فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

“طاسة الرعبة” ذاكرة لا علاج

فاطمة حاج موسى

لم تعرف أم محمد طاسة الرعبة كانت تسمع عنها فقط، تقول “لم أشرب ابداً بطاسة الرعبة ولا أذكر أن والدتي تحدثت عنها أمامي” وتكمل ضاحكة “ربما لأنني لم أشرب من طاسة الرعبة أبقى دائماً مرتعبة من القصف وصوت الطائرة الحربية”.

على أحد رفوف محلَ “أبو راشد” لبيع التحف والقطع النحاسية و الأنتيكات، تتوزع أوعية معدنية صغيرة بأوزان وأحجام مختلفة تتراوح بين بعض الغرامات وصولاً إلى كيلو غرام واحد، معظمها مصنوعة من النحاس، نقش على حوافها الداخلية الدائرية آيات قرآنية، بعضها يحتوي على مفاتيح دقيقة من النحاس، يطلق عليها “طاسة الرعبة أو الروع” في سوريا، و “الخضة” في دول أخرى تستخدم في الطب العربي الشعبي للعلاج من “الخوف والهلع”، ولاستخدامها جذور تاريخية تعود للحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين، حيث كانوا يسمونها بـ “الطاس السحري“.

وينتشر استخدام طاسة الرعبة وطقوسها في سوريا وفلسطين بشكل أكبر من باقي الدول، وتدخل في موروث سكانها الشعبي والديني، خاصة مع اعتمادها حتى منتصف القرن الماضي كهدية يقدمها العائدون من الحج لزوارهم، كما كانت صناعتها واحدة من الصناعات الهامة في المنطقة، لها ورشها الخاصة وتتواجد في دكاكين الباعة وفق تصاميم وأشكال مختلفة.

طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية
طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية

طاسة الرعبة ذاكرة لا علاج

يحتفظ محمود العبسي (صاحب محل لبيع القطع النحاسية من مدينة معرة النعمان) بطاسة الرعبة كذكرى من والدته التي كانت تستخدمها منذ زمن، يقول إنها كانت تسقيه وإخوته منها عند تعرضهم للخوف أو سقوط أحدهم، ويذكر أنه كان يراها وطاسة الحمام في معظم بيوت المدينة، أما اليوم فلم تعد موجودة سوى في بيوت قليلة كذكرى أو زينة مرجعاً السبب للتطور العلمي للأجيال الجديدة، فاستخدامها السابق كان عن “صفاء نية وجهل السكان” تجاه معتقدات موروثة.

وكان لاستخدام طاسة الرعبة طقوساً خاصة يشرحها العبسي بـ “تعبئتها بالمياه قبل أن يوضع فيها من ثلاث إلى سبع حبات من التمر بعد نزع نواته، لتترك الطاسة في مكان مكشوف حتى ينزل الندى عليها بمرور ثلاث مواقيت للصلاة عليها (المغرب والعشاء والفجر)، وبعدها تقرأ النساء عليها آيات قرآنية وينفخ عليها قبل أن يشرب الخائف منها، ويدهن جسده بمائها على نية الشفاء”.

طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية والتي تحتوي على المفاتيح
طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية والتي تحتوي على المفاتيح

وترى أم علي وهي سيدة بعمر الثلاثين تعيش في مدينة أريحا أن الشرب من الطاسة لم يجد نفعاً معها خلال طفولتها، كانت تخاف من القطط وهو ما دفع والدتها لجلب طاسة الرعبة لها خلال زيارتها لبيت الله الحرام، تقول إن والدتها كانت على قناعة تامة بأنها ستشفى بمجرد شربها من الطاسة، إلا أن ذلك لم يحدث، تضحك وهي تتذكر كميات المياه التي شربتها خلال رحلة العلاج وتصف تلك المعتقدات “بالغريبة، لتستدرك أنها كانت أياماً جميلة.

لا تذكر ياسمين وجود طاسة الرعبة في منزل عائلتها، إلا أنها سمعت بها وشاهدتها من خلال المسلسلات الدمشقية القديمة، والتي لا يكاد يخلو مسلسل من ذكر لها واستخدامها في العلاج.

من جهته يؤمن “أبو حسين” الرجل السبعيني من مدينة أريحا بجدوى الشرب من طاسة الرعبة، يقول إن والدته كانت تسقيه منها في صغره ” كنت ابنها الوحيد تخاف علي وترتل آيات القرآن وتنفخ على طاسة الرعبة وتدهن جسدي بالماء، أشعر بالرعشة والبرد ثم تغطي جسدي المرتجف وتقرأ القرآن حتى أنام، وبعد أن أصحو أكون قد عوفيت وزال الألم عن جسدي”.

صناعة غائبة

لم تعد هذه الصناعة رائجة، إذ تخلو إدلب اليوم من ورشات تصنيعها، ويقتصر بيعها على تداول بعض المحلات للطاسات وشرائها من الأهالي وبيعها لمن يرغب، خاصة مع تحولها إلى قطعة أثرية للزينة بعد أن فقدت دورها “العلاجي” في مفهوم السكان وحياتهم.

طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية والتي تحتوي على المفاتيح
طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية والتي تحتوي على المفاتيح

ولطاسة الرعبة أنواع عديدة منها ما يسمى “المفاتيح” وتحتوي داخلها على مجموعة سلاسل تشبه المفاتيح وينقش على حوافها آيات قرآنية وهي أقل الأنواع الموجودة، وهناك الطاسة التي لا تحتوي على المفاتيح بل فقط النقوش القرآنية آو الزخارف، والنوع الثالث يكون دون مفاتيح أو آيات أو زخارف يستخدمها بعض السكان الذين اعتادوا شرب الماء بأواني نحاسية “لأنه صحي أكثر من باقي المعادن”.

طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية
طاسة الرعبة المزخرفة بالآيات القرآنية

أما “أبو راشد” صاحب محل أنتيكا في إدلب فيقول إن “كل آنية نحاسية مكتوب داخلها آيات قرآنية تسمى طاسة الرعبة، لكن الأصلية منها تلك التي يوجد داخلها مفاتيح، وتستخدم غالباً لمن يصيبه مس أو سحر”، ويشير أبو راشد إلى وجود بعض الناس، حتى الآن، يطلبون طاسة الرعبة، رغم ندرة وجودها، فأعمار الطاسات في محله يزيد عن ستين سنة.

“استخدام طاسة الرعبة يرجع إلى نية الإنسان، ولا يوجد أي مشغل لصناعة مثل هذه الأواني المرتبطة بالتراث والعادات والتقاليد” يقول أبو راشد ويكمل مبتسماً “بقيت حتى صرت شاباً عندما أمرض والدتي تشربني من طاسة الرعبة”.

ويتفاوت سعر الطاسات بحسب نوع النقش (يدوي أم آلي)، وإن كانت منقوشة أم لا، وبحسب وزنها، ويتراوح سعرها بين ألف إلى عشرة آلاف ليرة يحدده التاجر بعد معاينتها وفحصها بشكل دقيق لمعرفة وزنها وتاريخ صناعتها وطريقة الحفر عليها.

طاسة الرعبة غير المزخرفة
طاسة الرعبة غير المزخرفة

رقية أم دجل

يرى بعض من تحدثنا معهم أن الأمر مباح، فهي لا تتعدى وجود آيات قرآنية وبضع حبات من التمر وهي غير مضرة ولا تخالف الدين في شيء، إلا أن مخالفي هذا الرأي يرون في بعض الطقوس المحددة التي ترافقها “سحر وشعوذة”، من خلال كتابة بعض الطلاسم والكلمات غير المفهومة عليها، وحرمها بعض علماء الدين خوفاً من الاعتقاد بقدرتها على الشفاء من غير الله.

وورد في “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” أن وضع الماء في إناء نقشت عليه آيات قرآنية للاستشفاء غير مشروع، لأن الكتابة المنقوشة لا تمتزج بالماء كما هو الحال عند كتابتها بالزعفران ونحوه، وتأثير الرقية يكون بالنفث مع القراءة أو بالكتابة بمادة تتحلل بالماء وهذا غير متحقق بالطاسة.

وبحسب الشيخ عبد الرحمن البراك أن طاسة الرعبة لا أثر لها وهي من بدع العلاج بالقرآن. أما الشيخ ابن عثيمين فيرى أن كتاب الله أعز وأجل من أن يمتهن إلى هذا الحد بكتابة آياته على أواني الطعام والشراب بغرض، فكيف للمؤمن أن يجعل آيات كتاب الله تمتهن وترمى بالبيت ويلعب بها الصبيان، لذلك يجب طمس الآيات من على الأواني أو يحفر لها بمكان طاهر وتدفن.

لم تعرف أم محمد طاسة الرعبة كانت تسمع عنها فقط، تقول “لم أشرب ابداً بطاسة الرعبة ولا أذكر أن والدتي تحدثت عنها أمامي” وتكمل ضاحكة “ربما لأنني لم أشرب من طاسة الرعبة أبقى دائماً مرتعبة من القصف وصوت الطائرة الحربية”.