في الرابع من حزيران الجاري قتلت قوات الأسد الطفل ماهر مالك الدرة (١٤ عاماً) من قرية الطلحية “شرق إدلب” بعد إطلاق النار عليه أثناء عمله في حقل قريب من القرية التي باتت تحت سيطرة قوات الأسد.
يقول محمد الدرة، شقيق ماهر إن أخيه كان رفقة صديقه في حقل قريب من القرية، يجمعان ما تبقى من محصول الفول خلف المزارعين لبيعه، إلا أنهما تعرضا لإطلاق النار ما دفعهم للهرب، يخبرنا أن قوات الأسد تابعت إطلاق النار على الطفلين الهاربين لتصيب ماهر بإحدى الرصاصات التي اخترقت كتفه واستقرت في القلب، وإن سحب جثته استغرق عدة ساعات بسبب استمرار هذه القوات بقنص كل من يقترب من المكان.
حصاد حذر
ليست قصة الطفل ماهر حادثة عشوائية، بل يتكرر المشهد يومياً في القرى والبلدات المتاخمة لوجود قوات الأسد والتي تستهدف الأشخاص والآليات (جرارات -حصادات) خلال موسم الحصاد ما دفع الكثير من الفلاحين للتخلي عن حصاد مواسمهم في هذه المناطق، والخوف من الاقتراب منها، ناهيك عن الحرائق المفتعلة التي يسببها الاستهداف المتكرر لهذه الحقول.
يقول من التقيناهم إنهم يحاولون الوصول إلى حقولهم لحصادها رغم الخطر الذي يهددهم، إلا أنها “لقمة مغمسة بالدم”، فمواسمهم هي المصدر الوحيد لتأمين جزء من أكلاف الحياة التي يعيشونها والتي وصفوها بـ “القاسية”.
وإن كان محصول القمح في إدلب لا يأتي في المراتب الأولى لما يعتمد عليه المزارعون في حياتهم مقابل الأشجار المثمرة، إلا أنه يحقق حالة من الاستقرار للسكان، خاصة لأهميته في صناعة الخبز، العمود الفقري للأمن الغذائي في إدلب، والذي يشهد ارتفاعاً في الأسعار سنوياً.
ومع خسارة أجزاء كبيرة من السهول الزراعية خلال الحملة العسكرية الأخيرة، فقدت محافظة إدلب مساحات واسعة من الأراضي التي كانت تزرع بالقمح في سهل الغاب وريف إدلب الشرقي ومنطقة خان شيخون، والتي تحدث إعلام النظام عن استثمار محاصيلها التي هجر منها سكانها وقدر انتاجها في العام الحالي بنحو سبعين ألف طن من القمح، وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لقوات تابعة لحكومة النظام وهم يحصدون القمح من القرى التي تمت السيطرة عليها، في حين قال بعض من تحدثنا معهم وأخفينا أسماءهم خوفاً من تعرضهم للاعتقال في هذه المناطق إن لجنة أمنية تتقاسم المحاصيل مع من تبقى من أصحاب الأراضي الزراعية، وتمنع وصول الحصادات كما تحرق الحقول في حال رفضهم لذلك، كما تفرض ضرائب بقيمة ٥٠٪ على محاصيل أخرى كالفستق الحلبي في حماه، يقولون إنها تعود لخزينة الدولة، ناهيك عن مصاريف رعاية الحقل وزراعته والإتاوات المفروضة عليهم من قبل هذه اللجنة.
القمح غلة وفيرة بتكاليف كبيرة
يقول المهندس الزراعي محمد حلاق إن موسم القمح من المواسم الجيدة هذا العام بسبب الهطولات مطرية الجيدة والمتوزعة خلال فصل الشتاء بأكمله، ورغم إصابة بعض المحاصيل بعدد من الأمراض الفطرية مثل صدأ الورقة والصدأ الأصفر إضافةً لتعرض الحقول لهجوم من حشرات(الجراد) إلا أن هذه الأمراض كانت ثانويةً رغم انتشارها الواسع، إذ لم تؤثر على المحصول لأن الإصابة بها جاءت متأخرة.
وعانى مزارعو القمح من جملة من الصعوبات خلال العام الحالي، كان لغلاء المحروقات الدور الأبرز بها. يقول محمد يسوف “مزارع من بلدة زردنا” إن ارتفاع أسعار مادة الديزل دفعت أصحاب الحقول للإحجام عن الري التكميلي “سقاية المحاصيل البعلية مرة أو مرتين للحصول على مردود أفضل” إذ بلغ سعر مادة المازوت ألف وسبعين ليرة سورية للتر، ما تسبب أيضاً بارتفاع أجور الحصادات حيث يتراوح أجار حصاد الدونم الواحد ما بين ثمانية آلاف ليرة سورية إلى اثنا عشر ألفاً للدونم بحسب جودة الحصادة وحداثتها، بمعدل وسطي حوالي 120 ألف ليرة سورية للهكتار وهو ثلاثة أضعاف أجار حصاد الهكتار في العام الماضي والذي لم يتجاوز أربعين ألف ليرة سورية، في حين ارتفعت أجور عمّال الحصاد من مئتي ليرة سورية للساعة في العام الماضي إلى أربعمئة ليرة سورية هذا العام.
يشكو اليسوف من انعدام الدعم الزراعي هذا العام لاسيما في موسم الحصاد بخلاف السنوات الماضية والتي كانت المجالس المحلية تقوم خلالها بدعم الفلاحين بأكياس الخيش لجني الحبوب الأمر الذي دفع المزارعين للاعتماد على أكياس بلاستيكية أرخص ثمناً من الخيش الذي يباع اليوم بدولار وربع الدولار ويعادل نحو 3200 ليرة سورية، بحسب سعر الصرف الحالي (نحو ٢٥٠٠ ليرة للدولار الواحد) للكيس الذي يتسع لمئة كيلو غرام من القمح، ما يعني أن المزارع سيدفع اثنان وثلاثين ألفاً ثمن أكياس للطن الواحد في حال استعمل أكياس “الخيش”.
وعن تضاعف الكلفة يقول فادي الأحمد (ماجستير في الاقتصاد) إن الأسعار في العام الحالي هي أقل نسبياً من العام الماضي، إلا أن انخفاض قيمة الليرة السورية هو ما يوحي بغلاء الكلفة، ويخبرنا الأحمد إن المقارنة السعرية لا يمكن أن تقوم على الليرة السورية، وعند تحويل الأرقام السابقة إلى الدولار بحسب سعر الصرف في كل فترة، سنجد انخفاضاً في التكاليف عن العام الحالي.
لا يقلل الأحمد من أهمية هذا الارتفاع الوهمي، وذلك لارتباط دخل المواطن في مناطق المعارضة بالليرة السورية، وهو ما أظهر تضاعفاً في الأسعار على الأكلاف والمحاصيل، ذلك أن انخفاض قيمة الليرة لا يصحبه ارتفاع في الدخل.
تنافس الحكومات لشراء القمح
سعرت الحكومة السورية المؤقتة سعر طن القمح الطري بمئتين وعشر دولارات والقاسي بمئتين وعشرين دولاراً للطن الواحد بحسب بيان صادر عن وزارة المالية والاقتصاد في الحكومة ورد فيه أن الحكومة قادرة على شراء خمسة عشر ألف طن هذا العام، بحسب وزير المالية والاقتصاد الدكتور “عبد الحكيم المصري” والذي قال إنه تم تسعير القمح بناءً على اجتماع مع المجالس المحلية وبحضور مديري مؤسسات الحبوب والزراعة وإكثار البذار، وحددت المؤسسة العامة للحبوب مراكز في “إعزاز ومارع والغندورة وبزاعة” لشراء القمح من الفلاحين وسيكون سداد ثمنه خلال فترة لا تتجاوز اليومين، في حين حددت حكومة الإنقاذ في إدلب سعر الطن بمئتين وأربعين دولاراً للقمح القاسي النوع الأول، ورفع النظام السوري سعر استلام القمح إلى أربعمئة ليرة سورية للكيلو الواحد بعدما حدده سابقا بمئتين وخمسة وعشرين ليرة سورية لينافس الإدارة الذاتية للسيطرة على القمح السوري التي رفعت السعر قبله هي الأخرى إلى ثلاثمئة وخمسة عشر ليرة سورية بعد أن كانت حددته بمئتين وخمسة وعشرين ليرة سورية سابقاً
الأسعار الجديدة ستفضي إلى ارتفاع في أسعار طن القمح، إلا أن فادي الأحمد يتحدث عن خسارة الفلاحين في العام الحالي، ويخبرنا أن السعر لم يرتفع، ففي العام الماضي كان سعر الطن من القمح بالليرة السورية يوافق سعره بالدولار في العام الحالي، وينقص عن العام ٢٠١٨ بنحو خمسين دولاراً، إذ حدد سعره بـ (٢٩٠ دولاراً للقمح القاسي، و٢٨٥ دولاراً للقمح الطري). وشكل خسارة للمزارع أو أرباحاً قليلة، وذلك لارتباط السعر بكميات الإنتاج، إذ يتراوح انتاج الحقول البعلية بين (١-٣ طن)، ولا يزيد عن خمسة أطنان في الحقول المروية، ويبلغ متوسط تكلفة الطن نحو (٤٥٠ دولاراً في البعلي وتصل إلى ٩٠٠ دولار في المروي).
يعتبر القمح من أهم المحاصيل الاستراتيجية في سوريا لاستخدامه في كثير من المواد الغذائية وأهمها إنتاج طحين الخبز، وحولت الحرب البلاد من دولة مكتفية ذاتياً لحاجتها من القمح إلى مستوردة لأكثر من 60% منه، ويتركز إنتاج معظم القمح السوري في أراضي محافظات الشمال والشمال الشرقي من سوريا، ومع ارتفاع الأكلاف وصعوبة الحصاد ومخاطره، إضافة لغياب الدعم عن القطاع الزراعي، تدخل المنطقة أزمة اقتصادية خانقة ستترك أثرها على حياة السكان الذين يعيش أكثر من ٨2.5٪ منهم تحت خط الفقر، كما ستسهم في هجر المزارعين لحقولهم لغياب المردود المادي الذي يوازي الكلفة والتعب.