لم تعد الشقوق الظاهرة على يدي وقدمي عائشة تؤلمها، هي الآن جثة هامدة بعد أن قتلها زوجها الذي انتظرت خروجه من المعتقل لسنوات طويلة.
يقول أحد أقربائها إنها انتظرته لسنوات وهي تعمل في الحقول كعاملة مياومة لتأمين قوت يومها، وتدخر بعضاً من النقود ترسلها لزوجها محمد في رحلة اعتقاله الطويلة التي أوصلته مؤخراً إلى سجن السويداء.
وتروي قريبتها ما كانت تشتكيه عائشة من معاملة وصفتها بـ “السيئة” تلقتها من محمد بعد الإفراج عنه “كان لا مبالياً. يجلس في المنزل دون عمل، ولا ينام إلا دقائق قليلة، وجهه مقطب ولا تفرج شفتاه عن ابتسامة ولا يتحدث إلا نادراً”، ما دفع عائشة بعد ثلاثة أشهر لطلب الطلاق الأمر الذي قابله محمد بسرقة مسدس من أحد أقاربه وقتلها قبل أن يقبض عليه وهو يفر متجهاً نحو مدينة عفرين، ليعود إلى السجن من جديد.
لم تكن تلك نهاية متوقعة لحب كبير يكنه محمد لعائشة ويتحدث عنه كل من عرفهم قبل اعتقاله، إلا أن تغيرات كثيرة طرأت على حياته بحسب من تحدثنا معهم وأرجعوها لظروف الاعتقال التي عاشها، وما تركته من أثر نفسي على سلوكه.
آثار نفسية وغياب لمراكز التأهيل
تفترض دراسات ومنها “تأثير التعذيب على الصحة النفسية للأسرى الفلسطينيين المحررين” والتي تعتمد على دراسة نفسية للمعتقلين الفلسطينيين ومصادر أبحاث كتبت في دول أمريكا وأوروبا عن معتقلين خرجوا من السجون أن “نظرة الضحايا -المعتقلون المحررون- للعالم لم تعد ثابتة، إنهم لا يستطيعون افتراض العالم مكاناً جيداً أو أن الناس الآخرين هم ذوي أخلاق ويمكن الثقة بهم”. كذلك تظهر عندهم “نظرة سلبية عامة للذات، فقدان الأمل، تفسير سلبي للعوارض، تذنيب الذات، ضعف الثقة بالآخرين”.
ويرتبط ما عاشه المعتقلون داخل السجون بسلوكهم خارجه، خاصة مع غياب العيادات النفسية ومراكز التأهيل الخاصة لمساعدة الناجين من المعتقلات على التخلص أو تخفيف الآثار النفسية التي سببها الاعتقال والتعذيب.
تقول دكتورة علم النفس “أمل الحمصي” إن الأمراض النفسية تتراكم داخل المعتقل كالقلق والاضطراب النفسي والأرق. ومن الممكن أن تؤدي مدة الاعتقال الطويلة إلى صعوبات بالذاكرة والرهاب والوسوسة والهلوسة والاكتئاب.
وقد رصدت “الحمصي” أهم الأمراض التي يعانيها السجناء فوجدت أن التعذيب النفسي وانتظار الموت والحبس الانفرادي ومشاهدة أو سماع أصوات التعذيب يصيب الناجين من المعتقلات بتوتر ما بعد الصدمة. لذلك يعانون من عدم الاندماج وعدم التأقلم بسبب المدة التي قضوها في السجن وما شاهدوه من أهوال.
لم أعد أعرفه
في كل ليلة يجتمع الجيران على صراخنا، تروي هيفاء زوجة عمر الذي اختفى على الحدود اللبنانية قبل أن يتبين اعتقاله في سجن صيدنايا.
“لقد تغير كلياً، لم أعد أعرفه منذ خروجه من السجن، كنا نعيش حياة هادئة ولدينا خمسة أطفال كان دائم العناية بهم، إلا أن ذلك كله تغير. بات يضربني كل ليلة بقسوة، غير آبه بصراخي وأطفاله ولم المقربين منه، خاصة وأني دفعت كل ما أملك لأخرجه من المعتقل”.
تقول هيفاء إنه يرفض منحها الطلاق، لكنها غير راغبة بالعودة إليه، هو اليوم لا مبال بحياتنا، دائم الغضب، لا يسأل عن أطفاله إلا في حال التقاهم مصادفة بأحد الشوارع، كما أنه تزوج من امرأة ثانية دون سبب.
يكفي أنه يعيش بيننا
أم أحمد (زوجة معتقل قضى ثلاث سنوات في سجون النظام) تقول إن زوجها ومنذ خروجه من المعتقل وقد فقد قدرته على السير دون مساعدة أحد أبنائه أو عكازيه، دائم الشكوى من التعذيب الذي تعرض له.
تخبرنا إنه يستيقظ في كل يوم “مرعوباً” تصاحبه الكوابيس، يتحدث عن التعذيب وضحكات السجانين، تؤلمه حروق قديمة بقيت ندبها على جسده، ويعيد تكرار إدخاله إلى غرفة تمتلئ بجثث المعتقلين، والجملة التي ترافقه “ستتمنى أن تكون مثلهم!”.
تغير أبو أحمد، تقول زوجته وهي تتحدث عن حياة مختلفة عما ألفته بجواره خلال سنوات زواجها، ولكنها تكتفي بوجوده بقربها وأبنائها، تقول “يكفينا أنه بيننا الآن أياً يكن ما طرأ على حياتنا من تغيير”.
لا تعيدوهم إلى ذاكرة المعتقل
تقول زوجات لمعتقلين تحدثنا معهم إن “فتح جراح الذاكرة” من قبل الراغبين بمعرفة ما يحدث في المعتقلات يزيد من “تأزم الحالة النفسية لأزواجهن”، وينعكس سلباً على حياتهن الشخصية أيضاً.
وتخبرنا أم أحمد إن حالة زوجها تزيد سوء في كل مرة يستعيد فيها قصته، تقول “إن الناس يعتبرون ذلك مجاملة أو فضولاً دون أن ينتبهوا لما ستتركه هذه الأسئلة من مشكلات لزوجها وعائلتها”، كذلك تحدثنا قريبة عائشة إنها كانت تنقل لها “زيادة انفعال زوجها محمد في كل مرة يودعه أحد الزائرين”.
طفل يتيم وأب سجين من جديد
دفنت عائشة بعد قتلها من قبل محمد، تقول قريبتها إن طفل عائشة كان يركض خلف نعشها باكياً ويطلب من حامليه أن “يعيدوها أو يأخذونه معها”، في الوقت الذي ينتظر فيه محمد هذه المرة محاكمة على جرم ارتكبه، لا اعتقالاً دون وجه حق.
يروي قريب محمد قصة اعتقاله وتعذيبه خلال رحلة أمضاها في معتقلات كثيرة لمدة ثمانية سنوات ونصف السنة تاركاً خلفه زوجته وطفلاً لم تبزغ أسنانه بعد، يقول “إن محمد أخبره بمروره بعدة سجون وأفرع أمنية من إدلب المركزي حتى حلب وصيدنايا وأخيراً سجن السويداء، إضافة للأفرع الأمنية، وإنه تعرض للتعذيب فيها جميعاً رغم اعترافه بكل ما طلب منه”.
“عُلق محمد بسجن صيدنايا من يديه وقدميه على عمود وضرب على جسده كله دون رحمة، طلب منه السجان أثناء التعذيب أن يصرخ بأعلى صوته ليزيد الضرب عليه ويستلذ بصراخه، عدا عن الدولاب والمنفردة وغيرها من أساليب التعذيب المتبعة بسجون النظام”.
خرج محمد بأحد مراسيم العفو ليلتحق بعائلته التي هجرت قسرياً إلى مخيم في مدينة الباب (شرقي حلب)، ليعود بعد مدة قصيرة إلى قريته شبه الفارغة من سكانها، قبل أن يقتل عائشة ويدخل السجن في مدينة عفرين.
يترك أمر محاكمة محمد حسب تقدير المحكمة في عفرين وظروف الدعوى وتصل عقوبة القتل العمد مع وجود نية إجرامية حسب المحامي “أحمد عبد المجيد” لحكم الأشغال الشاقة المؤبدة وسجن لمدة تتراوح من ٧ إلى ١٥ سنة. وبحال أثبتت لجنة الفحص الطبي وجود اضطرابات ذهنية أو نفسية مع محمد يصدر حكم مخفف بحقه وفق قانون العقوبات السوري.
تختلف الآثار النفسية التي تسبب بها التعذيب في معتقلات النظام، بين شخصية وأخرى، وكذلك نوع ما تعرض له السجين، إضافة لعمره وحالته الثقافية، وعلى الرغم من تغيرات كبيرة في سلوك بعض الناجين من المعتقلات إلا أن ناجون آخرون استطاعوا التغلب على ظروف اعتقالهم ليعيشوا حياة هادئة، ويتفق الجميع على ضرورة إيجاد مراكز خاصة لمساعدتهم على تجاوز ما يعيشونه وإعادة اندماجهم في المجتمع وتعزيز ثقتهم بذاتهم وبمن حولهم.