فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

ما يشبه المخيم أقامه البدو بالقرب من جبل الشيخ بركات -فوكس حلب

البدو الرحل نازحون بلا حقوق أو مساعدات

ٲسامة الشامي

يقطع البدو مسافات طويلة على الأقدام، يمنعهم سعر الوقود المرتفع من تحريك سياراتهم المخصصة لنقل الأغنام، يقولون إن كل شيء حولهم يحاصرهم، هم يتنقلون في مساحات ضيقة ويعيشون بعيداً عما ألفوه من أمكنة ومناخ ويمنعون من التنقل في رحلاتهم الصيفية والشتوية رفقة قطعانهم، يأكلون خبز الأفران ويطالبون بالمعونة والمساعدة ويبيعون آخر ما يميز حياتهم يوماً بعد آخر، بينما يتجاهلهم الجميع ويتركونهم لقدرهم.

يلتزم معظم البدو الرحل في سوريا بالتنقل بين المناطق بحثاً عن المراعي، ومع الواقع العسكري المفروض، وسيطرة قوات الأسد على مناطق واسعة في أرياف إدلب (الشرقية والجنوبية) وريف حماه، وجدوا أنفسهم في مناطق محصورة وانتقلوا للحياة في مناطق جبلية جرداء، بدلاً من السهول الخصبة، ما أدى لخسارتهم أعداداً كبيرة من مواشيهم، رافق ذلك إهمال لهذه الفئة من قبل المنظمات الإنسانية وإيجاد مشاريع تساعدهم على البقاء، أو تقديم المساعدات الغذائية لهم، وذلك للصورة النمطية التي يعيشون داخلها كونهم يسكنون “بيوت الشعر” ويتنقلون ويعتمدون على المواشي في رزقهم، وهو ما أبعدهم عن دائرة الاهتمام، باعتبارهم لم يتأثروا بظروف الحرب!

بيت شعر للبدو بالقرب من جبل الشيخ بركات -فوكس حلب
بيت شعر للبدو بالقرب من جبل الشيخ بركات -فوكس حلب

يقول أبو محمد العزام، وهو واحد من البدو الذين يعيشون اليوم في “بيوت شعر” منصوبة على تلة قرب جبل الشيخ بركات، فيما يشبه المخيم إن حياتهم اليوم تغيرت بشكل كامل عنها في الماضي، ولم يبق منها سوى سكنى الخيام، خاصة بعد فقدانهم للمراعي وحرية التنقل الذي تسبب بنفوق أو بيع معظم مواشيهم.

ويخبرنا العزام أنه خسر نحو ٨٠٪ من مواشيه، مصدر رزقه ورزق من يعيشون حياة البدو كافة، بعد أن باعها لعدم توفر المراعي، ولتأمين نفقاته ومصاريف عائلته، يملك العزام اليوم خمسين رأساً من الغنم، ويعتبر من المحظوظين مقارنة بغيره، بينما كان عدد قطيعه قد وصل إلى ثلاثمئة قبل تهجيره من ريف إدلب في العام الماضي.

الكلفة ضعفا الإنتاج

تمثل أشهر الصيف والحصاد الموسم الأهم للبدو، وذلك لاتساع المراعي بعد حصاد الحقول وضمانها من أصحابها، إلا أنهم اليوم يعيشون أسوأ أيامهم، بحسب من التقيناهم في أرياف إدلب وحلب، يقول العزام إن معظمهم يعتمد على شراء العلف لإطعام قطيعه، وهو ما يكبدهم خسائر كبيرة يشرحها بالمثال التالي، يحتاج القطيع المكون من خمسين رأس من الماشية إلى ثلاثة أطنان من العلف، ومثلها من “التبن” خلال شهر واحد، ويبلغ سعر طن الشعير نحو أربعمئة ألف ليرة، والنخالة ثلاثمئة وستين ألف ليرة، والتبن بين مئة وعشرين ألف (الأبيض) ومئتين وخمسين (الأحمر).

معالف لمواشي البدو بعد فقدان المراعي -فوكس حلب
معالف لمواشي البدو بعد فقدان المراعي -فوكس حلب

وبحساب بسيط فإن هذا القطيع يحتاج لنحو مليون ونصف المليون شهرياً، على أقل تقدير، وهو ما دفع قسم كبير منهم للتقنين في الطعام واستبدال الأنواع الجيدة من التبن الأحمر “عيدان الحمص والعدس”، بالأبيض “عيدان القمح والشعير”.

ولا تقتصر الكلفة على الطعام، يقول أبو راتب (بدوي آخر)، بل تحتاج الماشية لعلاجات ولقاحات دوائية بشكل مستمر، وقدرها بنحو سبعين ألف ليرة شهرياً، خاصة إن كانت أمراضاً معدية، ويخبرنا بأنه خلال الشهر الحالي دفع نحو اثنين وسبعين ألف ليرة ثمن دواء لمرض “الباستريلا” ويعني “أنفلونزا الأغنام” الذي تفشى في القطيع.

قطيع من الماشية للبدو -فوكس حلب
قطيع من الماشية للبدو -فوكس حلب

الغذاء العلفي والتقنين بكمياته وأنواعه وحرمان الماشية من المراعي تسبب بانخفاض إنتاجها للحليب، يقول من تحدثنا منهم إنه أمر عرفوه وخبروه، فـ “توفر المراعي يزيد من إدرار الحليب، بينما يعمل العلف على تسمينها للبيع والتجارة، وهو ما لا يدخل في ثقافة البدو”.        مواشي أبو راتب انخفض انتاجها من عشرين لتراً في العام الماضي إلى ثلاثة حالياً، ويرجع السبب لطبيعة المراعي فيما يطلق عليه “رحلة التغريب”، إذ اعتاد البدو على التوجه غرباً في مثل هذه الأوقات إلى سهلي الروج والغاب، طلباً لمراعي القمح وحقول الشمندر والفستق السوداني، والتي كانوا يحصلون فيها على حق الرعي مقابل مبالغ بسيطة، وتسهم بزيادة الإنتاج مقابل كلفة قليلة.

ويبلغ سعر لتر الحليب نحو سبعمئة ليرة أي أن إنتاج القطيع الذي تحدثنا عنه لا يتجاوز ألفين وخمسمئة ليرة يومياً، ويقول صاحبه إن موسم الحليب لا يتجاوز أربعة أشهر ما يعني أنها لن تنتج أكثر من ثلاثمئة ألف ليرة، يضاف إليها  ثمن ما يخلفه القطيع من خراف سنوياً، حيث تباع تلك المواليد بحسب عمرها ويبلغ ثمن  الذكر منها نحو مئتي ألف في حين يبلغ سعر الأنثى مئة وثلاثين ألفاً.
وبمقارنة الإنتاج بالتكاليف يتكلف البدوي ضعفي ما ينتج، ويرى من تحدثنا معهم أن الارتفاع الذي طرأ على سوق الأغنام بعد ارتفاع سعر الدولار لا يتناسب مع ارتفاع التكاليف.

يقول العزام إن الجميع لا يصدقون ما يحصل، فإنتاج قطيعه بالكامل كان يحصل عليه من ثلاثة رؤوس من الغنم سابقاً، وسيتساءلون عن تمسكنا بقطعاننا رغم الخسارة، فـ “لا يمكن لأحد خارج البدو أن يفهم ما الذي تعنيه لنا هذه المواشي، هي باختصار سماتنا وطريقة عيشنا”.

الثروة الحيوانية وخطر الفقدان
فقدان المراعي وحركات النزوح التي أصابت ريف إدلب الجنوبي، والعجز عن تأمين المأوى المناسب للقطعان وارتفاع إيجار الحظائر مناسبة،  دفعت كثيراً من البدو الرحل لبيع جزء من قطعانهم للاستفادة من أسعارها في حياتهم اليومية، وهو ما أدى لتناقص أعداد القطعان بحسب ما ذكر أصحابها، الذين أوضحوا أن استمرار هذا الحال سينهي القطعان،  كما هو الحال لدى عبد الله السيد الذي بقي لديه أربعة رؤوس فقط، من أصل مئة رأس، أبقاها لمؤونة عياله من الحليب ومشتقاته، ومثله أخيه طاهر الذي بقي لديه  خمسة رؤوس، وقدر لنا الذين تحدثنا معهم أن البدو خسروا أكثر من ثلثي قطعانهم خلال السنتين الماضيتين.
في الوقت نفسه يرى من التقيناهم أن أحوال مهجري البدو الذين دخلوا لمناطق عفرين وريفي حلب الشمالي والشرقي أفضل بكثير من الذين بقوا في إدلب، وذلك لتوفر مساحات أوسع من المراعي، وإنهم ما زالوا يحافظون على معظم مواشيهم.

قطعا

ولا يسمح للبدور الرحل بنقل قطعانهم إلى هذه المناطق، بعد أن أصدرت حكومة الإنقاذ قراراً يفيد بذلك، بحجة الخشية من تهريب هذه المواشي إلى مناطق قوات سوريا الديمقراطية أو النظام، ويخبرنا من التقيناهم أنهم فشلوا بإقناع الحكومة بالعدول عن قرارها والسماح لهم بالبحث عن المراعي، مؤكدين أنهم لن يبيعوها ولكنهم يريدون فقط إطعامها للمحافظة عليها وعلى حياتهم.

“كيف يمكن أن تحبس بدوياً عاش حياته متنقلاً، وكيف يمكنك أن تحرم قطيعاً من المراعي”، يقول من تحدثنا معهم، فإن كانت الحكومة ستفرض قراراً غير مدروس فهي بالتالي تتسبب بموت قطعاننا، والذي سيسهم في زيادة فقرنا وعوزنا بعد خسارة مصدر رزقنا الوحيد.

ويطالب من تحدثنا معهم الحكومة والمنظمات المعنية بإيجاد حلول سريعة لمساعدتهم وإغاثة قطعانهم، إن لم يسمحوا لهم بالتنقل، وذلك من خلال مشاريع داعمة للمواشي، تخدمها بالعلف والأدوية، إذ تفتقد المنطقة لأي مشروع ويتجاهل الجميع ما ألت إليه أحوالهم، لافتين إلى أن هذا التجاهل سيؤدي لانقراض الثروة الحيوانية من المواشي لدى أهم شريحة من مالكيها (البدو).

مُهمَلون على طوابير الإغاثة

تتجاهل معظم المجالس المحلية والمنظمات الإنسانية البدو من قوائم الإغاثة، ولا يعاملون كنازحين وذلك لنمط حياتهم القائم على الترحال والسكن في الخيام، وهو ما يعني في فهمهم أن شيئاً لم يطرأ على حياتهم بفعل المعارك والقصف، ويستثنونهم من الخدمات والسلل الغذائية والنظافة، باستثناء بعض الجمعيات التي تؤمن لهم المياه، يقول مهنا الدخيل “كنا سابقاً لا نلتفت للإغاثة، ولا يلتفت أصحابها لنا، ونخجل منها، ونعتبرها شيءً معيباً، ومن غير المقبول عندنا أن نتتبع السلة، ونقف على طوابيرها، أما الآن فقد أصبحت ضرورة نحتاجها ولا تصلنا”.

غالبية البدو يعتبرون الرعي مهنتهم الأساسية وليس لديهم أي مهنة أخرى يعيشون منها، وبتراجعها وكلفتها العالية بات معظمهم يحتاج للمساعدة لتأمين قوت يومه.

الموقد الذي يستخدمه البدو في الطهي -فوكس حلب
الموقد الذي يستخدمه البدو في الطهي -فوكس حلب

تقول أم جابر (وهي سيدة من البدو تعيش بريف حلب) إنها ومن مثلها من نساء البدو يعتمدون على “الكرس” المصنوع من روث الحيوانات لتأمين الوقود اللازم للطهي في خيامهم، إضافة للحطب الذي يجمعونه من الأراضي، ومع تراجع أعداد الماشية لم يعد ذلك الوقود مؤمناً، بينما يرفض معظم أصحاب البساتين منح الحطب للبدو دون مقابل، كما في السابق.

"الكرس" وقود النار عند البدو -فوكس حلب
“الكرس” وقود النار عند البدو -فوكس حلب

كذلك غاب “خبز الصاج” الذي رافقهم طيلة حياتهم، بسبب غلاء الطحين والحطب، إذ يبلغ سعر كيس الطحين نحو أربعين ألف ليرة، وأصبحت كلفة خبز الصاج أعلى من خبز الأفران، وهو ما دفعهم للاعتماد على الأخير الذي لم يألفوه سابقاً.

يقطع البدو مسافات طويلة على الأقدام، يمنعهم سعر الوقود المرتفع من تحريك سياراتهم المخصصة لنقل الأغنام، يقولون إن كل شيء حولهم يحاصرهم، هم يتنقلون في مساحات ضيقة ويعيشون بعيداً عما ألفوه من أمكنة ومناخ ويمنعون من التنقل في رحلاتهم الصيفية والشتوية رفقة قطعانهم، يأكلون خبز الأفران ويطالبون بالمعونة والمساعدة ويبيعون آخر ما يميز حياتهم يوماً بعد آخر، بينما يتجاهلهم الجميع ويتركونهم لقدرهم.