فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

عائدة إلى شجر البلوط وشتلات الحبق

فاطمة حاج موسى

بدأت بتوضيب أغراض المنزل، حاولت التخلص من الأشياء التي تزيد ألم التهجير في الذاكرة، التقطت صوراً جديدة لمنزلنا، لشتلة الحبق التي رعتها أمي، كذلك بعض الورد المتناثر في الحوض، لأخي المنهمك بترتيب أشيائه وهو ساهم لا يطيق النظر إلى الحقيبة التي أمامه، عندما انتبه لوجودي حاول أن “يمزح” معي، ثم كسره الحزن بلحظة واحدة.

يوم واحد قبل التهجير

احترقت الأرض بمن عليها، “طائرات المطارات كلها في السماء”، مروحي البراميل، راجمات الصواريخ والمدفعية، المكان من شرق معرة النعمان وحتى “الغدفة” شمالاً بريف إدلب، الزمان كل دقيقة، والهدف الطريق الدولي.

ملخص ما كنت أتابعه عبر مجموعات الواتس آب والقبضة اللاسلكية لمراصد الطيران، الصوت “أبو بحر”، في رسالة خاصة قال لي واحد من السكان “تبكينا المعرة أفضل من أن نبكيها نحن، ما زلنا رفقة بعض العائلات في تلك الجهنم”، أصمت وأرسل نقاطاً متتالية كرسالة عاجزة، يكمل “نستعين بما بقي من مؤن، كسرت البارحة بعض الأثاث الخشبي وأحرقته في المدفأة، نسعى للدفء”، أُرسل رسالة جاهزة توحي بالدعاء، يجيب “لا أسواق في المدينة”.

صباح يوم قبل التهجير

توضب أم زيد (سيدة في الثلاثين من عمرها من جبل الزاوية) بعض حاجياتها تجهيزاً للرحيل إلى خيمة، تبكي وهي تتنقل في الغرفة الصغيرة الوحيدة التي تمتلكها، تشير إلى ضوء الشمس الذي حرمته رفقة طفليها خلال حياتها في مغارة لخمس سنوات من القصف، وهي تخبرنا أن “البرد نهش جسد صغيريها، فكيف ستكون الحياة في ظل خيمة؟”

هذه المرة لا مغاور للنجاة تقول وهي تضع بعصبية بعض الثياب عنوة في كيس ممتلئ، وتقسم أن الطريق إلى المغارة أقل قسوة وأكثر حياة، تصطدم بالجدار وهي تمشي دون وعي بعد أن غيبت الدموع بصرها، تجلس على حقائبها صامتة.

مع أذان الظهيرة

أمام قطعة الأرض الصغيرة التي تمتلكها تجلس أم أحمد وهي تعيد ما حلمت به طوال السنوات الماضية ببناء منزل صغير لأطفالها في المكان، تقول إنهم مصابون بمرض “غدة الدرق”، وتلتفت نحوي لتخبرني “الصيدلية التي كنت أشتري منها الدواء أغلقت أبوابها في سراقب”.

الاعتياد على المكان والشخوص هو ما كان يخطر في بالي وأنا أستمع لحديثها، ما زال هناك متسع في المكان وصيدليات كثيرة لم تغلق أبوابها، شعور الغربة هو ما كان يفصلها عن رؤية الحياة على بعد أمتار قليلة.

أمسكتني من يدي وهي تحكي عن “قلة النقود” التي صعبت قرار التهجير عليها، ببساطة أمَ من أريافنا الطيبة تُقسَم لي الأرض التي أمامها بحسب نوع الخضراوات التي زرعتها، مسكبة هنا وأخرى هنا، قالت إنها تفكر باقتلاعها قبل الرحيل إن حدث، تمشي بي في شوارع حارتها الخاوية، سرت في قلبي قشعريرة بثتها نسمة باردة وحزن عميق، قالت “هون كان محل خضرة، هداك بياع مازوت”، لم تسعفها الكلمات وهي تودع أثاث جيرانها المركون فوق الشاحنات، أرادت أن تخبرني أنها جلست على هذه الاسفنجة وفوق تلك السجادة وشربت بذاك الفنجان، وقبلت ذاك الشاب الذي كان طفلاً وحملته ذات يوم بين يديها، وحضرت عرس نازحة أخرى..

عصر يوم التهجير

خيمة أم إبراهيم من ريف إدلب الشرقي مشرعة أبوابها للريح، تحاول عبثاً ترتيب ما حملته من “عزوبية” وتعني احتياجات شاب أعزب من بعض الأثاث وعدة المطبخ البسيطة، تلتفت إلي وتخبرني إنها باعت أثاث منزلها لتسهل عملية انتقالها، “كل شهر في مكان” تقول، “لم يعد هناك من أثاث منذ رأيت الغبار والدخان يأكل منازل قريتي”، يومها لوحت للقرية من بعيد واختزنت ما استطاعت من صور المكان.

مساءً

دلفت إلى مدينة أريحا لأودع حاراتها ومن بقي لي فيها من أصدقاء وأحبة، المطر كان يعينني في إخفاء دموعي التي بدأت تنهمر وأنا أسير دون وجهة في الحارات المنهكة، لم أقوَ على مقابلة أحد، فهربت إلى الطريق الرئيسي لأجد من يقلني إلى قريتي، توقفت حافلة تحمل بعض أثاث أحد المنازل والحاجة مريم. أراحتني تقاسيم وجهها رغم التعب والهالة السوداء حول عينيها، قالت إنها ستلتحق بأبنائها في واحدة من الخيام بعد إصرارها على البقاء رفقة أشخاص آخرين اختاروا مدجنة ليسكنوا فيها بعيداً عن القصف.

 

أخبرتني أنها جمعت بعض أشيائها على ضوء القمر، “الخوف منعنا من إشعال الضوء”. سمرتني تلك الجملة حين بات الضوء رفيقاً للموت، قطع الصمت صوت أغنية وضعها سائق الحافلة، كانت تتحدث عن (الحلم الجميل والبيت الصغير) بكت الحاجة مريم وشاركناها جميعاً، كانت كلمات الأغنية تجلدنا وهي تصف حالنا، أوقفت الحافلة وهربت نحو منزلي.

نسيت أن أخبركم أني وفي الطريق وللمرة الأولى غصصت وأنا أشاهد حركة النزوح، كان الموقف مختلفاً، بعد ساعات سأكون وعائلتي جزء من هذا الرحيل، لا أشخاصاً يحاولون التعرف على مشاعر المهجرين والذين كنا نشاهدهم على وسائل التواصل، أو الذين سكنوا في قريتنا قادمين من مدن وبلدات بعيدة بحثاً عن النجاة.

منتصف الليل

القرار الذي بات واقعاً كان رحيلنا عن القرية، عززه إصابة أحد إخوتي بقصف للطيران، صوت رفيقات أمي ونحيبهن كان رفيق الأيام الماضية ولم تفلح محاولاتي بالتخفيف عنهن، كل الكلمات التي استعرتها من الكتب والدين وأحاديث الرسول وأقوال الحكماء فشلت في مهمتها أمام قرار الرحيل، قلت في نفسي “ميت ما بيشيل ميت”، كان جزء مني بدأ بالخدران كلما اقتربت ساعة الرحيل، ودقيقة بعض دقيقة كان هناك ما يموت في داخلي.

 

بدأت بتوضيب أغراض المنزل، حاولت التخلص من الأشياء التي تزيد ألم التهجير في الذاكرة، التقطت صوراً جديدة لمنزلنا، لشتلة الحبق التي رعتها أمي، كذلك بعض الورد المتناثر في الحوض، لأخي المنهمك بترتيب أشيائه وهو ساهم لا يطيق النظر إلى الحقيبة التي أمامه، عندما انتبه لوجودي حاول أن “يمزح” معي، ثم كسره الحزن بلحظة واحدة.

في البيت الجديد

منزل بلا أبواب ولا نوافذ كان حظنا في ظل أزمة التهجير، بدأنا بترتيب الأثاث الذي نقلناه، كانت صور الغرف الخاوية في منزلنا القديم تزيد من برودة المشاعر تجاه المكان الجديد، لا شيء في مكانه هنا، تلك الجدران لا تصلح لحياة دائمة، هو الاعتياد مرة أخرى من يوقعنا بالغربة، وتذكرت أن “خيمة عن خيمة تختلف” في قصة غسان كنفاني، فالمنازل ليست بجدرانها بل بما علق عليها من ذاكرة الطفولة والصبا.

في المدينة الجديدة أصدقاء لي ورفاق درب، إلا أنها تخلو من شجر البلوط وحبات الزعرور الصفراء الشهية، لا نبعة ماء دافئة فيها، لا طريقاً يحتل شجر المحلب والرمان طرفيه، قلت وأنا أدرك أن المعركة القادمة هي حرب سرديات للحفاظ على الصورة القديمة والعودة إليها، أكيدة أن لأهل المدينة الجديدة ذاكرة تحميهم وتزيد من حبهم لتفاصيلها، أما أنا فقد تركت ذاكرتي هناك كي أعود من جديد.