فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

“صبحية” نسائية في مخيمات اللجوء

محمد أبو سيف

لا تحتاج أن تطرق المدعوات باب الخيمة، تقول فاطمة وهي تبتسم بعد استعاضتها عن الأبواب الخشبية بقطعة قماشية محاطة بعيدان القصب، لا تصدر صريراً ويضيع صوتها الضعيف مع ضوضاء الطريق.

مشهد متخيل من الذاكرة

نادراً ما تغيبت واحدة من جارات فاطمة عن قهوتها الصباحية، جلسات النميمة هي ما كانت تمنع إحداهن عن الحضور، فغيابها يعني بداية لوضعها في “مقلاة” المتواجدين وتبادل التعليقات والنكات عنها أو عليها، يرافق ذلك صوت أغانٍ فيروزية من مسجل موضوع على الطاولة بعيداً عن النساء المجتمعات حول المدفأة.

مشهد يومي من الواقع

تفرقت جارات فاطمة في أماكن مختلفة بعد هجرتهم القسرية من قريتهم في ريف حماه خلال الحملات العسكرية الأخيرة، الخيام التي سكنَها لم تمنعهن من استعادة “الصبحية” وخلق ما يحاكي أجواءها في الماضي غير البعيد، والذي ما زال حاضراً في نفوسهن.

تختلف المعطيات والتحضيرات هنا، تقول فاطمة في إشارة للمخيم الذي تعيش فيه بريف إدلب، فالجدران الاسمنتية باتت قطعاً قماشية، وقرب الخيام من بعضها البعض شكل عائقاً في الخصوصية، تتجنب النساء في “صبحياتهن” الحديث والضحك بصوت عالٍ، كذلك غابت موسيقا فيروز وصوتها “احتراماً لمشاعر السكان المجاورين وانقطاع الكهرباء في آن معاً”.

القهوة التي بقيت الضيف الأهم في هذه “الصبحيات” اختلطت رائحتها بدخان مدفئة الحطب، المدفأة التي لعب دخانها دوراً آخر في معرفة “جارات” فاطمة أنها باتت مستعدة لاستقبالهن بعد خروج زوجها إلى عمله وانتهائها من الأعمال المنزلية القليلة التي تقوم بها بسبب ضيق المكان وضعف أثاثه.

لا تحتاج أن تطرق المدعوات باب الخيمة، تقول فاطمة وهي تبتسم بعد استعاضتها عن الأبواب الخشبية بقطعة قماشية محاطة بعيدان القصب، لا تصدر صريراً ويضيع صوتها الضعيف مع ضوضاء الطريق.

القهوة وجارة فاطمة الحميمة “أمل” هما ما لا تكتمل “صبحية” بغيابهما، أمل الوحيدة بين زوار فاطمة المنحدرين من قرية واحدة قادمة من ريف إدلب الجنوبي والماهرة بقراءة “الفنجان” وزراعة البسمة والحياة على وجوه الحاضرات.

بعد أن ترتشف نساء “الصبحية” قهوتهن، يقلبن الفنجان على صحنه وهن ينظرن إلى “أمل” في إشارة لاستعدادهن لمعرفة ما يخبئ لهن “البنَ” في حواف الفناجين. تقلبه أمل بين يديها كخبيرة وتربط الخطوط العشوائية المتشابكة، تقول إن لكل خط معنى عندها يفسر أمراً يخص صاحبة الفنجان، فشكل طائر يدل على خبر جديد والغيوم البيضاء تدل على فرج قريب، والطريق الأبيض يدل على درب يخلو من الصعوبات، أما المغلق فيدل على عقبات قادمة ستعترض سبيل صاحبة الفنجان المقروء، الأفاعي تدل على الأعداء والغربان عن الخراب والعيون على الحسد، وهناك تكتلات من البن تدل على الاجتماع لحزن أو فرح بحسب ما توحي بقايا الفنجان المقلوب. كل ذلك مرتبط بـ “أمل” وقراءتها للخطوط التي تبدو كطلاسم، بينما تنصت الحاضرات وهن ينتظرن دورهن في كشف المستور، والتنبؤ بما قد يحصل معهن، تقول رغد واحدة من الحاضرات دائماً في “الصبحية” نصدق ما تقول وأحياناً يحدث بالفعل ما تتنبأ به، وتصف “أمل” بالقارئة الماهرة.

المعارك والقصف جزء آخر من حديث المجتمعات في “الصبحيات” يتناقلن ما سمعن وقرأن، يختلفن ويتفقن وتعلو أصواتهن، تقول فاطمة إن حدة الاختلاف يعرف من تدخل “أبي ماهر” الرجل المسن صاحب الدكان القريب من الخيمة، وهو مهجر أيضاً من حمص، حين يبدأ بالسخرية من حديثهن ويشاركهن من على بعد طالباً منهن إنهاء هذه المعضلة التي عجز عن حلها المجتمع الدولي والقادة العسكريون.

كلام أبي ماهر يفرض الصمت على “الصبحية” لدقائق، قبل الانتقال للحديث عن مصاعب النزوح وهموم الزواج وقلة فرص العمل والتحايل لتأمين لقمة العيش، يؤرخن ويذكرن بعضهن بموعد استلام السلال الإغاثية ويتبادلن بينهن بعض المواد بحسب حاجة كل خيمة وسيدة.

ترسم نساء “الصبحية” مستقبلاً بعيداً عن الخيام، وتبدأ زفرات الحديث السياسي والبحث عن أماكن هجرة بعيدة أو قريبة، نحو أوروبا أو قرى مجاورة، ويفتقدن بعض من بات بعيداً من “الجارات” القديمات في مخيمات أخرى، أو ممن أسعفهن الحظ بالخروج إلى دول مجاورة، ليختمن جلستهن بـ “الفرج” وهنَ يطرقن بفناجينهن على أرض الخيمة، في انتظار “صبحية” أخرى تقال فيها كلمة “دايمة” التي طال انتظارها.

محمد أبو سيف