في وسط بلدة زردنا شمال شرق إدلب يقابلك دكان قديم بواجهة زجاجية يجلس خلفها مصطفى الفج أبو أحمد يمارس مهنته في الخياطة اليدوية منذ نحو خمسة وعشرين عاماً.
يعرض على واجهة محله قطع الملابس التي خاطها مؤخراً لتجذب الزبائن العابرين أمام محله، حيث يخطو الزائر عدة درجات ليصل إلى المحل المليء بقطع قماش متباينة الألوان ومرتبة بأناقة.
على الجدار المقابل عُلقت ثياب رجالية تنتظر أصحابها لاستلامها، وفوق الرفوف الخشبية تتوزع خيوط بألوان وأحجام مختلفة. بالقرب منها برطمانات ضمت أنواعاً وأحجاماً مختلفة من الأزرار و “مكوكات” خياطة تناسب ألوان الأقمشة.
يجلس أبو أحمد خلف ماكينته ممسكاً بيده مقصاً وعلى عنقه “ميزورة” قياس، وتتناثر حوله أقمشة و ملابس أنهى حياكتها وأخرى مرتبة على الرفوف وتنتظر دورها.
تعلمها وحيداً ويعلمها لأولاده
تعلم أبو أحمد مهنة الخياطة اليدوية بعد انتهائه من دراسة الهندسة المدنية والتي لم توافق تطلعاته التي كان يحلم بها بدراسة الطب، فبدأ عمله على ماكينة بسيطة وبتشجيع من والده دون أن يتدرب عند أي خياط على غرار زملائه الآخرين.
ساعده حبه للمهنة في المثابرة عليها وتعلمها، إذ عمل لفترة طويلة على تصغير الثياب القديمة وإعادة تصميمها حتى تمكن بشكل جيد من المهنة، ليبدأ بخياطة الملابس الرجالية (قميص، بنطال، جلابية) متماشياً مع الموديلات الحديثة التي كانت تطلب من قبل زبائنه في كل فترة، يساعده في المحل أخوته وأولاده ليعلمهم المهنة التي أحبها والتي يرى أنها قد تؤمن لهم فرصة عمل جيدة في المستقبل.
تتراوح الأجور التي يتقاضاها أبو أحمد على خياطة الثوب بين أربعة إلى خمسة دولارات، في حين يتقاضى أربعة دولارات لحياكة البنطال وثلاثة دولارات لخياطة القميص، لكن في حال قرر الزبون اختيار القماشة من محل أبو أحمد فستختلف الأسعار وقد تصل تكلفة الثوب لستة عشر دولاراً بشكل وسطي بحسب نوع القماشة، والتي يتوفر منها عدة أصناف كالهندي والصيني ويتراوح سعر المتر منها ما بين دولارين لثلاثة دولارات، في حين قد يصل سعر متر الجوخ لخمسة عشر دولاراً، و يبلغ سعر متر القماش المستعمل في خياطة القمصان دولارين وأكثر أنواع القماش المتوفرة هي الأندنوسي والتركي والكوري.
الخياطة اليدوية المشغولة بحب
يأخذ أبو أحمد مقاسات الزبون ويقوم أحد أولاده بتسجيلها على دفتر مقاس يضم مئات الأسماء التي مرت على هذا المحل، ثم يختار موديل القصة التي اختارها الزبون ويبدأ بعدها برسم القصة على القماشة بشمعة ملونة، قبل أن يمسك مقصه بحذر ويبدأ بالقص، ثم ينتقل لحياكة أطراف القطعة التي قصها حتى لا تتبعثر أطرافها مما يؤثر على المقاس الذي اختاره.
وبعد الانتهاء من الحبكة تنتقل القماشة إلى الخياطة لتبدأ عملية وضع الأزرار والسحاب وكيّ القطعة التي انتهى منها وتعليقها.
تواجه مهنة الخياطة اليدوية صعوبات دفعت العاملين بها لرفع أجورهم، مثل ارتفاع أسعار المحروقات والتي يعتمد عليها الخياط بشكل كبير لتشغيل المولدات التي يحتاجها لتشغيل مكنات الخياطة ومكواة الملابس.
يرى أبو أحمد أن انتشار الملابس الجاهزة لم تؤثر على عمله فلكل سوق زبائنه، لذلك لم يلحظ تراجعاً في إقبال الزبائن على محله. إلا أن محلات كثيرة للخياطة اليدوية أقفلت أبوابها، خاصة في المدن الرئيسية كدمشق وحلب، ولم يتبقى فيها سوى أعداد قليلة من ممارسي هذه المهنة.
ويرجع ذلك إلى تعلق بعض الزبائن وخاصة كبار السن بلبس الثوب الرجالي، ويرغبون دائماً باختيار لون القماشة وموديل القصة حسب مزاجهم، ولا تستهويهم الألوان المطروحة في الأسواق، وهذا ما يدفع أبو علي وهو رجل ستيني لزيارته سنوياً لتفصيل ثوب شتوي بقماشة سميكة يواجه بها ليالي إدلب الباردة.
يخالفه الرأي “أبو محمد” الذي وجد الجلابية الجاهزة أوفر لأن الخيارات أمامه متاحة أكثر وقد تجد أثواباً بأسعار مناسبة تبدأ بعشرة دولارات وترتفع بحسب نوع القماش.
يقول محمد جمعة يسوف إن أبا أحمد يخيط الملابس الرجالية منذ زمن ولديه القدرة على خياطة كل ما يطلبه الزبائن وتصميم موديلات حديثة تتماشى مع التراث الذي نحبه.
دماثة خلق أبو أحمد وتعامله الجيد مع زبائنه والتزامه بمواعيد التسليم جعله من الشخصيات المحبوبة لدى أهالي البلدة الذين خبروا مهارته في المهنة وأسعاره المناسبة.