يرتبط مفهوما التوثيق والأرشفة ارتباطاً وثيقاً يقضي بلزوم وجود أحدهما مع الآخر دائماً في التعريفات كافة، ويعرف الأرشيف بأنه “كيان منظم من الوثائق”، والتوثيق عملية إدارية يقوم بها منتجو الوثائق ومستعملوها، وحدهم، أو من خلال مؤسسات تعنى بتنظيمها للاستفادة منها في صناعة ما يمكن أن يلخص مفهوم الأرشفة في خدمة التاريخ، إذ لا يمكن دون هذا الأرشيف أن نروي ما حدث، وبإهماله نكون قد حكمنا على الذاكرة بالدمار.
يذكر الأرشيف السوري، ويعرف عن نفسه بالمشروع المستقل تماماً، يهدف من خلال جمع الأدلة البصرية لانتهاكات حقوق الإنسان على الأرض السورية، تنظيمها وتحليلها إلى حفظ البيانات كذاكرة رقمية، وإنشاء قاعدة بيانات محقق منها لانتهاكات حقوق الإنسان، ويسعى من خلال ذلك ليكون أحد الأدوات التي تساهم في تطبيق العدالة وتعزيز المسائلة كمفهوم وكتطبيق في سوريا، يذكر الأرشيف أن مقاطع الفيديو التي توثق ما حدث في سوريا يفوق عدد ساعات النزاع نفسه، ويقول أن هذا المحتوى تحول “أرشيفاً بالصدفة” يتيح لأي شخص أن يكون شاهداً على النزاع وقت وقوعه، ربما للمرة الأولى في التاريخ.
منذ بداية العام ٢٠١١ ومع المظاهرات الأولى في سوريا تحولت وسائل التواصل الاجتماعي، مواقع الكترونية، ناشطون، مواطنون صحفيون، أشخاص عاديون، ودون خطة ممنهجة، وفي كثير من الأحيان مع جهل باستخدام الطرق الآمنة والصحيحة للتوثيق والأرشفة، تحولوا فطرياً إلى عملية التوثيق، من خلال هواتفهم النقالة، كاميرات بدائية، كتابات على الورق أو على الصفحات الشخصية، يدفعهم إلى ذلك نقل ما يحدث والتأكيد عليه، خاصة فيما يتعلق بنقاط التظاهر والانتهاكات التي رافقت ذلك، قبل أن تتحول هذه العملية، يمكن من خلال تحليل بياناتها وجمعها وترتيبها الزمني والمكاني، إلى أدوات تقدم فهماً عاماً لما يحدث، وتوثق الانتهاكات، وتشكل الأدلة اللازمة للمحاسبة وتوجيه المسؤولية.
عدم الاختصاص وغياب المؤسسات الداعمة لمشاريع تدريبية، سياسات وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات في حذف المحتوى، قتل وتهجير الكثير ممن كانوا يعملون على هذه التوثيقات، استهداف المكاتب الإعلامية والمؤسسات التي تورشف ما حدث، اعتقال أعداد كبيرة من الناشطين، تلف الأجهزة المحمولة والهاردات الخارجية، غياب الدعم عن تقديم الطرق والمبالغ اللازمة لإنشاء سحابات آمنة تحفظ محتوى الأرشفة، الخوف، اليأس خلال السنوات الطويلة للثورة السورية الذي طال أعداداً من الناشطين، حذف الصفحات الشخصية، عدم الثقة بالتخزين الالكتروني للأرشيف، حملات التبليغ الممنهجة لمحو أدلة ارتبطت بانتهاكات وجرائم لحقوق الإنسان في سوريا، كل ذلك أدى إلى ضياع جزء هام من الأرشيف السوري، لا يمكن تعويضه، خاصة فيما يتعلق بحوادث معينة، وما يزال جزء من هذا الأرشيف يضيع في كل يوم، ما يضع الجميع أمام مسؤولياتهم في اتجاهين، الالتزام الأخلاقي والالتزام القانوني لمحاولة إنقاذ الأدلة من جهة، وتوثيق الرواية والسردية التاريخية السورية بالوثائق اللازمة لذلك.
يوضح هذا التحقيق الذي مرّ بمراحل من التحليل، المقابلات مع إعلاميين وناشطين، البحث في المصادر المفتوحة، ومحاولة البحث عن إجابات وخلق تساؤلات حول ضياع جزء غير قليل من الأرشيف السوري، وأثر هذا الضياع على نقل الصورة وبناء الأدلة القانونية والإنسانية في آن معاً.
حلب.. يوم فقدنا أرشيفنا
صدرت حلب وعلى مدار نحو خمس سنوات مئات الآلاف من التوثيقات (صور -فيديوهات)، رفعها منتجوها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي أو في المؤسسات والمكاتب الإعلامية التي يرتبطون بها، قسم كبير من هذه المواد بقيت حبيسة الهاردات ولم تظهر إلى العلن، قسم آخر فقد خلال القصف أو التهجير، بعضها أزيل بعد إغلاق الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب، كذلك في المؤسسات التي تعرضت للإغلاق لأسباب كثيرة أهمها توقف الدعم أو مقتل المسؤولين عنها.
إن العدد الهائل في حجم البيانات والمعلومات حدّ من القدرة على التحكم بها بشكل فعال، وهو مع عوامل أخرى ما حال دون وجود جهة واحدة تأخذ على عاتقها أرشفة جميع هذا المحتوى في مكان آمن، إضافة لارتفاع تكاليف التخزين والمحافظة عليها.
لا يمكن تحديد عدد المواد المحذوفة، يقول من تحدثنا معهم من صحفيين ومواطنين صحفيين وناشطين، وكذلك لا يمكن تقدير قيمتها في رواية ما حدث، إلا أن ما بقي، على حد قولهم، أقل بكثير مما جرى حذفه أو تعرض للضياع والسرقة والتلف، ما يوضح حجم هذا الضياع هو وجود ملايين الفيديوهات، فيما يخص القضية السورية، المتاحة اليوم، ما يعني أن حجم الفقدان أكبر بكثير مما هو متاح.
خلال بحثنا عبر المصادر المفتوحة عن حوادث عشوائية بتواريخ محددة في المدينة، نجد أن آليات البحث قاصرة عبر هذه المصادر، ما يجعل جمعها أمراً بالغ الصعوبة، واصطدمنا ضمن ذلك بعشرات الصفحات التي لم تعد متاحة على الفيس بوك، أو الفيديوهات المحذوفة على اليوتيوب، ربما كانت ستضيف فهماً آخر لمحور البحث عن انتهاك بحد ذاته أو استهداف معين. يزيد ذلك في كل يوم.
وضمن البحث العشوائي حاولنا أن نبحث عن عشر حوادث في أعوام وأشهر متفرقة، ووجدنا أن نحو ٤٠٪ من نتائج البحث كانت تحيلنا إلى روابط في صفحات مغلقة، ٢٣٪ من الفيديوهات في اليوتيوب محذوفة، معظم هذه الفيديوهات يغيب عنها طرق الأرشفة الصحيحة في تحديد المكان وكتابة المحتوى ما يجعل التوثق منها، لغير أبناء المدينة، أمراً بالغ الصعوبة، ويحتاج لجهد بشري مضاعف من التواصل مع الأشخاص الذين قاموا برفع الفيديوهات أو تصويرها، أو لأبناء هذه المنطقة ما يزيد من صعوبة التوثيق.
يقول كريس وودز مدير شركة إيروارز، فيما نقله موقع عكس السير نقلاً عن صحيفة نيويورك تايمز، إن “ما يختفي أمام أعيننا اليوم هو تاريخ هذه الحرب الرهيبة”، مؤكداً أن السوريين “اتخذوا من اليوتيوب وسيلة لنشر أخبار النزاع مع انهيار وسائل الإعلام المستقلة عند بداية الصراع”.
كنا نوثق كل شيء
“وثقت كل حجرة في حي الصاخور” يقول الناشط الإعلامي أسامة الملاح من مدينة حلب (بدأ العمل في هذا المجال في عام 2012 من خلال التصوير، حيث عمل مع مركز حلب الإعلامي ومع المكتب الإعلامي في حي الصاخور الحلبي، ومن ثمّ تنقّل في عمله بين عدة مؤسساتٍ يزوّدها بمواد صحفية مختلفة بمبدأ «الفريلانس»، مثل وكالة الفرات وبي بي سي وتلفزيون أورينت، فضلاً عن عمله لدى منظمة الأطباء المستقلين).
يقول الملاح إنه كان «يوثّق كل شيءٍ يراه أمامه»، وخصوصاً في حي الصاخور الذي ولد فيه، حيث كان «يوثّق كل حجرةٍ في الحي»، ولكنه وثّق أيضاً في حي الشعار حيث كان مقر منظمة الأطباء المستقلين التي كان يعمل معها، مركزاً على «أوضاع الناس في الحي والأحوال الإنسانية وعمليات القصف وتصوير الأسواق ومعاناة الأطفال، لا سيما حين تعرّض مشفى دار الشفاء للقصف»، بحسب قوله. إضافةً إلى ذلك، كان الملاح مهتماً بتوثيق «السهرات والأفراح والتجمعات والأحزان والأعياد».
ويقول محمد شعبان ناشطٌ إعلامي، عمل بدايةً على توثيق المظاهرات السلمية وطرق قمعها، ولكنه مع دخول الجيش الحر إلى حلب انتقلَ للعمل مع وكالاتٍ إخبارية محلية، مثل شهبا برس وشبكة الثورة السورية. يقول شعبان عن دوافعه للقيام بعملية التوثيق: «الجميع يعلم أن روسيا والنظام السوري عملوا على قصف حلب بكل الأسلحة المتاحة، وهذا ما زاد من إصراري على التوثيق، فقمت بتوثيق الدمار والخراب والمجازر وويلات النساء والأطفال والتهجير وفقدان الأحبّة من جراء القصف».
«مع بداية الثورة السورية، وفي ظلّ غيابٍ تام للإعلام المستقل واستخدام النظام مختلف الحيل لتقديم المظاهرات المناوئة له على أنها مسيراتٌ مؤيدة، قمتُ مع بعض الشباب الآخرين بنشر المظاهرات على مواقع التواصل الإعلامي، فكانت بداية عملي تصبّ في خانة التوثيق منذ اللحظة الأولى، ولعلها المهنة الأخطر حينها». بهذه الكلمات يصف الناشط الإعلامي من مدينة حلب، ميلاد شهابي، بداية جهوده في أرشفة وتوثيق الأحداث التي عايشها.
يوضح حديث الناشطين الثلاثة أن مسألة التوثيق كانت حاضرة عند أبناء حلب منذ اللحظة الأولى، وإنهم في سبيل ذلك، عملوا مع غيرهم من الناشطين الذين تزيد أعدادهم عن المئات، على بناء صورة كاملة للمشهد العام في المدينة، وليس الانتهاكات والضربات الجوية فقط، بل حياة السكان، معاناتهم، أفراحهم، مظاهراتهم، كذلك موتهم.
أرشفة بدائية
لم تكن فكرة الأرشفة موجودة منذ البداية عند أغلب الناشطين، يقول من تحدثنا معهم وهم ثمانية إعلاميين من مناطق مختلفة في حلب وريفها، سنورد شهاداتهم خلال مسار التحقيق والطرق التي استخدموها للأرشفة وكف تطورت مهاراتهم.
يقول الملاح «بدايةً احتفظت بالصور على جهاز الكمبيوتر، وذلك بين عامي 2012-2013، وبعدها تحسنت الإمكانيات فبدأت بالأرشفة على هاردات خارجية، ولكن الكمبيوتر والهاردات لم تكن تحتوي على كل ما قمت بتصويره، إذ أضعت كثيراً من التوثيقات كوني كنت أقوم بحذف ما صورته بعد إرساله إلى الجهة الداعمة، لكون فكرة الأرشفة لم تكن موجودةً عند أغلب الناشطين الذين باشروا عملهم دون خبراتٍ سابقة أو دوراتٍ توجيهية».
ازاد اهتمام أسامة الملاح بالأرشفة وحفظ مواده بعد أن «حضر دوراتٍ تعليمية وتعلّمَ من زملائه»، فقام «بأرشفة جميع التوثيقات الموجودة لديه بتصنيفها في مجلداتٍ سنوية، يحتوي كل مجلدٍ منها مجلداتٍ شهرية تحتوي بدورها على مجلداتٍ يومية، يوجد فيها كل ما وثقه من قصفٍ ودمار وأفراح وسهرات ثورية وأوضاع إنسانية، مشيراً أثناء تخزينها إلى مكان التصوير». ويضيف الملاح: «كنت أفعل الأمر ذاته مع توثيقاتي لمشفى الأطفال، والتي ركزت فيها على إظهار حالات سوء التغذية والحالات الإنسانية التي تضررت خلال الثورة وأثناء فترة الحصار».
ويروي محمد شعبان الذي عمل مع وكالة الاناضول وشبكة الجزيرة وتلفزيون الآن. أنه «صوّر كلّ شيءٍ في حلب وأرسله إلى هذه الجهات خلال فترة عمله معها، كما دأب على أرشفة جميع المقاطع التي صورها بغية عرضها أمام كل مَنْ يسأل عن الأطراف التي حرقت حلب».
اعتقال الشهابي ومصادرة أرشيفه من قبل “داعش” لفت انتباهه إلى أهمية وجود نسخٍ احتياطية من أرشيفه لحفظه من الضياع. يقول شهابي: «تابعت عملي في مدينة حلب كمصور، ورحت أصوّر مختلف أشكال انتهاكات النظام بحقّ الأحياء الشرقية من المدينة، وكنت حينها قد التحقتُ بدورةٍ أشرف عليها الصحفي ناجي جرف في كيفية الحفاظ على المواد وكيفية الأرشفة وإجراء النُسخ الاحتياطية. منذ ذلك الوقت أنا أحتفظ بكل المواد التي صورتها خلال عملي من خلال نسخةٍ احتياطية موجودة خارج مدينة حلب».
أيهم هلال هو ناشطٌ إعلامي ومصمّم غرافيك من بلدة تل رفعت في ريف حلب الشمالي، بدأ العمل الإعلامي في العام ٢٠١٢ قال إن عملية الأرشفة في عموم ريف حلب ضعيفة، فلا يعتقد هلال بوجود «الكثير من الصفحات التوثيقية التي عملت على أرشفة أحداث الثورة السورية في المنطقة، فالأمر كان عشوائياً، فضلاً عن عدم وجود تبنّي لمسألة الأرشيف من قبل المؤسسات، وهو ما تركها لتكون، في الغالب، بمبادراتٍ فردية ومحدودة، كما هو الحال بالنسبة للناشط تامر تركماني».
وعند سؤاله عن آليات الأرشفة التي كانت متبعةً، يجيب هلال: «إن الأرشفة في بداية الثورة السورية كانت تعتمد على ‘الهارد-وير’ ضمن مساحات تخزينٍ داخل الأجهزة الحاسوبية (ديسك توب، لابتوب)، وقطع التخزين الخارجية كـالهاردات والفلاشات وكروت الذاكرة، ولذلك تسبّب هذا الأمر بفقدان العديد من التوثيقات والملفات المؤرشفة، إما نتيجة تعرّض تلك الأجهزة للقصف أو السرقة أو الأعطال، أو نتيجة عدم التمكّن مِن إخراجها في ظل المعارك المباغتة التي كانت تندلع مع النظام وتنظيم داعش في مناطق ريف حلب». ويضيف الناشط الإعلامي: «الآن تطّور الأمر كثيراً، وانتقل الناشطون لأرشفة عملهم عبر ‘السوفت-وير’ في غوغل درايف ودروبوكس وون درايف».
بدر طالب هو إعلاميٌّ من مدينة الباب بريف حلب الشرقي، وقد بدأ العمل الإعلامي منذ العام 2012 مع «حلب نيوز»، كما عمِل مصوراً حربياً مع عددٍ من الفصائل، وهو يعمل حالياً مع شركة «أندلس ميديا» لتصوير الأفلام الوثائقية. يقول طالب إنّ لديه «أرشيفاً قديماً جدّاً، يعود إلى بدايات المظاهرات في مدينة الباب مُصوّراً بكاميرا الموبايل، ولكنه لم ينشر من هذا الأرشيف سوى بعض المقاطع الاحترافية
بهاء الحلبي هو إعلاميٌّ ومراسلٌ عمِل على تصوير وتوثيق أحداث الثورة السورية منذ العام 2012، حيث شارك في تصوير معظم معارك الفصائل المُعارضة في مدينة حلب وريفها والساحل السوري، فضلاً عن عمله كمراسلٍ مع العديد من القنوات التلفزيونية. ويعبر الحلبي «صفحتي العامة من الصفحات التوثيقية في حلب وريفها، وقد وثّق فيها العديد من الأحداث المتصلة بالثورة، وكانت في معظم الأحيان مصدراً للأخبار، غير أنها مغلقةٌ حالياً، رغم أنه حاول استعادتها مرِاراً دون جدوى، وما زال طلب الاستعادة معلّقاً منذ أكثر من 4 أشهر». ويشير الحلبي إلى أنه كان يملك أيضاً صفحةً عامة أخرى كان فيها أكثر من 60 ألف متابع، ولكنّ إدارة فيسبوك أغلقتها تحت بند انتهاك المعايير، رغم أنه توقّف عن النشر فيها قبل إغلاقها بفترةٍ زمنية».
عبد الله الموسى، المعروف باسم أبو عروة الطيباني، يعمل إعلامياً منذ بداية شهر شباط (فبراير) من العام 2011، قال: «كان معظم ما صورته يتم رفعه على قناة جامعة الثورة، وبعد دخول الجيش الحر كان يتم رفع مقاطعي على قناة شبكة ‘حلب نيوز’، وذلك بعد أصبحتُ عضواً في الشبكة لمدة أقل من عامٍ واحد. ويشير الطيباني إلى أنه ترك العمل الإعلامي في مطلع العام 2013، وأنّ «كل ما صوّره في ريف حماة وريف حلب الشمالي، في معارك تحرير إعزاز تحديداً، ومن ثم دخول الجيش الحر إلى حلب في تموز (يونيو) ٢٠١٢، وصولاً إلى العام ٢٠١٣، كان يحتفظُ به في هاردات خارجية، فضلاً عن كمبيوتره المحمول.، لكنّ هذا الكمبيوتر تحطّم بالكامل خلال قصفٍ على حلب».
ويضيف أبو عروة: «لدي هارد لم يعد يعمل أبداً بسبب عطلٍ داخلي، وقد حدث ذلك بشكلٍ مفاجئ. للأسف، بعد تحطّم اللابتوب وعطل الهارد فقدت أكثر من ألف مقطع فيديو، تشمل أرشيف المظاهرات في طيبة الإمام بريف حماة ومظاهرات مدينة حلب والعديد من معارك المدينة وريفها. لدي الآن ثلاثة هاردات أحتفظ بها، ورغم خسارتي لأهم هارد كان بحوزتي، إلّا أنني أحتفظ بنسخة احتياطية لبعض محتويات الهاردين المتبقيين في غوغل درايف، ولكنّي أفكّر بحجز مساحةٍ سحابية قريباً للاحتفاظ بنسخةٍ كاملة».
ويختم الطيباني حديثه بالقول إنّ «نشاطي الإعلامي، الذي استمرّ مدة عامين في مركز حلب الإعلامي وشبكة حلب نيوز، اللتين أعتبرهما الأكثر نشاطاً في حينها، يتيح لي القول إنهما تمتلكان أرشيفاً هائلاً من مقاطع الفيديو والصور، ولكن لا علم لدي فيما إذا كانتا قد تعرّضتا أيضاً إلى فقدان بعضٍ من هذا الأرشيف».
تلف. سرقة. حذف. مصادرة
تختلف طرق فقدان الأرشيف في حلب بين شخص وآخر، لكنها جميعها تشترك في عدم إمكانية العودة، وبالتالي فقدانها إلى الأبد.
يقول الملاح إن التوثيقات التي عمل عليها لمدة سنوات ليست بحوزته الآن «ففي الشهر السادس من عام 2016، تعرضتُ لإصابةٍ عندما جرى قصف مكتب قناة الجسر في حي الشعار، حيث كنت أعمل حينها. شعرت بدايةً بأني قد فقدتُ أرشيفي ومعداتي بسبب القصف، ولكن بعد يومين وجد زملائي الهاردات، وبعد ذلك بوقتٍ قصير سقطت الاحياء المتبقية تحت سيطرة المعارضة في حلب، فأخذتُ معداتي وارشيفي معي في رحلة النزوح الداخلي من حي الشعار إلى أحياء بستان القصر ثم السكري والمشهد، وبعد الاتفاق الدولي لتهجير سكان حلب كنت من ضمن القافلة التي احتجزها الإيرانيون، فقاموا بأخذ كل ما نملك في القافلة، رغم أنها كانت قافلةً مدنية، وبهذا تم احتجاز معداتي وهاردين بسعة تخزين 4 تيرا، كانت مليئة بذكريات حلب، كما جرى احتجاز هاتفي الجوال الذي يحتوي على صوري الشخصية.»
بعد عملية التهجير الجماعي، انتقل أسامة، الذي كان مصاباً حينها إلى إدلب، ومنها إلى ريف حلب الشمالي، وبعد تعافيه من الإصابة تابع توثيق الأحداث التي تشهدها منطقة سكنه الجديد. وعن سعيه لاسترجاع أجزاء من أرشيفه الشخصي يذكر الملاح أنه «تمكّن من استرجاع بعض المواد بواسطة رفاقه؛ لوجود بعض المواد المشتركة معهم، لكن حجم المواد المسترجعة لا يتجاوز 1 بالألف مما كان يحتويه أرشيفي الأصلي»، بحسب تعبيره.
يشارك محمد شعبان الملاح في قصته لكنه ما زال محتفظاً بأرشيفه ، يقول “في العام 2016 جاء الاتفاق على إفراغ حلب من أهلها بعد العمليات العسكرية التي شنتها قوات النظام وروسيا وإيران، وهنا كانت أمام شعبان مهمة الحفاظ على أرشيفه وإخراجه من أحياء حلب الشرقية التي ستفرغ من أهلها، يقول شعبان: «كنتُ قد وثّقت الحصار والتهجير، وأخذتُ جميع التدابير اللازمة لحماية الملفات التي أرشفتها، ومن ثمّ وضعتها في الطبقة السفلية من الحقيبة التي سأحملها معي من حلب، وبعد صعودنا إلى بالباصات الكفيلة بنقلنا، وضعت حقيبتي في آخر الباص تحت الحقائب الأخرى. في منتصف الطريق صعد إلى الباص ضابطٌ روسي، وفتّش بعض الحقائب لأن الكاميرات والهاردات كانت ممنوعة من الخروج، ولكنه لم يكتشف ما بداخل حقيبتي، فلو اكتشف ذلك لَصُودِرت الحقيبة وما بداخلها، وربما كان سيُصار إلى اعتقالي”.
يتابع شعبان: «بعد خروجي من مدينة حلب، ذهبت إلى إدلب التي لم تسلم هي الأخرى من إجرام النظام، وتفطّنت إلى أنّ الأرشيف قد يكون في أي لحظةٍ قابلاً للتلف أو المصادرة أو الضياع، فأرسلته مع صديقٍ لي إلى تركيا، حيث ما يزال موجوداً إلى الآن. أتمنى أن تصل هذه التوثيقات إلى العالم أجمع».
وتكفل تنظيم داعش بمصادرة أرشيف ميلاد الشهابي، يقول: «حملنا كاميراتٍ وبدأنا بالتوثيق بعد دخول الجيش الحر إلى حلب، وكذلك في المراحل التي ظهرت فيها التنظيمات الجهادية كجبهة النصرة وداعش. واتسمت هذه المرحلة بأنها قد شهدت مختلف أشكال الانتهاكات التي لا تقل أثراً عن انتهاكات النظام، وهو ما عرضني للاعتقال من جانب تنظيم داعش، حيث سُلبتُ كافة الأشياء الموجودة في المكتب الذي كنت أعمل منه، بما في ذلك الكاميرات والمعدات والهاردات التي كانت بحوزتي». كان من حصيلة هذا الاعتقال فقدانُ ميلاد شهابي بعد خروجه من سجن تنظيم داعش كامل أرشيفه الذي يحتوي ما يقول إنه «أهمّ المواد التي صورها، خصوصا أيام المظاهرات والمرحلة السلمية من الثورة». ولم تُسفر بعدها محاولاته في التفتيش عن الأرشيف عن أي نتائج.
من بين المشاهد التي صورها أسامة الملاح، مقطعٌ يقول إنه أكثر ما حزن عليه، ويوثّق فيه «لحظة الخروج من حيه وتفاصيل رحلة التهجير، بدءاً من لحظة خروجه من منزله حتى لحظة صعوده في الباص، ولكن هذه الصورة ذهبت مع باقي الأرشيف، الذي يتضمن أيضاً صور رفاقه الشهداء الذين كان يقضي معهم وقتاً أطول من ذاك الذي يقضيه مع أهله».
رغم جميع الاحتياطات التي أخذها عبيدة بعاج، مراسل قناة حلب اليوم، للحفاظ على أرشيف، إلا أنه واجه الضياع. يقول بعاج واصفاً الطريقة التي ضاع فيها أرشيفه: «بعد الاتفاق على إخراجنا من حلب في إطار التهجير القسري، أرشفتُ كل عملي على هاردات خارجية خاصة، ولكن أثناء انتظارنا للباصات التي ستُقلّنا كان هناك هجوم من المليشيات التابعة للنظام على الناس المتجمعين في موقع الباصات، ومع تدافع الناس للهروب كانت الهاردات قد وقعت مني وتحطمت».
بذلك يكون عبيدة بعاج قد فقد الجزء الأكبر من أرشيفه، لكنه «يتحسّر كثيراً على المقاطع التي وثّق من خلالها استهداف مشفى القدس بحلب». يختم عبيدة كلامه: «لم أستطع استعادة أي شيء، وذلك مع أني اتّخذت كافة احتياطاتي، وقمت بترتيب المواد وحفظها في هاردات خارجية».
ويقول أيهم هلال إنه «فقد بالكامل أرشيفاً عمل عليه لأكثر من خمس سنوات، وذلك عندما هُجّر من بلدة تل رفعت على يد قوات سوريا الديمقراطية نهاية العام 2016، حيث كان أرشيفه مخزناً على أجهزة كمبيوتر وهاردات خارجية».
وعن محتويات هذا الأرشيف يضيف هلال: «هو مرتبطٌ بتوثيق المظاهرات في البلدة وعموم منطقة إعزاز شمالي حلب، إضافةً للمعارك التي جرت ضد قوات النظام السوري، ولاحقاً ضد قوات سوريا الديمقراطية التي سيطرت على تل رفعت، ولم أتمكّن من إخراج الأرشيف حينها، ولم يكن لدي أي تخزين سحابي أو نسخة احتياطية عنه»، مضيفاً أن «عمليات الأرشفة والتوثيق التي قام بها لم تقتصر على المعارك والانتهاكات، إنما شمِلت أيضاً العديد من الإنجازات في المناطق المحررة والفعاليات والمبادرات والنشاطات والخدمات وغير ذلك».
ويخبرنا بدر طالب: إنه كان يحتفظ بالمقاطع المصورة على هارد خارجي بمخرجين؛ داتا وكهرباء، بمساحة تخزينية مقدارها 2 تيرا، إلّا أن الهارد تعرّض للعطب كليّاً بعد احتراق شاحنه بسبب كهرباء المولدة، وإنه أرسلت الهارد إلى أصدقاءٍ من أجل إصلاحه، إلا أنّ أحدهم سرقه ليفقده تماماً.
ويضيف طالب «إنه اشترى هارداً جديداً (USB)، وبدأتُ الأرشفةَ عليه، غير أنه تعّرض للسرقة من مكتب حلب نيوز مع مجموعة هاردات أخرى. وقد كانت بداية المعارك التي خاضتها فصائل المعارضة مع تنظيم داعش في ريف حلب مؤرشفةً على هذا الهارد، بالإضافة إلى معلوماتٍ مهمة عن بعض عناصر داعش، وصورٍ لبعض جوازات السفر التي كانت بحوزتهم، ومنها جوازات سفر وهويات إيرانية» على حد قوله. مشيراً إلى أنه «من ضمن الأرشيف توثيقاتٌ لقتلى من كتيبةٍ تتبع لتنظيم الدولة، كانت تٌعرف بالكتيبة الخضراء في ريف حلب الغربي، وقتل منهم حينها أكثر من 100 مقاتل، إضافةً إلى قتلي داعش في الفوج 46 وأورم الكبرى».
ليس هذا كل ما فقده بدر من أرشيفه، بل إنه «تعرّض إلى سرقة هارد آخر كان يحوي جميع ما وثّقه هو وزملاؤه في بداية حملة البراميل المتفجرة على مدينة حلب في العام 2014، المتزامنة مع معارك داعش في حلب وريفها»، لافتاً إلى أنه «كان يسقط على حلب حينها نحو 70 برميلاً يومياً، معظمها موثّق من بداية إلقائها من طائرة النظام إلى حين سقوطها ومكان السقوط وما يخلّفه ذلك من ضحايا، فضلاً عن توثيق عملية انتشال هؤلاء الضحايا».
كما يشير طالب إلى أنّ «أبرز الصفحات التوثيقية في ريف حلب، والتي تحوي أرشيفاً كبيراً لمراحل الثورة السورية في هذه المنطقة هي صفحة ‘تنسيقة مدينة الباب وضواحيها’، والتي تعرَضت للإغلاق أوائل العام 2015، فقام فريقها بإنشاء صفحةٍ بديلةٍ ما تزال تعمل حتى الآن، أما الصفحة المُغلقة فليس هناك احتفاظٌ كاملٌ بأرشيفها، ولكن في الغالب هناك أرشيف لجميع محتواها موزّعٌ بين أعضاء فريقها». ويذكر بدر طالب أنّ «هناك صفحة كانت تحمل ‘اسم أحرار مدينة الباب وضواحيها’، وقد كانت بارزةً ولديها أرشيفٌ مهم، غير أنها مغلقةٌ الآن، ولا يدري إنْ كان فريقُها قد أرشف محتواها».
وتسببت الأعطال الفنية وعدم وجود تقنيين في الداخل السوري لإصلاحها تسبب في ضياع قسم كبير من الأرشيف المخزن على هاردات خارجية، يقول الحلبي: «فقدتُ أكثر من هارد يحتوي على الأحداث التي وثّقتها بالفيديو والصور في حلب وريفها، ومنها أرشفة حساباتي العامة عليها، تنوّعت أسباب الفقدان بين أعطال فنية في بعض الهاردات وضياع بعضها الآخر في ظل عمليات التهجير من حلب. لدي أيضاً هارد بسعة واحد تيرا، يحتوي معظم الأحداث التي وثقّتها في ريف حلب، ولكنه تعرّض للعطب بشكلٍ مفاجئ، وقد حاولت إصلاحه مِراراً، ولكن لم يتمكّن أحدٌ من إصلاحه، وما زلت أحتفظ به لعلّي أجد مَن يستطيع إصلاحه يوماً ما. للأسف، لا يوجد جهةٌ رسمية تعمل على أرشفة أحداث الثورة السورية في حلب وريفها، ومعظم الأرشفة يقوم بها، بشكلٍ فردي، الإعلاميون، فمنهم مَن يستطيع حفظها ومنهم مَن يفقدها لأسباب عديدة».
ويقول الطيباني: «كان معظم ما صورته يتم رفعه على قناة جامعة الثورة، وبعد دخول الجيش الحر كان يتم رفع مقاطعي على قناة شبكة ‘حلب نيوز’، وذلك بعد أصبحتُ عضواً في الشبكة لمدة أقل من عامٍ واحد. ويشير الطيباني إلى أنه ترك العمل الإعلامي في مطلع العام 2013، وأنّ «كل ما صوّره في ريف حماة وريف حلب الشمالي، في معارك تحرير إعزاز تحديداً، ومن ثم دخول الجيش الحر إلى حلب في تموز (يونيو) ٢٠١٢، وصولاً إلى العام ٢٠١٣، كان يحتفظُ به في هاردات خارجية، فضلاً عن كمبيوتره المحمول.، لكنّ هذا الكمبيوتر تحطّم بالكامل خلال قصفٍ على حلب».
يغيب عمن تحدثنا معهم، مفهوم الأرشفة الالكترونية الحديثة وفق الطرق الصحيحة في بداية عملهم، ويظهر ضعف المؤسسات في تدريب الإعلاميين على ذلك، كذلك القيام بعملية توثيق هذا المحتوى وفهرسته، سواء من خلال المكان أو التاريخ أو المحتوى، ناهيك عن فقدانه، وغياب القدرة على الوصول إليه، في حالو جد، نظراً لعدم التنظيم. كذلك لم يذكر سوى واحد منهم مفهوم السحابة الالكترونية، ما يعني عدم شيوع هذه الطريقة المعتمدة عالمياً والتي تعتبر الأكثر قدرة في الحفاظ على الأرشيف اليوم بين الناشطين السوريين في حلب.
وتمثل تقنية “الحوسبة السحابية” حلاً لمعظم المشكلات التي تم الحديث عنها، إذ يستطيع الشخص الوصول إليها في كل زمان ومكان، والحوسبة السحابية “تكنولوجيا متطورة تعتمد على نقل المعالجة ومساحة التخزين الخاصة بالحاسوب إلى ما يسمى “السحابي”، وهي جهاز خادم يتم الوصول إليه عبر الانترنيت.
وإن كانت إمكانية حفظ وتخزين معلومات دائمة في حاسبات خادمة متصلة بالانترنيت أهم ميزات الحوسبة السحابية إلا أن عدم التمرس على استخدامها وغياب الإجابات حول ماذا يحدث في حال ضياع هذه الملفات، بسبب عطل على سبيل المثال، وهل يمكن استعادتها سليمة من جديد، وحماية الملكية وعدم انتهاك الخصوصية وإطلاع أشخاص آخرين على محتواها وتخوفهم من ذلك مع غياب الضمانات، كان أهم ما يشغل بال من تحدثنا معهم، ناهيك عن التكاليف المرتفعة والتي يصعب تأمينها لحجز هذه السحابات والتي تمثل تحد آخر يحول دون استخدامها
يقول هلال إن هناك “تخوف من مسألة التخزين السحابي المجاني، وذلك نتيجة إغلاق الحسابات بشكلٍ مفاجئ، وبالتالي فقدان الأرشيف الذي جرى تخزينه، أو لعدم كفاية المساحة بما أن أغلب المواقع تتيح مساحةً مجانية محدودة للتخزين، بينما يمكن التحكّم بالمساحة في التخزين السحابي المأجور الذي يتيح أماناً وامتيازاتٍ عديدة، غير أنه يتطلب المال الذي لا يتوافر لدى الكثير من الناشطين».
بينما اعتمد بدر طالب وبعد حوادث فقدان وسرقة الهاردات، على موقع التخزين السحابي دروبوكس في أرشفة مواده، ويقول إنه «يجدّد اشتراكه باستمرار، وعلى هذا الموقع كامل أرشيفه وتوثيقاته التي ما زالت موجودة”.
يستعيد أسامة لحظة مصادرة أرشيفه خلال التهجير القسري لأبناء المدينة، يقول: «حينها اعتبرت نفسي قد تدمرتْ، لأن عمل خمس سنوات ذهب بثوانٍ. لقد سرقوا منا كل شيء: المال واللباس وأي شيءٍ كان معنا، ولكن هذه الأمور قابلة للتعويض، أما الخسارة الأكبر فقد كانت أرشيفي الذي لن أستطيع تعويضه».
تم دعم هذا التحقيق (الذي سينشر تباعاً) من قبل صندوق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتمويل الأعمال الاستقصائية NAWA -IF