فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

الصورة من الإنترنيت

مصابو الحرب في الشمال السوري.. مصائر مؤلمة تفتقر للدعم

فاطمة حاج موسى

يخبرنا الفارس إنه لم يشعر إلا بصوت الطبيب ينادي عليه كي يصحو، كان المكان يضج بصوت زملائه ونظراتهم المليئة بـ “العطف والشفقة”، على حد وصفه، يقول إنه استيقظ في المشفى “بيد واحدة”، وهو ما دفعه للبكاء.


خلفت المعارك والقصف في سوريا نحو ست وثمانين ألف إصابة حربية تسببت ببتر أحد الأطراف العلوية أو السفلية، بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر في العام ٢٠١٨، ووفقاً لإحصائية نشرها موقع مع “العدالة” في تموز ٢٠١٩، فإن عدد الجرحى تجاوز ٢.٢٣ مليون شخص، بينهم ثلاثمائة ألف شخص تسبب التأخر في علاجهم بإصابتهم بالشلل. بعض هذه الإصابات تلقت دعماً للعلاج أو تركيب الأطراف، إلا أن القسم الأكبر ما زال ينتظر دوره منذ سنوات، ويعيش معظمهم دون رعاية خاصة (مادية أو نفسية)، وبحسب تقرير لوحدة تنسيق الدعم فإن نحو ثلاثة آلاف وثلاثمائة مصاب يعيشون في المخيمات التي تمت تغطيتها بالدراسة (٣٢٠ مخيماً). بينهم ما يزيد عن ألف ومئة مصاب بالشلل.

حلول فردية

سنورد في هذا التقرير قصة ثلاثة أشخاص تعرضوا لإصابات حربية، والظروف التي عاشوها في سبيل التغلب على الإعاقة التي سببتها هذه الإصابات، ورحلتهم في انتظار العلاج دون أن يفلحوا في ذلك حتى لحظة إعداد التقرير، رغم مرور سنوات على إصابتهم.

يحاول أنس العوض، وهو شاب من الغوطة الشرقية تعرض لإصابة برصاصة قناص في عموده الفقري أفقدته القدرة على الحركة والمشي منذ العام ٢٠١٥، الدخول إلى تركيا للبحث عن علاج لحالته، دون جدوى.

أنس العوض -إنترنيت
أنس العوض -إنترنيت

ويروي أنس الذي يستعين اليوم بعكازين للحركة، أنه أصيب في زملكا خلال معركة مع قوات النظام، ليقوم أصدقاؤه بإنقاذه خلال انسحابهم، ويخبرنا أن الرصاصة بقيت في ظهره لأشهر، نظراً للحصار الخانق الذي فرضته قوات الأسد على المنطقة، دخل خلالها إلى عدد من المشافي الميدانية في مدينة دوما للعلاج، قبل أن يخضع لعمل جراحي، ليجد نفسه غير قادر على الحركة بعد استيقاظه.

خمسة أشهر قضاها أنس في فراشه، يقول إنه كان يهرب بالنوم والأدوية المسكنة من واقعه الجديد، إلا أنه اتخذ قراره بالاعتماد على الرياضة والعلاج الفيزيائي في المنزل لاستعادة قدرته على الحركة، “حبوت كطفل صغير، وقفت وسقطت مراراً، وتمكنت أخيراً من المشي بواسطة عكازين”، ليبدأ بمساعدة “أهله وأصدقائه” بالتعايش مع وضعه الجديد، وبتشجيع منهم عاد إلى مقاعد الدراسة ليكون أحد الطلبة في كلية الصحافة والإعلام في أكاديمية الغوطة، قبل أن يجبره التهجير القسري على النزوح إلى مدينة إدلب، والتي حاول فيها إكمال علاجه، دون جدوى، بعد أن صنفت حالته من الحالات الباردة.

يقول أنس إنه سعى لبيع ممتلكاته في الغوطة الشرقية لتأمين مصاريف الدخول إلى تركيا وبدء رحلة العلاج، لكن قوات الأسد حجزت على ممتلكاتهم جميعاً، وهو اليوم طالب في قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الدولية للإنقاذ، والتي نزحت هي الأخرى من معرة النعمان إلى إعزاز، حيث التحق بها العوض وكله أمل بإيجاد مركز للعلاج الفيزيائي لمساعدته، أو تحويله إلى المشافي التركية.

أنقذ محمد الفارس ثلاثة أشخاص من تحت الإنقاض في تلك الليلة من رمضان ٢٠١٦، يقول وهو يصف ما يتذكره وقتها إن غمامة من الرماد حجبت الرؤية نتيجة غارة جوية على مطبعة العالمية في أورم الكبرى، ثم اندلعت الحرائق في المكان.

يروي الفارس وهو أب لأربعة أطفال من مدينة الأتارب، يعمل متطوعاً في فرق الدفاع المدني منذ انشقاقه بداية الثورة عن فوج الإطفاء التابع لنظام الأسد في المنطقة الصناعية بحلب، إنه توجه إلى مكان الضربة خلال يوم استراحته لمساعدة رفاقه بإنقاذ الأشخاص وإخماد الحرائق، وخلال عملهم نفذ الطيران الروسي غارة مزدوجة على المكان تسببت بإصابته وفقد أحد ذراعيه.

يخبرنا الفارس إنه لم يشعر إلا بصوت الطبيب ينادي عليه كي يصحو، كان المكان يضج بصوت زملائه ونظراتهم المليئة بـ “العطف والشفقة”، على حد وصفه، يقول إنه استيقظ في المشفى “بيد واحدة”، وهو ما دفعه للبكاء.

محمد الفارس -إنترنيت
محمد الفارس -إنترنيت

“كل شيء غدا صعباً، الطعام، الكتابة، اللعب مع أطفالي وحملهم إلى الأعلى” يكمل الفارس الذي أجبر نفسه على تقبل وضعه الجديد، يستطيع الفارس اليوم قيادة الدراجة وما زال يعمل في معمل بودرة إطفاء الحرائق ضمن صفوف الدفاع المدني.

يشارك “عبد الله الملحم”، ابن مدينته محمد الفارس ألمه ومصيره، وهو شاب عشريني حمل خلال الثورة السورية كاميرته ليوثق جرائم النظام وقتله للمدنيين، وبعد أسبوع من زواجه خرج الملحم لتوثيق مجزرة في قرية عويجل بريف حلب الغربي، في السابع عشر من تشرين الثاني ٢٠١٦، لكن الطيران الحربي نفذ غارة جديدة على المكان أثناء تواجده ما أدى لإصابته بجروح بليغة أدت إحداها لبتر ذراعه الأيمن بينما امتلأ جسده بالشظايا.

عبد الله الملحم -إنترنيت
عبد الله الملحم -إنترنيت

يقول الملحم إنه تنقل بين عدة مشافٍ في سوريا وتركيا، وخضع لعملية استخراج الشظايا من جسده في مشفى أنطاكيا، لينقل بعد خمسة أيام إلى مستشفى خاص في غازي عينتاب، حيث اجريت له عمليات تطعيم في ذراعه وفخذه بسبب ضياع اجزاء من جسده، وبقي هناك نحو شهرين ونصف الشهر، قبل أن يعود إلى مدينته حاملاً كاميرته بذراع واحدة، ليكمل عمله بشكل تطوعي.

وعن الصعوبات التي تواجه الملحم يقول “فقدت معداتي، واقتصر عملي على بعض الصور الفوتوغرافية ضمن المدينة، وغالباً ما أستعين بأحد الأصدقاء حتى نخرج للعمل معاً خارج المدينة، وأيضا توقف الدعم عن الوكالة التي أعمل بها لذلك اعمل بشكل تطوعي”.

الفارس والملحم لم يستطيعا تأمين أطراف صناعية تساعدهما على الاستمرار في حياتهما وعملهما، بينما ينتظر العوض السماح له بالدخول إلى تركيا للعلاج.
مراكز الأطراف الصناعية عاجزة أمام الأعداد الكبيرة
يتواجد في إدلب عدة مراكز لتركيب الأطراف الصناعية التي قد تساعد المصاب على إكمال حياته بشكل شبه طبيعي، لكن المصاب قد ينتظر لشهور طويلة قبل الحصول على الطرف المساعد.

ويقول عدنان جودي “فني وأخصائي بالأطراف الصناعية والأجهزة التأهيلية” في مركز طيبة للعلاج الطبيعي الذي يتبع لمؤسسة شام للأطراف الصناعية إن المركز يختص بإصابات الأطراف السفلية، ويتم استيرادها من تركيا، إلا أن الأعداد الكبيرة لمبتوري الأطراف وقلة الدعم تجبر المرضى على الانتظار لوقت طويل للحصول عليها، أحياناً يزيد عن سنة كاملة. أما بخصوص الأطراف العلوية فيخبرنا الجودي إن المعاناة أكبر لدى مبتوري الأطراف العلوية، وذلك لعدم توافرها وصعوبة تصنيعها محلياً، وعدم دعم المنظمات الإنسانية لهذا النوع من الإصابات.


يعمل الجودي بالإضافة لعمله في مركز طيبة ضمن مركز خاص بذوي الاحتياجات الخاصة في منطقة كفرلوسين، ويستقبل ضمن المركز جميع الحالات ويؤمن احتياجات المرضى من أطراف، بعد حوالي عشرة أيام، حيث  يختار المريض الطرف الذي يناسبه بحسب إمكاناته المادية، ويتراوح  سعر الطرف ما بين أربعمائة دولار إلى عشرة آلاف دولار بحسب نوعه بالنسبة للأطراف تحت الركبة في حين يتجاوز سعر الطرف فوق الركبة عشرين ألف دولار، وهي مبالغ يصعب على معظم المصابين تأمينها. يخبرنا الجودي أن مصاباً واحداً يزور مركزهم الخاص شهرياً على الأكثر.

الأثر النفسي للإصابات الحربية على المريض

تترك الإصابة الحربية أثراً عميقاً على نفسية المصاب قد يتجاوز الأثر الجسدي، وقد تتطور في حال لم تجد الأجواء المناسبة للشفاء، نتيجة غياب العلاج النفسي المختص رغم وجود بعض المراكز المهتمة بالدعم النفسي وبعض المعالجين المهتمين بمساعدة مصابي الحرب.
تقول “فاطمة الصبيح” داعمة نفسية تعمل ضمن عيادات العلاج النفسي في إدلب: يتطور الاضطراب النفسي المعروف بـ”اضطراب ما بعد الصدمة” أو “Post-Traumatic Syndrome Disorder” مع مصابي الحرب وترافقه عدة عوامل يسهل ملاحظتها، مثل صعوبة النوم خوفاً من الكوابيس المتعلقة بالحرب وذكرياتها، إضافة إلى فقدان السيطرة على المشاعر والغضب الشديد و تجنب الحديث عن أحداث الحرب أو الذهاب لأماكن الذكريات المؤلمة، مما يضعف الثقة بالنفس والتواصل الأسري و الاجتماعي إلى جانب اضطراب بعض المعاني الوجودية مثل الإيمان والحياة والموت والتفكير بالانتحار وغيرها من العوامل التي تختلف من شخص  لآخر ومن عمر لآخر.

تخبرنا “الصبيح” إنها، ومن خلال من قابلتهم من مصابي الحرب أثناء عملها، لاحظت عدم قدرة الكثير منهم على التكيف مع إصاباتهم، وتعرضهم للاكتئاب، كما أن بعضهم يمتلك ميولاً انتحارية، آخرون تحولوا إلى مدمنين على بعض العقاقير الدوائية المسكنة والمهدئة كـ “الترامادول”. وتقول الصبيح إن مراكز الدعم النفسي تعمل بتقنيات بسيطة، إضافة لإمكانية ربط المصاب بمنظمات إنسانية خارج سوريا لتقديم الدعم المناسب له، كما لا يوجد في المنطقة مركزاً لعلاج الإدمان، وتفتقر لوجود الأطباء الاختصاصين.

وتنصح الأخصائية النفسية رشا الإسماعيل بتفعيل دور العلاج النفسي، إن وجد، وتشكيل مجموعات خاصة للمصابين يستطيعون من خلالها التعبير عن مشاكلهم والحديث عنها، وتشجيعهم على ممارسة بعض الأنشطة الرياضية ودعمهم للاستمرار في أعمال تناسبهم.

يحتاج مبتورو الأطراف في سوريا لحلول ناجعة تساعدهم على الاستمرار بالحياة، أهمها الحصول على أطراف صناعية من شأنها التخفيف من صعوبة أعباء الأعمال اليومية، وفي ظل الواقع الاقتصادي السيء الذي يعيشه جميع السكان في مناطق المعارضة، يبدو مستحيلاً تأمينها من قبل الأشخاص أنفسهم أو عائلاتهم، في انتظار دعم أكبر من قبل المنظمات الإنسانية والصحية للفئة الأكثر تضرراً من سنوات الحرب، والذين يتحملون ظروف النزوح والتهجير، إضافة للإعاقة ما يجعلهم رهائن للاكتئاب والعجز والقلق.