فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

واحدة من المدارس في إدلب -فوكس حلب

أيلول “المدارس” الأسود في سوريا

مصطفى أبو شمس

ليست تلك الفقرة سياسية ولم تجر أحداثها في الأردن، أيلولنا الأسود عند كل استحقاق سوري علينا أن ندفع ثمنه ويأسه من جيوبنا وحياتنا، يسبقه آب الأسود شهر المؤن، وأشهر العيد السوداء، وتشرين الأسود الأول والثاني أشهر الوقود والألبسة الشتوية، وكوانين غرق المخيمات وتموز القيظ.

أفتح “المساحة العائلية” الخاصة بي في فرنسا عبر الانترنيت لأتلقى عشرات الإيميلات حول تنظيم دخول أطفالي إلى المدرسة، بدء الدوام، التسجيل في المطعم، الاحتياطات التي يجب اتباعها للوقاية من فايروس كورونا، بعض النصائح والإرشادات..

لا يوجد ألبسة معينة يُفرض ارتداؤها في المدارس هنا، ولست بحاجة لـ “جمعية” يتقاتل على أدوارها الأهالي للحصول على النقود التي سيتم دفعها خلال سنة كاملة لشراء القرطاسية التي يتفنن كل مدرس بطلبها من الطلبة، ليس هناك أيضاً رسوم على “شكل تعاون ونشاط”، ولا خوف من تأمين “المازوت” اللازم للمدافئ وتصليح النوافذ المكسرة.

داخل الغرف الصفية ليس عليك أن تقلق وتتوسط للإدارة ودوائر التعليم ومديرياتها ووزارتها ليجلس طفلك في مقعد لا يكون فيه أربعة تلاميذ، أو في الصف الأمامي إن كان يعاني من نقص في درجات البصر أو السمع، لكل طفل هنا ضمن نصف قوس مقعد يجلس فيه أو يتنقل بين الألعاب غير آبه بعصا المدرسة التي لا تحملها مطلقاً، ولا يعيها أي من أطفالنا.

خارج الغرفة الصفية شماعات لا لتعليق الأخطاء المتراكمة في المناهج والخطة الدرسية، يكتفي الآباء بوضع حذاء أطفالهم داخل أكياس وواقياً من المطر ومظلة تحت “العلاقة” التي تحمل صور أطفالهم وأسمائهم التي كتبوها بأنفسهم.

المعلمون ينتظرون الأطفال حتى قدومهم، هناك ابتسامة، ليس من المهم أن تكون نابعة من القلب أم لا، هي ابتسامة يشعر فيها الطفل بأن هذا المكان جزء من بيته. على الباب تخبرك المعلمة عن طفلك وتستمع منك حوله أيضاً.

واحدة من المدارس في فرنسا -إنترنيت
واحدة من المدارس في فرنسا -إنترنيت

على فترات متلاحقة تقوم المدرسة بتزويدك بسيرة حياة طفلك، جميعها مصورة، نشاطاته، رسومه السيئة والجيدة، ألوانه، حروفه المتعثرة والصحيحة، ابتسامته ولعبه وحزنه، جميعها معاً في ملف واحد عليك إعادته بعد رؤيته، وستحتفظ به المدرسة لطفلك ريثما يصبح شاباً، عندها يستطيع الاحتفاظ بنفسه أو رميها كيفما يريد.

تلك مقدمة طويلة ومملة، أرجو منكم أن تعذروني لمخالفتي شروط الصحافة، ولم أرد منها المقارنة أو إثارة الغيرة والغبطة لدى أحد، سوى نفسي، وسأبدأ تقريري من جديد.

مقدمة أولى

يدخل أيلول السوري هذا العام رفقة جوائح كثيرة، أولها انتشار فايروس كورونا في سوريا وضعف القدرة على الحد منه أو التزام الحجر المنزلي، كذلك فشل تجربة التعليم الذاتي التي طرحت كبديل في مختلف دول العالم، وقلة الغرف الصفية بعد تهدم مئات المدارس بفعل القصف، والمقاعد المدرسية والكتب، وارتفاع في أسعار الألبسة المفروضة من قبل وزارة التربية والتي رفضت التخلي عن وجودها تحت طائلة العقوبات، والقرطاسية التي يعادل ثمنها لكل تلميذ راتب والده لشهرين على الأقل.

مقدمة ثانية

يدخل أيلول السوري في مناطق المعارضة السورية رفقة جوائح كثيرة، تشبه ما أسلفناه في المقدمة الأولى مع فارق بعدم إلزام الأطفال باللباس المدرسي، كذلك في العقوبات التي لا يمكن تطبيقها، مع احتمالية عدم البدء بالعام الدراسي بعد توقف ثلثي الدعم المقدم للمدارس في هذه البقعة الجغرافية بحجة التعاون مع “الإرهاب”.

تعرض المدارس للقصف في إدلب -إنترنيت
تعرض المدارس للقصف في إدلب -إنترنيت
تنويه ١

هناك خلاف في الجوائح بين إدلب ومديريتها التي ينطبق عليها ما سلف، والمديريات الكثيرة في شمال وشرق سوريا التي تنتظم ضمن إدارة التربية التركية، يضاف إلى الأخيرة صور جديدة للقائد والعلم والجلاء المدرسي واللغة التركية وضمان راتب المعلمين، وعليه فإن عاماً دراسياً قادماً في هذه المنطقة، وعلينا أن نشكر الله على نعمة “الأتراك”.

تنويه ٢

في مناطق الإدارة الذاتية جوائح تشبه إلى حد ما كل ما ذكرناه مع بعض الاختلاف في شخصية القائد والمناهج واللغة، واعذروا جهلي بهذه القصة وعدم تتبعي لها جيداً، وبإمكانكم أن تعتبروا ذلك نقداً ذاتياً إن أردتم ذلك، وسقطة للتقرير سأتقبلها برحابة صدر.

بين مدرستين
مدرسة ناصر الذين بعد تعرضها للقصف -إنترنيت
مدرسة ناصر الذين بعد تعرضها للقصف -إنترنيت

في مدرسة ناصر الدين ضمن مخيم حندرات، وهو مخيم للاجئين الفلسطينيين في حلب، والتي لا تبعد سوى كيلو مترات قليلة عن مدارس حلب، كانت الأونروا تدعم الطلاب هناك طيلة عقود، وكان اللباس المدرسي إلزامياً مع شيء من التفلت بخصوص ثلاثة أشياء فيه، “بوط الفتوة -الشواطات -السداره أو الطاقية”، سأخبركم فيما بعد عن قصة الشواطات.

الغرف الصفية غير مكتظة، المقاعد وافرة وجديدة، الوسائل التعليمية، الحمامات والتدفئة، مجلات الحائط، المخبر الحديث، الجدية في التعليم، الجدية التي رأيناها في وقتها كطلاب ظلماً وقسوة، وتراجعنا عن نظرتنا تلك بعد أن اعتدنا أن القسوة وحدها من تصنعنا، وتراجعنا مرة أخرى اليوم ونحن نرى أطفالنا سعداء في مدارسهم دون الحاجة لتلك الملامح القاسية والابتسامات الغائبة.

الضرب أيضاً كان سمة من هذه السمات التي نعترف بوجودها ودفاعنا عنها بعد أن أصبحنا آباء، كانت العصي ملح الحياة في المدرسة، أحد المعلمين الذي أعترف بفضله دوماً، كان يملك اثنتان، إحداهما للتقصير بالدروس وكتابة الوظائف، والأخرى للإساءة الأخلاقية والكلام البذيء، الأخيرة كان يطلق عليها “الغاضبة”، وفي كل مرة كان يشرح أستاذنا السبب في الفرق بين لوني هذه العصى، فمكان يده حافظ على بياضه، أما مكان سقوطها على أيديها فيميل للون البني الغامق، هو الفارق بين أخلاقنا وأخلاقه، وتربيتنا وتربيته، وقذارة تصرفاتنا كمسيئين ونبل سلوكه كمدرس.

محسود من يقبل في مثل هذه المدارس التي لا يزيد عددها في سوريا عن العشرات، وتضم الطلبة حتى إنهاء المرحلة الإعدادية، لتبدأ رحلتنا في الثانويات العامة، وكأننا أتينا من “المغترب”.

الطلاب الذين لم يكونوا ضمن هذه المدارس كانوا قد ألفوا ما لم نعرفه، مقاعد مكتظة بالطلبة، غرف صفية ضيقة بوسائل تعليمية نادرة، عقوبات جماعية تحت ما يطلق عليه “التدريب العسكري”، الكنزة البنية الغامقة ذات اللون الأخضر تحت بزة الفتوة، بوط الفتوة أيضاً، السدارة العسكرية التي يكتب عليها اسم الطالب تجنباً لسرقتها وضياعها، والوجوه القاسية، أما العصي فنجتمع كلنا تحت سقفها، ضمن مبدأ “اللحم الك والعظم النا”، وكأن لحمنا ليس ملكنا نحن، هو ملك كل من يريد التجريب بتربيتنا وانتقادها.

أعداد هائلة من الطلاب في مدارس بدوامين غالباً، ليلي ونهاري، ومعلمون يعملون ما بوسعهم ضمن ما اعتادوا عليه من أساليب دون تطوير لها، وإدارة مدرسية دافئة بأعلام وصور للقائد والبعث، والكثير من فناجين القهوة، وموجهون جاهزون للانقضاض عليك، يملكون “صفارة” لإدارة ملعب الدراسة، وعصا باليد الأخرى، بعضهم بدلها بـ “خرطوم” لم أذق طعمه يوماً.

تغيب المساحة الخضراء في هذه المدارس “الحكومية” إلا من بعض الشجيرات نادراً، ويحتلها الإسفلت أو الاسمنت، بأبنية طابقية، ويتصدرها دوماً اسم شهيد لا نعرف عنه سوى اسمه الذي يرتبط بسيرتنا الذاتية مدى الحياة.

مع بدء الدراسة ارتفاع أسعار القرطاسية -إنترنيت
مع بدء الدراسة ارتفاع أسعار القرطاسية -إنترنيت
تنويه 

نصف المدارس السورية دمرت كلياً أو جزئياً بفعل القصف، بعضها تحول لمنازل للنازحين، قسم آخر تحول إلى مقرات عسكرية

مدارس أخرى

تقارير مختلفة يحكي أصحابها في مناطق النظام عن تحول جزء من المدارس إلى مراكز إيرانية للتشيع، كذلك يتحدث آخرون عن تراجع التعليم في هذه المدارس لأسباب عديدة، منها قلة المدرسين وغياب الوسائل التعليمية نهائياً، وقلة عدد الكتب المدرسية وضعف الرقابة والمتابعة، وتخلي عدد كبير من الأهالي عن إرسال أطفالهم إلى المدارس نظراً للظروف الاقتصادية التي يعيشونها.

في المقابل فإن المدارس في مناطق المعارضة تئن تحت وطأة غياب الدعم، وتخلي المعلمين عن واجباتهم بعد توقف رواتبهم، وتحول كثير من الخيام إلى مدارس بظروف قاسية، والأهم من ذلك غياب الطموح لدى الطلاب بالحصول على شهادة يعترف بها وتمكنهم من العمل ضمن اختصاصاتهم لاحقاً.

أيلول الأسود

ليست تلك الفقرة سياسية ولم تجر أحداثها في الأردن، أيلولنا الأسود عند كل استحقاق سوري علينا أن ندفع ثمنه ويأسه من جيوبنا وحياتنا، يسبقه آب الأسود شهر المؤن، وأشهر العيد السوداء، وتشرين الأسود الأول والثاني أشهر الوقود والألبسة الشتوية، وكوانين غرق المخيمات وتموز القيظ.

إلا أن لأيلولنا الأسود مكانه الأكبر في همومنا، إذ يضيع بمروره كل عام جيل كامل، ويقف في منتصف كل شيء، فلا هو عاش ما ألفناه رغم قسوته ولا استطاع تغييره، ينتظر فرصة ليكون طالباً في أيلول هذا، يمر على واجهات المحال ليختار أقلاماً ملونة وحقيبة مدرسية ليس عليها علامة “الإغاثة”، يبحث عن لباس بألوان يحبها لا بين البسطات والثياب القديمة عن بزة قديمة ترتقها والدته وتقصرها ليتمكن من ارتدائها، عن كتب جديدة بورق يملك رائحة، لا أن يتقاسم مع أصدقائه كتاباً واحداً حلت جميع مسائله، وملأه من قبله بمئات العبارات التي ستبدو “مسلية” عند اكتشافها، وأنت خارج التفكير بالمستقبل