قبل أربع سنوات وأيام قليلة، كان الثلج يغطي الطريق الفاصل بين حلب وإدلب، وكان تهجير قسري لعشرات الآلاف من الأشخاص قد بدأ، جميعهم تفرقوا فيما تبقى من جغرافيا بدأت هي الأخرى تضيق، لتكتب تهجيراً تلو الآخر حمل في مفهومه مسألتين: صفعات متكررة منعتهم من الاستقرار، ويأس حال دون تقديم رواية حقيقة عما حدث.
سحبت الثورة السورية، بكل ما عاشته من أمال وآلام، البساط من ذاكرة أهالي حلب، وبات مشهد رأس السنة قديماً جداً للدرجة التي لم يعد كثر منهم يستطيعون تحديد الشوارع وطرق الوصول إليها.
غدت منازلهم بقايا صور تم تخزينها على الهواتف، تلك الهواتف تعرضت هي الأخرى لموجة من الفقد والحذف، لتغيب ملامحها، يبقى من ذلك كله خريطة ذهنية يعيدون تذكرها كلما أرادوا ذلك بوضع اسم منطقتهم على تطبيق تحديد المواقع، وقياس المسافة بين تهجيرهم والمدينة البعيدة، لا يسمح التطبيق بتقديم صورة واضحة للمكان، ويكتفي بصور قديمة إن وجدت، وهو ما يرتكزون عليه لبداية قصصهم وحكاياتهم.
لم يكن لأحد أن يعتقد بأن النسيان قد يطال الأمكنة، حيث أمضت فيها عائلات سنوات كثيرة من حياتها، أكلت فيها الشوارع من أقدامهم، ونهبت سنوات عمرهم ساعات العمل الطويلة لبناء منازل لن يستطيعوا العودة إليها أو حتى تذكر تفاصيلها.
يحاولون إصباغ ما يريح ضمائرهم على تلك الأيام، يطلقون عليها “الزمن الجميل -أيام البركة”، يتنهدون وهم يدفعون بقصصهم كأدلة على ذلك، معظم هذه القصص تصب في اتجاهين، سنوات الشقاء والأعمال التي امتهنوها خلالها، وبقايا ضحكات على طرف لأشخاص لم يعودوا موجودين الآن، قتل كثير منهم، اعتقل آخرون، تشبث قسم منهم بجدران المدينة وبقوا فيها يدفعون ثمن بقائهم بخوفهم اليومي وإذلالهم وإظهار ولائهم، أما من ترك المدينة فتوزعوا في مدن العالم يسوقون كل حديث ليوصلهم إلى مدينتهم، قبل أن يبدؤوا بالتنهد والحكايات من جديد.
لا تبدو حلب كغيرها من المدن السورية، هناك حربان داخل المدينة بدأتا ولن تنتهيا تحت أي ظرف أو سلطة، حرب بجذور قديمة لتحديد هوية المدينة المتناقضة والتائهة أيضاً بين مفهومي التجارة والصناعة من جهة والسلطة من جهة، ففي الوقت الذي شكلت فيه المدينة ما يشبه “الخليج”، نسبة للعائدين من دول الخليج العربي بوضعهم الاقتصادي الجديد، لرجال السلطة ومسؤوليها بمختلف المستويات، كان الحلبيون يتكئون على هذه الفكرة ويحاولون التشبث بها، بعد أن أفرغت المدينة من أي ميزة أخرى، منتجون لمستهلكين لا يدفعون ثمناً لهذا الاستهلاك، تتضخم ثروات الآخرين مقابل انهيار للمنتجين، وفي كل مرة تحاول السلطة إعادة بناء منتجين يسيطرون على الساحة كبديل للقدامى قبل أن تمتصهم من جديد.
يرافق ذلك حرب على هوية المدينة، هل كانت حلب مدينة للثورة حقاً، هل لسقوطها هذا الأثر على تغير الأحداث، كذلك هل أريد لها لعب هذا الدور لتعيد السلطة كما في كل مرة امتصاص نتائجها لتتضخم مقابل سقوط الآخرين، ثم ما الذي بقي من أثر سقوط المدينة بعد أربع سنوات على تهجير قسمها الشرقي وتدميره بالكامل.
شكلت حلب، منذ تحرير قسمها الشرقي، حجر ارتكاز في الثورة السورية، أعطى ذلك التحرير طمأنينة لكل الذين خرجوا على النظام وفي مختلف المناطق، أياً كانت النتائج والصعوبات، فهناك حلب وهي دائماً مصدر استمرار لقوتهم ووجودهم.
ذلك ليس لأن المدينة العاصمة الثانية في سوريا، بل لأن تحريرها بحد ذاته زعزع من سلطة النظام التي ظن أنه يحكم قبضته على المدينة المنتجة، وأن سكانها سيقبلون دائماً بما رسم لهم من أدوار هامشية.
لم تعد حلب كما كانت منذ سقوطها، هناك جدار فاصل لا يمكن تخطيه بإزالة الأنقاض بين طرفي المدينة، ولم تعد امتدادات الطرق متآلفة. لا يحقق دوار الصاخور كمثال، عقدة طرقية بين أحياء المدينة، يمر اليوم من يعبرون هذا الطريق خائفين مسرعين ليصلوا إلى وجهتهم دون النظر إلى الأعين التي تلاحقهم، هم وإن كانوا من سكان هذا المكان قبل الثورة إلا أنهم اليوم لا ينتمون له، غرباء عنه، إضافة لـ “تمويت” هذا القسم من المدينة الذي ثار يوماً وشهد أياماً مليئة بالحياة والضجيج.
الأمر نفسه يمكن أن نقوله عن دوارات أخرى فاصلة بين قسمي المدينة (الشعار -قاضي عسكر -باب النيرب..).
وفي الوقت الذي يسمح لمن لا يشعر بالانتماء للمكان دخوله إلى هذه الأحياء وسكنه فيها، يعيش قسم آخر أزمة هوية لوجودهم في الأحياء الغربية التي لا ينتمون إليها ولا تشبههم، بل أرهقتهم بالإيجارات المرتفعة وغلاء المعيشة.
أما في حالة المهجرين قسرياً، فتلك أمكنتهم، أياً كانت التغيرات التي طرأت على حياتهم، يعيشونها في ذاكرتهم ويحاولون إيقاظ الذاكرة دائماً كي يحافظوا على استمرارهم، تلك حلب المشتهاة والباقية، أما الكتلة التي تسمى “حلب” في هذا الوقت فهي أبنية وطرقات بلا روح ولا حياة، أنقاض وحجارة وبعض الواقفين على الأطلال.