فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

في إدلب: أفواه المرضى تحت رحمة ممتهني الطب وازدحام وكلفة مرتفعة في العيادات العامة والخاصة

محمد جميل

“وجع الضرس قطعة من جهنم”، يتداول السوريون هذا المثل وهم يعضون على ألمهم، بعد أن بات الحصول على علاج لأسنانهم حلماً في طل ارتفاع الأسعار وندرة العيادات، بينما يصف من تحدثنا معهم من رواد المراكز العامة إمكانياتها بـ “القاصرة”، يبتسمون وهم يستعيدون مشهداً من مسلسل “الخربة”، إذ يهرب السكان من طبيب الأسنان الذي “يقلع كل ما يجد في طريقه من أسنانهم”.

 

لجأ محمد الحلبي (٣٣ عاماً) إلى أحد العاملين بمهنة تركيب الأسنان والذين يطلق عليهم اسم “القرباطي” نسبة إلى المكان الذي أتوا منه من جبل “الكاربات” في أوروبا ويتوارثون مهنة تركيب الإسنان، إضافة لمهن أخرى، بعد أن خسر ستة من أسنانه بسبب التهاب حاد في اللثة، يقول محمد إن الكلفة العالية التي قدرها طبيب الأسنان الذي راجعه بنحو ستين دولاراً، أجبرته على اللجوء “للقرباطي” لتعويض أسنانه التي خسرها وبكلفة لا تزيد عن عشر دولارات، مع علمه بفارق الجودة والتعقيم وما يمكن أن تتسبب به هذه العملية من آثار جانبية.

أسعار مرهقة للمرضى
يلجأ كثير من مرتادي العيادات السنية إلى قلع أسنانهم المصابة بالنخر بدلاً من إصلاحها وتلبيسها بتيجان خزفية، نتيجة ارتفاع أسعار العلاجات مقارنة بدخل المواطن في مناطق المعارضة، في حين يلجأ كبار السن إلى قلع أسنانهم وتعويضها بأسنان صناعية “بدلات” والتي أصبحت هي الأخرى تكلف نحو مئتي دولار، وهو مبلغ يعجز عن تأمينه كثير من المرضى الذين يذهبون إلى الطبيب والمخبري عدة مرات، ويضطروا في النهاية للبقاء بدون أسنان.

كذلك سبب الازدحام في عيادات طب الأسنان واضطرار المرضى لقطع عشرات الكيلو مترات للوصول إليها، نظراً لهجرة الأطباء وقلة المختصين بسبب الحرب الدائرة، في زيادة الكلفة المادية وإهدار الوقت وامتناع كثير من المرضى عن علاج أسنانهم ومراقبتها بشكل دوري، إضافة لتضاعف أسعار الأدوية في الأخيرة وفقدان قسم منها كمضادات الوزمة (شفازن فورت) وبدائله، وأدوية الالتهاب (سبيرازول) وبدائلها، و(أوغمنتين)، التي إن وجدت توجد بأسعار مرتفعة جداً (نحو خمسة أضعاف سعرها السابق) بحسب الصيدلاني أسعد سوسي.

 

يتم تسعير العلاجات السنية بالدولار ما شكل صعوبة في تأمين نفقات العلاج بالنسبة للمرضى، يقول محمد الحسين “مخبري أسنان” إن تاج الخزف على معدن تبلغ تسعيرته اليوم نحو (خمسة عشر دولاراً) وتاج السيراميك على زيركون أصبح سعره (خمسين دولاراً)، وأجرة حشو الضرس الواحد نحو (خمسة عشر دولاراً)، وتختلف هذه الأسعار قليلاً من عيادة لأخرى بحسب الطبيب وأنواع المواد المستعملة.

ويضيف الحسين لم يعد هناك إقبال على زراعة الأسنان واقتصر هذا العلاج على المرضى الذين وصفهم بـ “الأثرياء”، إذ تبلغ تكلفة زراعة السن الواحد نحو أربعمئة دولار، في حين لايزال إجراء تقويم للأسنان مستمراً، لكن بنسب أقل، إذ تتراوح تكلفة التقويم الواحد ما بين أربعمئة دولار إلى ستمئة، الأمر الذي نتج عنه ركود وقلة في الطلب على المخابر والعيادات السنية ما أدى إلى إغلاق العديد منها.
عمل عشوائي ولا نقابة لطب الأسنان في المنطقة
لا يوجد في إدلب جهة أو نقابة تحدد أسعار المواد السنية التي باتت تحددها المخابر بالاتفاق فيما بينها، وهو ما شكل عقبة أمام أطباء الأسنان الذين اضطروا لرفع أسعارهم تماشياً مع التكاليف الكبيرة التي يدفعونها للمخبريين، ما انعكس بشكل كبير على المرضى.
يقول طبيب الأسنان علي سمعان “لا يوجد مراكز حكومية لتأمين مستلزمات طب الأسنان، وجميع المراكز خاصة، وتبيع المستلزمات بأسعار متفاوتة، وفي كل مرة نشتريها نجد فارقاً بالأسعار بين موزع وآخر، يقدر بنحو دولارين، إضافة لتغير سعر الصرف وارتفاع أسعار كثير من المواد بعد إغلاق الطرق نتيجة جائحة كورونا”.


وعن ارتفاع أسعار المواد السنية يقول عبد الناصر عوض “مندوب مبيعات” ساهمت جائحة كورونا برفع  أسعار غالبية المواد السنية، إذ ارتفع سعر عبوة المخدر الوطني من تسعة دولارات إلى اثني عشر دولاراً بعد قطع الطرق، كما ارتفع سعر المخدر الكولومبي من أحد عشر دولاراً إلى ثلاثة عشر دولاراً، لذا نستعين بالمخدر التركي والذي يعتبر أضعف فعالية من الكولومبي، بينما حافظت “الحشوات الضوئية” على أسعارها وتراوح سعر الحشوة بين ستة إلى ستة عشر دولاراً، بحسب الدولة المصنعة لكن سوق الأدوية يشهد قلة في الحشوات الضوئية ما يدفع بعض المستودعات لاحتكارها.
كما ارتفع سعر طقم السيلكون من ستة وعشرين دولاراً إلى اثنين وثلاثين دولاراً، في حين شهدت المعقمات ارتفاعاً كبيراً بالأسعار تجاوز نسبة 400% بالمئة في كثير منها.
وضرب العوض مثالاً بالكحول الإيتيلي الذي ارتفع سعره من ألف ليرة سورية إلى ثمانية آلاف، في حين ارتفع سعر عبوة القناع الطبي من دولارين ونصف للعبوة الواحدة إلى ثلاثة عشر دولار، كذلك ارتفع سعر عبوة القفازات الطبية من ثلاثة دولار إلى ثمانية دولار. وأكد العوض أن كافة مستلزمات طب الأسنان تدخل اليوم عن طريق الجانب التركي بعد إغلاق المعابر مع نظام الأسد.

وفي الحديث عن واقع طب الأسنان والصعوبات التي تواجه الطبيب والمريض، يقول سمعان الوضع يتجه نحو الأسوأ، نتيجة غياب الاهتمام من قبل المنظمات، سواء المحلية أو الدولية العاملة في الشمال السوري بطب الأسنان، وهو ما أوصل هذه المهنة لأدنى مستوى، وأردف بأنه لا توجد رقابة على أسعار المواد ولا على المواد من جهة التأكد من مواصفاتها، إضافةً لدخول بعض مخبريي الأسنان وأشخاص من خارج المهنة وقيامهم بأعمال الطبيب وخفض أسعار المعالجات، التي أدت لفقدان المريض لثقته بالطبيب بحجة (أسعاره المرتفعة).

طبيبة الأسنان “ياسمين العامر” تحدثت عن ضرورة توعية المريض الذي يلجأ، بسبب ظروفه المادية، إلى (القرباطي) الذي يستخدم الأدوات من فم إلى آخر ما يؤدي إلى ظهور بؤر انتانية، ويلحق بالقرباطي دخلاء المهنة الذين يدّعون طب الأسنان، إذ انتشرت مؤخراً عدة عيادات لعاملين في المهنة دون الحصول على شهادة الطب، ناهيك عن قيام بعض مخابر الأسنان بإجراء علاجات للمرضى رغبة بالربح الإضافي، متجاهلين الضرر الذي قد يلحق المريض نتيجة جهلهم بالطب، لكن كثير من المرضى يلجأ إلى تلك المخابر بهدف دفع تكاليف أدنى وإن كان على حساب سلامته.

هذه المخالفات أرجعتها الطبيبة لعدم وجود نقابة لأطباء الأسنان في إدلب، وفشل محاولات مديرية الصحة بمنع العيادات والمخابر المخالفة من العمل، رغم العقوبات التي تفرض عليهم، إضافة لتجاهل العديد من الأطباء والمخابر لاستكمال التراخيص التي طلبتها مديرية الصحة.

 المريض يعض على الألم

يوضح الطبيب “سمعان” أن إقبال المرضى على عيادات الأسنان انخفض إلى النصف تقريباً، بسبب الأحوال الاقتصادية الصعبة للأهالي، واعتبر أن الحل يكمن بدعم قطاع الأسنان وافتتاح مراكز جديدة للمعالجة المجانية تستوعب الناس من أهالي المناطق والنازحين إليها، مؤكداً أن المراكز الموجودة حالياً غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة للمراجعين، ويضرب مثالاً عن مركز زردنا الذي يستقبل أكثر من طاقته الاستيعابية بكثير، فهو يعالج مرضى الأسنان لأكثر من ست قرى عدا النازحين إليها.

وتقدم هذه المراكز العلاجات الطارئة والأولية كالقلع وسحب العصب دون استكمال العلاج كالتلبيس والأجهزة السنية (البدلات) ذات الكلفة العالية على المريض.

من جهتها وصفت طبيبة الأسنان “ياسمين العامر” واقع طب الاسنان في الشمال سوري بالـ “صعب جداً”، لاسيما مع تردي الوضع المعيشي، وأوضحت أن أجر الطبيب السوري ضئيل جداً مقارنةً بالمجهود الذي يبذله، فهو الأقل بين دول العالم ودول الجوار، وقالت إن طبيب الأسنان يحتاج لمبالغ كبيرة لشراء المعدات اللازمة لعيادته، عدا عن غلاء الأدوات والمواد التي أصبحت جودتها أقل وأسعارها أغلى، إضافةً إلى العناء في تأمين الطاقة في ظل غياب الكهرباء، حيث يعتمد الأطباء على الطاقة الشمسية والمولدات لتأمين الكهرباء لتشغيل المعمقة وكرسي الأسنان، ما شكل كلفة إضافية على الطبيب الذي يحتاج لتشغيل المعقمة مرتين أو ثلاث مرات يومياً، وفي كل مرة يستمر تشغيلها لمدة ساعة كاملة حتى تصل لدرجة العقامة التي يحتاجها.
من ناحية أخرى يشكو المخبري من  صعوبة تأمين بعض المواد السنية التي توقف دخولها من مناطق النظام وأصبحت تدخل من تركيا حصراً كالإكريل والخزف التي تصنع منها الأسنان، وأصبحت جودتها أقل من تلك التي كانت تدخل عبر معابر النظام لأن الأخيرة ألمانية المنشأ وتصنف في الدرجة الأولى عالمياً، في حين أغلب المواد المتوفرة اليوم إما تركية أو صينية وهي أقل جودة بحسب مخبري الأسنان محمد جعفر.

المراكز العامة للعلاجات الطبيعية (قلع -سحب عصب)

وعن الخدمات التي تقدمها العيادات السنية المجانية في إدلب قال الدكتور حسام إسماعيل (وهو الطبيب المكلف بتشكيل نقابة أطباء الأسنان في إدلب) إن الخدمات السنية المقدمة في المنطقة تنقسم إلى قسمين، ” الجراحات الفكية، والمعالجات السنية الطبيعية كسحب العصب ومعالجات النخور”، حيث يتواجد في محافظة إدلب خمس عيادات للجراحة الفكية اثنتين منها في مدينة إدلب، إضافة لعيادة في معرتمصرين و باب الهوى ومنطقة حارم، وتكون هذه العيادات ضمن المشافي.

أما عيادات المعالجة السنية والتي تقدم الخدمات الأساسية (سحب العصب، والحشوة، والقلع البسيط)، فهي موجودة بأغلب المراكز الصحية المنتشرة في إدلب، وتكون مزودة بكرسي أو كرسيين بدوام بسيط، إلا أن أعداد المرضى المتزايدة يسبب ازدحاماً كبيراً عليها، وقد يضطر المريض للانتظار نحو شهر كامل لتلقي العلاج، ويستقبل كل طبيب في هذه العيادات نحو ثلاثين مريضاً يومياً ما يقلل من سوية الخدمة الطبية. أما فيما يخص “الترميم أو التعويض” والذي يطلق عليه في العامية “تلبيسة أو تتويج”، والأجهزة المتحركة، فهذه العلاجات غير متوافرة في المراكز العامة، حتى الآن، لكلفتها العالية. وقد حاولت بعض المنظمات الطبية كمؤسسة أورينت افتتاح مثل هذه العيادات، وجهزتها بالمعدات اللازمة منذ نحو عام تقريباً، إلا أنها لم تفتح أبوابها بسبب الكلفة التشغيلية العالية.

وتضم مديرية الصحة نحو خمسة وعشرين مركز رعاية أولية، لكن تلك الأعداد لا تحقق مطالب المرضى، إذ قال بعض من التقيناهم إن أعداد المرضى والازدحام الموجود في العيادات المجانية يفرض على الجهات الصحية إحداث عيادات جديدة، تسهم في حل مشكلة الازدحام، وتشكل مكاناً لخريجي طب الأسنان الجدد من جامعتي إدلب وحلب الحرة.

وعن موضوع تراخيص العيادات السنية يقول الطبيب اسماعيل إن العيادات المرخصة قليلة، ويقدرها بـ٢٥٪ من العيادات السنية في المنطقة، لأن طلب هذه التراخيص جاء من جهتين منفصلتين (مديرية الصحة ووزارة الصحة التابعة لحكومة الإنقاذ)، وليس هناك توافقية بين الجهتين فلكل واحدة منهما ترخيصها الخاص، فالطبيب الذي يريد العمل بمنظمة يحتاج إلى ترخيص من مديرية الصحة، أما الأطباء في العيادات فيحتاجون لترخيص من وزارة الصحة، ما دفع الأطباء لتجاهل طلبات الترخيص.

نقابة لطب الأسنان في الطريق (أن تصل متأخراً)

ويعمل الطبيب إسماعيل رفقة زملائه الآن على تشكيل نقابتهم الخاصة، وهي في مراحلها الأولى على حد وصفه، إذ تم عقد عدة اجتماعات تأسيسية للجان تحضيرية، كان آخرها في مدينة إدلب، وقد انبثق عنها مجلس نقابي مؤقت مؤلف من عشرة أعضاء لتنسيق العمل وتشكيل فرع إدلب، ليشكل هذا الفرع مع فرع حلب المشكل سابقاً نقابة لأطباء الأسنان في مناطق المعارضة.

ويقول الاسماعيل إن نقابة أطباء الأسنان هي الوحيدة التي لم تُشكل حتى الآن، إذ يوجد نقابات للأطباء والصيادلة والمهندسين، والمهندسين الزراعيين والمعلمين..، بسبب بعض الإشكاليات التي تتعلق بطبيعة المهنة، إذ حال دون تشكيل النقابة، رغم طرح الفكرة منذ نحو عامين، وساهم في تأخيرها ظروف الحرب والقصف، ويتم العمل الآن على الإحصاء والبيانات وتحضير النظام الداخلي، وسيتم طرح النظام الداخلي خلال الأسبوعين القادمين، وسيتم بعدها إعلان تشكيل نقابة إدلب، تمهيداً لتشكيل النقابة المركزية الذي سيستغرق نحو شهرين.

ويضيف الطبيب أن مهمة النقابة ستكون تحسين واقع طب الأسنان الذي تراجع في الفترات الأخيرة، ومحاسبة ممتهني هذه المهنة دون شهادة أو ترخيص، ومعاقبتهم، كذلك ستأخذ النقابة على عاتقها مسؤولية تطوير المهنة وتلافي التقصير، عن طريق إقامة المؤتمرات والندوات العلمية التي من شأنها مواكبة التطور الحاصل في العالم.

كما سيكون من مهام النقابة ضبط عمل العيادات وضبط أعداد خريجي الجامعات الموجودة في الشمال السوري، وسيكون للنقابة معايير خاصة بها لقبول الانتساب، وستسهم في حل مشاكل الطلاب الذين كانوا على أبواب التخرج في جامعات النظام، والذين لم يتمكنوا من متابعة دراستهم.

“وجع الضرس قطعة من جهنم”، يتداول السوريون هذا المثل وهم يعضون على ألمهم، بعد أن بات الحصول على علاج لأسنانهم حلماً في طل ارتفاع الأسعار وندرة العيادات، بينما يصف من تحدثنا معهم من رواد المراكز العامة إمكانياتها بـ “القاصرة”، يبتسمون وهم يستعيدون مشهداً من مسلسل “الخربة”، إذ يهرب السكان من طبيب الأسنان الذي “يقلع كل ما يجد في طريقه من أسنانهم”.