوافدين، والذي كان عليه تفتيش دقيق، وبالتالي لم يكن هناك قدرة على حمل أرشيف عبر الهاردات خوفاً من اعتقال أصحابها. كما أنّ هناك بعض المناطق في الغوطة التي دخلها النظام بسرعة، وبالتالي لم يكن هناك وقتٌ كافٍ لاصطحاب الأرشيف».
يؤكد ذلك ضياء الدين العربيني (مدير مركز الغوطة الإعلامي)، يقول «خلال عملية التهجير من الغوطة حصلنا على تطميناتٍ من الروس، بأنه لن يتم تفتيش أي حافلة، لكن رغم ذلك لم يثق الكثير من الناشطين بذلك، فقام بعضهم بإتلاف أرشيفه أو إخفائه، بينما استغليت أنا عملي كخياطٍ سابقاً، وقمت بتصميم مخبئٍ أسفل الحقيبة ووضعت عدة هاردات داخلها، خشية أن يتم تفتيشي على مخارج الغوطة، ولحسن الحظ تمكنتُ من اصطحاب كامل أرشيفي إلى الشمال السوري».
ويخبرنا معتز الأسمر أن للتهجير دور كبيرٌ في ضياع الكثير من الأرشيف، فهناك «شباّنٌ تخوّفوا من اصطحاب أرشيفهم معهم، أو نسوه، أو لم يكن لديهم الوقت الكافي قبل التهجير لإخراجه معهم، كما أن هناك أناس من ريف دمشق حصلوا على امتيازاتٍ من النظام، بعد أن بلّغوا الأخير عن بعض شبان التسوية الذين بقوا في بلداتهم بأنّهم يملكون أرشيفاً للثورة، ما تسبّب في اعتقالهم ومصادرة أرشيفهم».
في الحصار.. لم يكن الأرشيف أولوية
يقول الناشط الإعلامي مراد الشامي، وهو من مهجري عربين، إنّ الناشطين الذين يعرفهم «كانوا في أول عامين من الثورة السورية يحرصون على توثيق الأحداث عبر كاميرات فيديو محمولة وموبايلات ذات جودة منخفضة، كما لم يكن هناك أجهزة محمولة أو أقراص تخزين (هاردات) كثيرة لتخزين ما يتم تصويره، وإذا توفّرت، فقد كان الناشطون يتخوفون من تخزين بياناتٍ كبيرة عليها، حذراً من مداهمات النظام قبل تحرير المدينة، ولذا كان يتم الاستعانة ببعض المساحات التخزينية المتوفرة؛ كالدرايف وميغا ودروبوكس، في حين كان البعض يحمّل توثيقاته على يوتيوب أو فيسبوك».
ويضيف الشامي: «إنّ عدم توفير دعم من المنظمات لم يشجع الناشطين والصحفيين على أرشفة أحداث الثورة في تلك الفترة، والذين يهتمون بالأرشفة كانوا يُضطرون إلى شراء مساحات تخزين سحابية على نفقتهم الخاصة، حيث كان يتم شراء 1 تيرا على منصة درايف مقابل 50 دولار».
ويتابع قائلاً: «سعى بعض الناشطين إلى شراء كروت ذاكرة على نفقتهم، والتي كانت بمساحة لا تتجاوز 500 ميغا بايت فقط، وهي لا تكفي سوى لتحميل عدة فيديوهات، لذا كانوا يُضطرون إلى شراء عشرة كروت تخزين أو أكثر في اليوم، وبالتالي لم يكن هناك إمكانية للاحتفاظ بنسخ إضافية على نتيجة الكلفة العالية، فضاع الكثير من الأرشيف بسبب نلف هذه الكروت وعدم وجود نسخٍ احتياطية عن محتوياتها».
ويشير الشامي الى أنه «خلال حصار الغوطة تضاعفت أسعار الهاردات، فقد كانت تُباع في الغوطة بمبلغ يتراوح بين 200 إلى 250 دولار، بينما كان سعرها الحقيقي في دمشق لا يتجاوز 40 دولار أميركي. لقد حال غياب الدعم دون الحفاظ على الأرشيف في بداية الثورة».
وفي لقاءٍ مع أبو اليسر براء، رئيس رابطة الإعلاميين في الغوطة الشرقية، قال إنه «بدأ العمل على توثيق وأرشفة أحداث الثورة السورية منذ بدايتها في آذار (مارس) 2011، حيث قام، بالتعاون مع عدة ناشطين، بتصوير أغلب مظاهرات مدينة عربين، فضلاً عن بعض المظاهرات وحملات الاعتقالات من قبل قوات النظام في مدينة دمشق وريفها، كما وثّق مجزرة كيماوي الغوطة في عام 2013».
ويضيف أبو اليسر عن الآلية التي اتبعها في حفظ أرشيفه: «قمت بشراء هاردات على نفقتي الخاصة، فضلاً عن تحميل جزءٍ بسيطٍ من الأرشيف على منصات سحابية مثل غوغل درايف، وذلك نتيجة عدم توفر القدرة المالية الكافية لشراء مساحات تخزين كبيرة على الإنترنت».
ويتابع أبو اليسر: «شغلتُ منصب مدير المكتب الاعلامي لمدينة عربين في عام ٢٠١٤، لذا انتقلت الى أرشفة الأحداث على مُعرّفات المكتب. وفي منتصف آذار (مارس) 2018 استهدف طيرانُ الأسد مكان تواجدي في عربين بغارةٍ جوية، ما تسبّب بفقداني لجزءٍ من الأرشيف، بينما تمكنتُ من رفع بعض الهاردات التي لم تتعرض للتلف من تحت الأنقاض».
كما كان أبو اليسر متنبّهاً للتلف الذي قد يلحق بأرشيفه نتيجة تخزينه في هاردات، ويقول عن ذلك: «كنتُ حريصاً على الحفاظ على أرشيفي عبر نقل البيانات بشكلٍ متكررٍ إلى هاردات جديدة، تحسباً لتلف الهاردات القديمة بسبب العوامل البيئية أو الغارات الجوية، إضافةً إلى الاحتفاظ بأكثر من نسخة عن محتويات كل هارد، كما قمتُ بمنح بعض المقاطع التي صورتها في الغوطة لوكالة ‘لقاء’ بغية رفع قضيةٍ ضد النظام لاستهدافه المدارس».
ولفت أبو اليسر الى أنّ «السبب الذي أدى إلى فقدان الكثير من الناشطين لكامل أرشيفهم أو أجزاء منه، كان بسبب تعرّض معداتهم، من هاردات ولابتوبات وكاميرات، للقصف، أو نتيجة احتفاظهم بكامل الأرشيف في نفس وحدة التخزين، نظراً إلى عدم قدرتهم على شراء أقراص تخزين، لاسيما في ظل غياب الدعم، وخصوصاً في السنوات الأولى والثانية من الثورة السورية».
وأوضح أبو اليسر براء أنّ «قسماً آخر من الناشطين قد فقدوا الصور والفيديوهات التي وثّقوا فيها أحداث الغوطة، بسبب عدم اهتمامهم أصلاً بموضوعة الأرشفة، بينما كان هناك أشخاص يعملون مع وكالات إخبارية، ويرسلون لها ما يقومون بتصويره دون الاحتفاظ بنسخةٍ عنها، لأنها من حق الوكالة أو المؤسسة الإعلامية التي يعملون لصالحها» على حدّ تعبيره.
من بين الأسباب الأخرى لضياع الأرشيف التي يأتي على ذكرها رئيس رابطة الإعلاميين في الغوطة الشرقية هي «عدم وجود جهات في الغوطة عملت على إخضاع الناشطين لدورات تدريبية في كيفية الأرشفة وحفظ البيانات بشكل آمن، وهو ما كان سبباً في ضياع قسمٍ كبيرٍ من الأرشيف»، مشيراً إلى أنه «طوال سنوات الثورة افتتحتْ رابطةُ الاعلاميين دورةً واحدة فقط في الغوطة لتعليم كيفية الأرشفة الصحيحة، لكنها توقفت بعد فترةٍ وجيزةٍ بسبب انعدم التمويل».
وأشار أبو زيد الى أنّ لديه «عتب على المؤسسات الثورية التي كانت خارج سوريا بسبب عدم تشجيعها الإعلاميين والناشطين في الداخل على الأرشفة، فقد كان عليهم تعليم الناشطين كيفية الأرشفة، فمَنْ هم في الخارج لديهم نظرة أعمق من الموجودين في الداخل، إذ أن تركيز الناشط يكون منصباً بشكلٍ أساسي على كيفية تأمين لقمة العيش وحماية نفسه وعائلته من القصف، وقد لا يدرك أهمية حفظ الأرشيف. كما كان يتوجب على تلك المؤسسات توفير مساحات سحابية ومعدات لوجستية لرفع الأرشيف، أو تنظيم دورات تدريبية في هذا الشأن» بحسب وجهة نظره.
أسباب أخرى لفقد الأرشيف
يقول معتز الأسمر، إن موضوع الأرشفة لم يكن يُعطى أهميةً في بداية الثورة، حيث «كنا نعتبر أن الخبر آني، فبعد نشر الفيديوهات والصور التي توثق أحداثاً معينةً من قصف ومظاهرات ومعارك، كنا نحذف تلك البيانات لاعتقادنا أنها لم تعد مهمةً، وبأنها أحداثٌ مضت وانتهت، وبنفس الوقت لنفسح مجالاً لتحميل فيديوهات جديدة، كوننا لم نكن نملك هاردات كثيرة في ظل غياب الدعم» على حدّ قوله.
وأضاف الأسمر: «عانينا في داريا والمعضمية من ضعف الإنترنت، وكان ذلك عائقٌ يمنعنا من رفع الفيديوهات والصور وأرشفتها عبر غوغل درايف أو اليوتيوب، لذلك حاولنا الحصول على دعمٍ لإطلاق مشروع للأرشفة، وتوثيق ثورة الغوطة الغربية بشكلٍ منظم، ولاسيما أحداث داريا، لكننا لم نحصل على دعم لإكمال المشروع، نتيجة كلفته المرتفعة وحاجته إلى معداتٍ تتنوّع بين الهاردات والكمبيوترات وشبكة الإنترنت ذات الكفاءة المطلوبة لتحميل الملفات في المواقع السحابية».
ويقول إعلاميٌّ الدفاع المدني بريف دمشق إنه مع تأسيس الدفاع المدني في الريف الدمشقي نهاية 2014 «تطورت عملية الأرشفة نتيجة توفر الدعم، حيث بات هناك إمكانيات لشراء معدات لوجستية لتوثيق الأحداث، بما في ذلك كاميرات ووسائط تخزين بيانات، ولكن ظلّ هناك تخوفٌ من تعرّضها للتلف مع الزمن بسبب الحرارة والغبار والرطوبة والمياه وعمليات القصف، وبالتالي كان يتم الاحتفاظ بعدة نسخٍ احتياطية، ومع ذلك تعرّض بعضها للتلف، إضافةً إلى سيطرة قوات النظام على بعض المناطق بريف دمشق، ومداهمتها لمراكز الدفاع المدني واعتقال بعض العاملين فيها ومصادرة كامل الأرشيف المتواجد في هذه المراكز».
من بين الأسباب الأخرى التي يذكرها الإعلامي لضياع الأرشيف أيضاً “تعرّض بعض المواد القديمة للتلف نتيجة عوامل طبيعيةٍ وتقنيةٍ تتعلقُ بسلامة الهاردات، فضلاً عن وجود مقاطع تدين انتهاكات النظام، ولاسيما خلال قصفه للمدنيين بالنابالم والفوسفور والكيماوي، وبالتالي لم يتجرأ أصحاب تلك المقاطع على اصطحابها معهم خوفاً من التفتيش، الأمر الذي دفع بعض الناشطين إلى دفن أرشيفهم تحت تراب الغوطة”.
ويخبرنا الناشط الإعلامي منتصر أبو زيد، إنّ «اهتمام سكان الغوطة بالتنسيقيات، وتقديمهم الدعم لها عبر المتابعة والتفاعل والتعليق كان يسهمُ في حمايتها من الإغلاق، أما الصفحات التي لم يكن لديها الكثير من المتابعين، ولم تتلقَ الدعم، فلم يتمكّن أصحابها من استرجاعها بعد أن صار مصيرها الإغلاق، كما تعرضت بعض الصفحات للاختراق أو الاغلاق من إدارة موقع فيسبوك، كما أنّ جهل أصحابها بالأمور التقنية وإهمال مسألة تأمين هذه الحسابات جيداً وقلة أعداد التقنيين القادرين على استرجاعها، كان يتسبّب في فقدانها وضياع الأرشيف المُخزّن فيها، ليقوم أصحابها بإنشاء صفحاتٍ بديلة دون الحصول على أيٍّ من التوثيقات التي كانت موجودةً على الصفحات المُغلقة».
ومن بين التنسيقيات التي كان لها حضورٌ قويٌّ في بدايات الثورة «تنسيقية العبّادة»، والتي تأسست في 2011 بواسطة أربعة أشخاصٍ كانوا يقومون بالتصوير ورفع الصور والفيديوهات على صفحات التنسيقية في فيسبوك ويوتيوب». منتصر أبو زيد كان أحد مؤسسي تنسيقية العبّادة، وكان يحتفظ بالصور والفيديوهات التي ينشرها على التنسيقية ضمن أرشيفٍ خاصٍّ به على حاسوبه المحمول أو ضمن أقراص تخزين (هاردات). وفي العام 2013 حاصر النظام منطقة المرج، وسيطر على القرى الشرقية من الغوطة المحاذية لطريق الضمير العسكري، ومن بينها قرية العبّادة.
يقول أبو زيد: «كنا نتوقع أن يسيطر النظام عدة أيامٍ على المنطقة ومن ثم سينسحب منها، ولذلك تركنا الأرشيف الخاص بنا ضمن المنازل ونزحنا إلى قرىً مجاورة، غير أنّ النظام ظل مسيطراً على تلك القرى لعدة أشهر، الى أن استطاعت فصائل المعارضة استعادة السيطرة عليها في نهاية 2013 لمدة 15 يوماً. حينها توجهتُ مسرعاً الى قرية العبّادة لتوثيق ما حلّ بالمنطقة، والاطمئنان على منزلي والأرشيف الموجود فيه، لكني تفاجأت بقيام الشبيحة بتعفيش كلّ شيء، وبالتالي فقدت أكثر من 40% من الأرشيف، في حين كنت قد اصطحبت باقي الأرشيف معي خلال النزوح مخزناً على هاردات».
ويضيف أبو زيد: «لم يكن لديّ سوى ثلاثة أو أربعة هاردات أحتفظُ بأرشيفي الخاص عليها، وذلك لعدم امتلاكي القدرة المالية على شراء هاردات إضافية، إلا أن تلك الهاردات تعرضت للتلف في 2015، كما كان هناك جزءٌ من الأرشيف مُخزّن على قناة تنسيقية العبّادة في يوتيوب، والتي كان عليها حوالي ثلاثة آلاف مشترك، إلا أن إدارة اليوتيوب قامت، في الشهر العاشر من العام 2019، بحذف كل الفيديوهات الموجودة عليها بسبب طبيعة ونوع المحتوى، وهو نفس الأمر الذي فعلته مع كثيرٍ من القنوات الناطقة باسم الثورة».
وتابع قائلاً: «شعرتُ بحزنٍ شديدٍ على إغلاق تنسيقية العبّادة في يوتيوب؛ كوني فقدتُ أرشيفاً هامّاً، من ضمنه توثيقٌ لأول غارة جوية طالت الغوطة، والتي استهدفت بلدة العبّادة، إضافةً إلى احتواء القناة على فيديوهاتٍ نادرة توثّق غاراتٍ بالسلاح الكيماوي لم يتم التطرّق إليها كثيراً في الاعلام».
وسبق إغلاق قناة تنسيقية العبّادة في يوتيوب، إغلاقُ صفحة تنسيقية العبّادة في موقع فيس بوك في نهاية العام 2017، وذلك رغم الأهمية التي كانت تحظى بها في السنوات الثلاثة الأولى من الثورة، فمنذ سيطرة النظام على قرية العبّادة ومعظم قرى المرج في 2013، لم تعد تحظى التنسيقية بمتابعة، كونها باتت تغطي أخبار باقي بلدات الغوطة الخارجة عن سيطرة النظام وتوثّق أعداد الضحايا. فضلاً عن ذلك، مات مشاركون بالنشر على التنسيقية نتيجة قصف النظام، فلم يبق سوى الناشط منتصر أبو زيد يعمل عل إدارتها، وحين تعرضت للإغلاق من قبل إدارة فيسبوك «تركها أبو زيد مغلقةً دون أن يعمل على استرجاعها» حسب ما يقول.
مركز الغوطة الإعلامي: مستمر رغم التهجير
تأسس «مركز الغوطة الإعلامي» منتصف شباط (فبراير) من العام 2017، بعد اجتماعٍ ضمّ 11 ناشطاً إعلامياً من مختلف بلدات الغوطة، واتفقوا على إطلاق منصة تحمل اسم مركز الغوطة الإعلامي، لتكون «صوتاً حراً ثورياً مستقلاً لا يتبع لأي فصيل أو جهة»، ونتيجة امتلاك هؤلاء الناشطين لأرشيفٍ يعود إلى التنسيقيات التي عملوا فيها، فقد باشر بنشر هذا الأرشيف على معرّفات المركز.
وقال مدير مركز الغوطة الإعلامي ضياء الدين العربيني: «إن المركز حرص على العمل التطوعي وعدم الحصول على أي دعم، وذلك كي لا يؤثر الدعم على توجهاته وتغطيته للأحداث بحيادية، ولذلك عمل ناشطو المركز على توثيق وأرشفة الانتهاكات من أي طرف، سواءً من النظام أو فصائل المعارضة. وفي نيسان 2017 اندلع اقتتالٌ بين الفصائل، لذا حرصنا على توثيق الحدث عبر صورٍ وفيديوهات نحتفظ بها، ومنها مظاهراتٌ خرجت مطالبةً بوقف الاقتتال، فقامت إحدى كتائب المُعارضة بإطلاق النار على المتظاهرين».
وأشار العربيني الى أن «ضيق الفترة الزمنية بين تأسيس المركز وعملية التهجير، إضافةً إلى التصعيد العسكري العنيف من الأسد وروسيا، كانت عوامل أعاقت عملية تنظيم أرشيف الغوطة، فكل شخص من العاملين في المركز يمتلك أرشيفاً كبيراً، ويعتبره أمانةً في عنقه ولا يمكن التفريط فيه»، مضيفاً أنه «خلال الحملة العسكرية للنظام على الغوطة، توجهتُ مسرعاً تحت القصف الى منزلي، وكنت مستعداً للتضحية بحياتي من أجل الحصول على الأرشيف، ولاسيما أن قوات النظام كانت على بعد كيلو مترٍ واحد من منزلي، والمنطقة باتت خط اشتباكٍ حينها، ورغم ذلك تمكنتُ من إخراج الأرشيف».
بعد التهجير قرر الناشطون «إعادة تفعيل مركز الغوطة الاعلامي، للتركيز على ما يحصل داخل الغوطة الشرقية وما يعانيه الأهالي فيها، وكي لا تبقى المنطقة غائبةً عن الإعلام، إضافةً إلى التركيز على مهجري الغوطة في الشمال السوري ونشاطاتهم والمشاكل التي يواجهونها في مخيمات النزوح والمدن والبلدات التي يسكنونها والانتهاكات التي يتعرضون لها» بحسب العربيني.
ولفت ضياء العربيني إلى «وجود مساعٍ لأرشفة تاريخ الغوطة الثوري، وذلك عبر جمع الأرشيف الضخم الذي يمتلكه شبان وناشطو الغوطة الذين جرى تهجيرهم، إضافةً إلى المقاطع الموجودة على مُعرّفات المركز، إلا أنّ هذا المشروع بحاجة لدعمٍ يمكّنُ من تأمين المعدات الخاصة بعمليات الأرشفة».
تم دعم هذا التحقيق (الذي سينشر تباعاً) من قبل صندوق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتمويل الأعمال الاستقصائية NAWA -IF