كُتب لبيت حجري قديم من بيوت قرية “كرسعا”، التي يفصلها عن مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي كيلومترات قليلة جهة الغرب، أن يشهد ولادة الطفل الثالث لعائلة الفلاح البسيط محمد شاكر البيوش، أسماه عبد العزيز، كان ذلك في العام 1946 تحديداً. ليشكل فيما بعد علامة فارقة في الأدب الروائي.
وكان الأديب الراحل قد غيبه الموت يوم أمس الاثنين عن عمر يناهز الرابعة والسبعين، إثر معاناته لمرض عضال تمكن في النهاية من التغلب على جسده لكنه يعجز عن محو إبداعه وحضوره في ذاكرة وحياة محبيه ممن عرفوه أو قرؤوا له.
بدأ الموسى باكورة أعماله الأدبية برواية “عائلة الحاج مبارك” التي كتبها في العام 1996، وإن سبقتها للطباعة روايته الثانية “اللقلق” أو كما سميت فيما بعد “الغراب الأعصم” التي خطها في العام التالي، وفيها تستنشق رائحة الريف الأدلبي، وترسم صورة لمجتمع المنطقة بتفاصيله الصغيرة.
تلك الرائحة التي لم تغب عن أغلب أعماله اللاحقة، لتتجلى واضحة المعالم في أسماء شخوص الروايات، وأسماء الأماكن، وارتباطها الوثيق بالبيئة التي احتضنت الكاتب، كما تخبرنا بذلك رواية “الجوخي”، ويعني الاسم لأبناء المنطقة منخفض من الأرض تجتمع فيها مياه الامطار بما يعرف “بالرام” وارتباط هذا الاسم بقصص كثيرة نسجت حوله في الموروث الشعبي.
يقول الأديب الراحل ” البيئة منجمٌ ثرّ لوصف التحولات الزراعية والطبيعية وأهواء البشر، ويظهر تأثيرها بشكل أكبر في “جب الرمان” حيث الطبيعة الرائعة التي تتوثب في كل سطر، وفي “الغراب الأعصم” و “الجوخي” أيضاً، حيث حياة الناس وعلاقاتهم وأرضهم وسماؤهم”.
الموسى يحرق سفينته
في لحظة معينة قرر الكاتب عبد العزيز الموسى إحراق قماش الخيام التي كانت ترافقه الى أراضي البطيخ، حيث كان يعمل صيفاً بضمانه وزراعته، ليدعم به راتبه الذي يتقاضاه من عمله كمدرس لمادة الفلسفة في ثانوية ذي قار بكفر نبل، فهو خريج كلية الآداب قسم الفلسفة من جامعة دمشق، بتقدير امتياز، وعلى يديه تتلمذت أجيال متعاقبة.
لعله أراد من إحراق طريق العودة إلى الوراء، وإنهاء مرحلة المدرس المزارع، لتبدأ بعدها مرحلة الكاتب بالتبلور والظهور. هو يقول إنها كانت حالة من “الجنون، لكن لا بد منها”.
من المحلية إلى العالمية
عن روايته “عائلة الحاج مبارك” نال الموسى المركز الثاني في جائزة نجيب محفوظ، لينال بعد تعب وجهد نصيباً من التكريم، وليؤكد من جديد على دقة تفاصيل ما يكتبه وحسه الروائي العالي. ثم توالت الجوائز فنالت رواية “جب الرمان” التي كتبها في العام 1997، جائزة المزرعة في السويداء. وآخر تلك الجوائز كانت عن روايته “كاهن دورا” المطبوعة في العام 2017 لتحصد المرتبة الأولى لجائزة “مجلة دبي الثقافية”.
من رواياته أيضا “بغل الطاحون” و “جرجرة” و”مسمار السماء” و”بنت الشنفراني”. إضافة للعديد من الروايات المخطوطة والأفكار التي لم تنضج ليكتب لها النشر.
ويعتبر الراحل ان رواية “كاهن دورا” تلخص عصارة فكره وتجتمع فيها كل رواياته، ففيها يتحول الكاتب من موقع الراوي لحادثة اغتيال أحد الجيران، والتي شكلت محركاً للقصة إلى موقع البطل في الرواية. بعد استشهاد ابنه البكر محمد في غارة لطائرة استهدفت محله في سوق الخميس بكفر نبل.
“تحولت لدور البطل حيث اروي لحفيدي ابن الشهيد ما جرى، وهي بمثابة خاتمة أعمالي” هكذا وصف الكاتب روايته في أحد اللقاءات المصورة مع قناة “الجزيرة”.
روح الثورة في كتابات الموسى
لم تنقطع روح الثائر عن كتابات الراحل، ما صعب عملية النشر والترويج لرواياته. وحورب لما يمتلكه من نقد وإسقاطات، وعُمد إلى تحجيمه إلى أن بدأت الثورة السورية وحاولت الحكومة وقتها كسب ود الشعب وتلميع صورتها عبر استقطاب المثقفين والفنانين، ليتم قبول عضوية الموسى في اتحاد الكتاب عام ٢٠١٢ وتسميته قارئا للمواد الأدبية في المسابقات.
كما قام الاتحاد بنشر رواية “جرجرة” وعلى نفقة الاتحاد الخاصة، لكن هذا ما كان ليبدل موقف الموسى من النظام وهو الذي خبر استبداده ورصد معاناة الناس معه طيلة عقود، وسطر تلك المعاناة في رواياته، ولعل “بغل الطاحون” تجسد تلك الروح التي يملكها الكاتب، والتي تسخر من الاستبداد.
بهذا وصفها كاتبها في حديث لمجلة “جيرون”: “عالج بغل الطاحون مرض الخصاء عند المسؤولين، مما جعل ديانا جبور تندم لأنها لم تشتر مني مئة نسخة وتوزعها قبل أن ينتحر الزعبي بشهر واحد”.
أثر باقٍ
كان يدعم الأقلام الشابة، هكذا يقول كل من يعرف الأديب الراحل ، ويحرص على متابعة ما يكتب. يحضر الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية. كان صديقاً للجميع ومحارباً للظلم. ابناً باراً للأرض الأم التي تربى فوقها وبين حجارتها وأشجار تينها. يلبس عباءة الفلاح ويعايش هموم أبناء جلدته وقضيته. كتب عن هموم الناس ولامس وجعهم، وما يزال حاضراً فيما تركه من إرث أدبي وفكري وحضور طاغ في نفوس طلابه ومحبيه وأصدقائه.