فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

يوم فرحنا بسقوط “طائراتهم”

منيرة بالوش

سقوط الطائرة كان “نصرنا الصغير” الذي استوجب الفرح وتوزيع الحلوى والنوم باكراً واستعادة العلاقة مع اسم “الطائرة”، ربما لن يفهم كثر في كل دول العالم لماذا نفرح كسوريين باحتراق طائراتهم وسقوطها، ونفرح أيضا بمقتل جنودهم على يد الطائرات التركية، لأنها حالة سورية بامتياز تفردنا بها لوحدنا عن باقي الثورات في أي مكان آخر، قد يبدو الفرح مستهجناً وغير طبيعي ونحن نفقد ترسانة بملايين الدولارات، غير أنها طائراتهم وأسلحتهم أما نحن الذين دفعنا ثمنها من عرقنا وحياتنا فلسنا سوى أهدافها، أهدافهم وفقط.

تلك المرة الأولى التي أدندن فيها لطفلي بأغنية “طيري يا طيارة” دون وجل، لم أشاهد الخوف الذي اعتدت رؤيته كلما ذكر اسمها وصوتها في المكان، وقتها لم تكن تفلح المحاولات بخلق صورة متخيلة عن طائرة من ورق وخيطان وألوان، كذلك الصور لطائرات مدنية تعبر السماء وتوصلك إلى وجهتك بمدة قصيرة، ولا حتى شكل المضيفات الجميل ولباسهن الموحد وابتسامة “كابتن” الطائرة، كل ذلك كان ينهار مع صوتها فوق رؤوسنا وانتظار موتنا، وما رافقنا خلال السنوات الماضية من صور لدمار وموت وأشلاء وأطفال تحت الأنقاض والكثير الكثير من الخوف، حتى باتت زوايا المنزل أمكنتنا المفضلة، والأقبية أكثر سعادة من الأبنية الطابقية، والمغاور والكهوف قصوراً نتنافس لتكون منازلنا الجديدة.

لا تتشابه الصورة النمطية للطائرة في ذاكرة أطفالنا مع تلك التي تشكلت في عقول أقرانهم على بعد أمتار من حدودنا الجغرافية، يقول صديقي إن “عداوة بعمر الثورة نشأت بيننا وبين مفهوم الطائرة، لا نستطيع تصنيفها إلا كقاتل، ولا يمكن النظر إليها إلا كعدو”، يكمل وهو يعبث بجهاز لاسلكي أمامه يرصد حركة الطائرات، لا يمكن استثناؤها من العقوبة، هي شريكتهم بالقتل والدمار والفقدان.

تسعة أعوام مرت حملت معها عشرات آلاف الغارات، تحولت المرافق العامة والصحية والبنى التحتية إلى أهداف، غدا كل شيء رقماً، مئات الآلاف من القتلى ومثلها من المنازل، آلاف المدارس والمشافي والأسواق، ملايين النازحين والمشردين، وفي كل مرة كان عليك أن ترفق هذه الأرقام بمسبب رئيسي “قصف الطائرات”. بعد أن تغيرت المفاهيم، تلك ليست طائراتنا هي بحق طائراتهم.

أمام كل مجزرة كنت أسأل نفسي عن البلدات والقرى التي تمر من فوقها طائراتهم، ربما لوح أطفالهم لها، نساؤهم زغردن، ولم يرتجف ابريق “المته” أمام منزل رجالهم، على شاشات التلفاز كانت “جنودهم الباسلة وطياريهم وطائراتهم” تحظى بالخبر الرئيسي، تتبعه لازمة “الله ينصركم” فيما يغيب عن المشهد، نحن، نحن جميعاً بكل أعمارنا وأطيافنا وحياتنا.

ظُهر ذلك اليوم تغير كل شيء، الرؤوس التي اعتادت الاختباء أشارت بيدها نحو السماء، كان ثمت ما يترنح هناك تاركاً وراءه خطاً رمادياً يشبه الخطوط التي ارتسمت على أجساد أطفالنا، صوت الزئير بدأ بالتلاشي، ثم تحول “الوحش” إلى كتلة من النيران، ثم سقط، سقط حتى النهاية.

الشوارع التي اعتادت أن تكون وحيدة في مواجهة ما تسقطه الطائرة من حمم ازدحمت بالسكان، خرجوا من زواياهم كناجين بعد وباء يجتاح كل شيء، أزاحوا أبوابهم وأيديهم عن رؤوسهم في مشهد يحاكي “أفلام الرعب”، على الشرفات والأسطحة كان الناس يراقبون كل شيء في مشهد يمكن وصفه بـ “القداسة”، جلت ببصري أتفقد الوجوه والأمكنة، لا يمكن أن أفوت أي تفصيل، قلت وأنا أحاول أن أملأ قلبي بقدر ما استطعت من هواء. “احترقت” صوت أحدهم أيقظ الجميع، زغردت النساء وكبر الرجال ولوح الأطفال، ثم معاً كفرقة كورال تبحث عن جواب “سقطت.. سقطت”.

قبل يوم واحد كنا نحبس أنفاسنا منذ اللحظة التي يخبرنا بها رجال المرصد بأن الطائرة أقلعت من المطار، صوت “القبضات اللاسلكية” وحده من يزعج صمتنا، صوت زمور الإنذار يخبرنا أن الموت على بعد دقائق أو ربما ثوان، نقطة الصفر تكون بصوت المرصد “نفذ” أتكوم على طفلي لحمايتهما، أتحسس جسدي أني ما زلت على قيد الحياة، أبحث في الهاتف المحمول عن مكان الضربة وعدد الشهداء، ثم أدخل في نوبة بكاء حادة، تلك مراحل عليك تذكرها دائماً، هي حياة كل أم في مناطقنا.

نبهني من شرودي صوت امرأة تبكي وتضحك في آن معاً، تشتم وتمسح قلبها بيديها، تجلس وتقف، أخبرتني سيدة راقبت حيرتي إنها أم لطفلين (محمد ومصطفى) أحرقتهما الطائرة كحدث اعتيادي يومي، كبّرت المرأة وزغردت وبعد غياب الطائرة المحترقة عن نظرها، جلست تبحث في هاتفها المحمول عن فيديو يوثق ما حدث، بعد دقائق وجدت ضالتها، كانت تعيده قبل أن ينتهي، وتعيد معه دهشتها وكلماتها التي سمعتها منها للمرة الأولى، قلت في نفسي “إن هذه المرأة لا تريد لهذه اللحظة أن تموت”.

جهاد طفل في العاشرة من عمره كان يقفز أمامنا في الشارع، أخبر الجميع إنه أحرق كل الطائرات البلاستيكية في صندوق ألعابه انتقاماً من تلك التي قتلت صديقه فراس، بطفولة أشار إلى الطائرة المحترقة “هذه من قتلته.. أنا أعرفها”.

أسقطت أكثر من طائرة خلال اليومين الماضيين بفعل الدعم التركي، سقطت قرى وحررت أخرى وما زالت المعارك دائرة، إلا أن مشهد سقوط الطائرة كان “نصرنا الصغير” الذي استوجب الفرح وتوزيع الحلوى والنوم باكراً واستعادة العلاقة مع اسم “الطائرة”، ربما لن يفهم كثر في كل دول العالم لماذا نفرح كسوريين باحتراق طائراتهم وسقوطها، ونفرح أيضا بمقتل جنودهم على يد الطائرات التركية، لأنها حالة سورية بامتياز تفردنا بها لوحدنا عن باقي الثورات في أي مكان آخر، قد يبدو الفرح مستهجناً وغير طبيعي ونحن نفقد ترسانة بملايين الدولارات، غير أنها طائراتهم وأسلحتهم أما نحن الذين دفعنا ثمنها من عرقنا وحياتنا فلسنا سوى أهدافها، أهدافهم وفقط.

منيرة بالوش