فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

العالم بعيون طفلة

عمر هشام

أمسك هاتفي، أضغط على تطبيق “خرائط غوغل” وفي رأسي حساب المسافة بين بيروت ومعرة النعمان. أتوقف فجأة، لا أعرف لماذا بالأمر أولا لماذا توقفت عن استكماله، ماذا يعني ذلك أصلاً؟
أفكر أني طوال الوقت كنت أعيش في خطوط متوازية بين مدن بعينيها، كم المسافة بين بيروت وحلب؟ بين حلب وباريس؟ بين القاهرة واسطنبول؟ بين القاهرة والمعرة؟

طالما حلمت بأن تصحبني ابنة صديقي في جولة حول مدينة. تمسك الصغيرة بيدي، ثم تقود الجولة وأنا مغمض عيني، أعتقد أن خبرتها تفوق “خبراتي” في الحياة بأضعاف، نظرتها أثقب، وشعورها أصدق بالتأكيد.
أكتب “مدينة” ثم أفكر أن صديقي وهو يحرر المادة سيعتقد أن الكلمة مكتوبة بشكل غير صحيح سيوبخني بلطف. أكتب “مدينة” فعندما حلمت بتلك الجولة مع ابنته لم أستطع تحديد المكان. فكرت في اسطنبول، ثم تخيلت باريس، ثم ببعض من الصعوبة فكرت في بيروت. تجنبت بالطبع تخيل حلب والقاهرة، مدينتها ومدينتي!
اليوم معرة النعمان تُسوى بالأرض كما سابقاتها. أتذكر كل ما قرأته عن المعرة وصمود أهلها، أتذكر صور الأسواق المبنية بعد كل قصف وكأن الناس يخرجون ألسنتهم لأساطيل الطائرات، أتذكر وأردد كل ما قاله أصدقائي عنها.
بصراحة، لم أهتم بكونها مدينة أبي العلاء. ليس بغضاً بالرجل، فرسالة غفرانه ما زلت أحفظ بعض أجزائها مزهواً. فقط لم أتذكره، في هذه اللحظة وبدون قصد أو ضغينة قديمة.
أمسك هاتفي، أضغط على تطبيق “خرائط غوغل” وفي رأسي حساب المسافة بين بيروت ومعرة النعمان. أتوقف فجأة، لا أعرف لماذا بالأمر أولا لماذا توقفت عن استكماله، ماذا يعني ذلك أصلاً؟
أفكر أني طوال الوقت كنت أعيش في خطوط متوازية بين مدن بعينيها، كم المسافة بين بيروت وحلب؟ بين حلب وباريس؟ بين القاهرة واسطنبول؟ بين القاهرة والمعرة؟
عشت شهوراً طويلة في مدن لم تعن لي شيئاً أبداً، ولا أشعر تجاهها بأي ذاكرة، حتى لا أذكرها بسوء، كل ما في الأمر أنها سُويت بالأرض داخل رأسي.
لكن، كم من المدن التي لم تطأها قدمي أبداً وأشعر أني نسيت وزناً من أوزان قلبي هناك؟
كم من المدن التي بكيتها دون أن يزعجني عقلي بالسؤال “هل هي مدينتك؟ هل عشت مع هؤلاء الناس؟ هل أكلت في بيوتهم؟ من أنت أصلاً”
الخطوط المتوازية لا تغريك بالتفكير، تحس فقط بذلك الشعور الغريب الذي أحسه عندما تنطق ابنة صديقي اسمي وتسألني عن أحوالي. جغرافيتي كقلب هذه الطفلة، لا يحدد أن طريق هذه المدينة يبدأ في نقطة محددة في مدينة أخرى، على جثث أهلها في أغلب الأحوال…
وأنا أكتب، أفكر لماذا أكتب هذه المادة الآن؟
ليست عندي أسباب كبيرة تتعلق بالكتابة وأهميتها، لا أعتقد أن الكتابة تغير شيئاً. السبب بسيط، في كل مرة تُقصف مدينة من المدن التي بها قلوب أصدقائي، أركض نحو الهاتف متسائلاً بنفس السؤال الغبي الفارغ “كيف حال الذين بقوا هناك؟”
مع التكرار، وتوبيخي لنفسي مرات لا تحصى، لم أستطع اليوم طرح السؤال على صديقي، فكتبت مادة ليحررها.
أعود إلى جولتي مع طفلتي، مازالت هي التي تقود الجولة، فأنا لا أريد أن أفتح عيني أبداً. قلبي في هذا الوقت يتنقل بين اللون الأسود والأحمر. أما هي ولأنها لا تعرف، فكأنها تعرف كل شيء، تشدني إلى شوارع وحارات لم أكن أقدر على دخولها وحدي، طوال الوقت كنت جباناً بالحد الذي يسمح لي بالاستمرار، حتى لو عدت في النهاية إلى نفس النقطة وبدأت بحساب المسافات مرة أخرى كرجل “أخوت”.
نصل إلى السوق الرئيسي في مدينة ما، أجد نفسي غير قادر على استخدام لساني للحديث مع الناس داخل السوق، ولكن طفلتي تريد بعض البوظة. لا أعرف كيف أشرح لها أنني لم أعد قادراً على الكلام، أريدها هي أن تستكمل قيادة الجولة، أن تشتري كل ما نحتاجه من أغراض، أن تعود بنا في النهاية إلى البيت.
أي بيت؟
بيتها؟ بيتي؟ بيت أبيها؟
لماذا وضعت ألف ولام التعريف مع كلمة “بيت” رغم عدم وجود بيت محدد كما المدينة؟ هل البيت أفضل حالاً من كل المدينة؟
أم البيت هو المكان الذي أجلس فيه بجانب أبيها ندخن وأستمع إلى اسمي وهي تسألني مراراً بلا ملل، دون أثر للتعب من جولتنا “كيفك يا عمو عمر؟”