تتراءى إطلالة جبل الأربعين من بعيد رمادية باهتة بعد سنوات القصف التي مرّت عليه، الدمار يطال أي حجر يبنى فوق حجر وكأن الطائرات تسكنه، ليس ببعيد عنه تمرّ بالحارة القديمة من مدينة أريحا، قناطر عالية مسقوفة، شوارع مرصوفة بالحجارة، جدران ما زالت قائمة برغم ما يحدث، تلك المشهدية كانت قبل أيام، إلّا أن غارتي يوم الخميس الماضي حوّلت كل ما يمكن مشاهدته إلى ركام، الثالثة استهدفت حياً سكنياً على طريق السوق وسط المدينة خلفت عشرات الضحايا بعضها وجد نفسه معلقاً في الهواء، أما الآخرين فقُطعت أنفاسهم تحت الركام.
لا يمكن استيعاب ما يحدث، يقول بعضهم إن تلك الليلة حملت معها كوابيس مرعبة، أحاول مراراً تدريب نفسي على الربط بين لون الدم والغبار والبارود وصعوبة التمييز بين قطع الأثاث والأشلاء المتناثرة بعيداً عن رؤوس أصحابها وكلمة كابوس. أخسر دوماً في المقارنة وأشعر أن التخفيف من قسوة الكلمات لن يجدي نفعاً، هي مجزرة، وما كان “جريمة”، أو على الأقل هو موت، موت هائل في قاموس مفرداتنا جميعاً.
ولادة جديدة في كل يوم
نخرج إلى رحم الحياة مجدداً بعد كل غارة، نعيش خلالها تقلصات المخاض ونحاول إطلاق صراخنا مع الشهيق الأول، بأيدينا الطويلة وغير الناعمة كتلك التي ملكناها يوم ولدنا للمرة الأولى نتلمس أجسادنا، نحاول الاطمئنان على مكان كل عضو في جسمنا المنهك، نخاف من القابلة في ولادتنا المتعسرة أن تكون قد أسقطت كتفاً أو يداً من أيدينا، أو مزقت بأصابعها الغليظة واحدة من أعيننا أو طمست معالم وجوهنا، نلتفت حولنا لا لنتعرف على العالم الجديد، بل للاطمئنان على ولادة أهلنا وأصدقائنا وجيراننا حيث الأذان جماعياً هذه المرة.
رجال بخوذ بيضاء أكثر ما تشاهده في المكان، يحاولون رفع أنقاض الجدران التي كانت تحمي ساكنيها وأجبرت على السقوط عليهم، يبحثون عن ناجين وسط حمّى الموت تلك، أو تحت أمتار من أسياخ الحديد والباطون والحجارة.
بكاء الأطفال وصراخهم في أحضان أمهاتهم يضفي على المشهد موسيقاه الحزينة، الأمهات مذهولات وعيونهن معلقة بالسماء، يتمتمن بالأدعية وتتساقط دموعهن بغزارة الدماء التي تملأ الشوارع، الأنين المتقطع البعيد يوحي بوجود بعض حياة في المكان، ويعطي إشارة لبدء الحفر، سيارات الإسعاف “مبحوحة الصوت” تشارك هي الأخرى في خلق الموسيقى الجنائزية.
آلام المخاض مرة أخرى هو ما خطر في بالي حين ولدت من جديد، بعضنا نجا منها وتعلق بسلالم الصعود بروحه إلى السماء تاركاً جسده للغبار، مرتبكة سألت نفسي عن شعورهم وهم يشاهدون أشلاءهم يجمعها المسعفون والباكون في أكياس سوداء، ضغطت على صدري لأستطيع التنفس وأنا أرى الجرحى على باب الإسعاف في المشفى، في الممرات، على الأسرّة، أصوات سيارات الإسعاف، سيارات خاصة، بقايا أشخاص على دراجات نارية، الجميع يحاول إيقاف نزيف الدم وإغلاق الجرح، دون جدوى.
اعتياد الموت الذي رافقنا لسنوات لم يفلح في تمرين مشاعرنا على عدم الاكتراث، قلت وأنا أراقب شبه الحياة الساكنة على وجوه الجميع في هذا الجحيم، فهربت بنظري إلى جبل الأربعين المطل على المدينة، كان يبتلع صواريخ الطائرات، كل ما يظهر منه كان غباراً ودخاناً أبيض اللون.
التفت لأسأل عن مكان الغارات قالوا إن روضة أطفال الحارة القديمة بالقرب من حمام السوق الأثري (الذي فتح أبوابه مؤخراً بعد أربعين عاماً من الإغلاق) كانت هدف الغارة الثانية، لا أعرف لماذا ألحّ علي سؤال فيما إن كانت حجارة الحمام قد بقيت في مكانها، لعلّ الأجدى كان أن أسأل عن روضة الأطفال إلّا أن خوفي منعني من البحث عن إجابة قد تقتل ما بقي من أعصاب لدي.
خلال الولادة
صوت الطائرة المنقضة القريب أجبر “محمد” وأصدقاءه على الالتجاء في ديوان بالقرب من مكان وقوفهم على مدخل سوق المدينة، يقول إن صوت الانفجار كان قريباً جداً، الشظايا وقطع البلور المتطايرة ملأت المكان، والغبار حجب الرؤية، “بدأنا نصرخ بأسماء بعضنا البعض، لنطمئن إن كنا على قيد الحياة، دقائق مرة ونحن متسمرون في أمكنتنا قبل أن نستطيع رؤية طريقنا من جديد”.
مررنا على أيدٍ وأرجل مقطوعة، بقايا أشلاء هنا وهناك يروي محمد إن المشهد يشبه “مسلخاً للأعضاء البشرية”، قريباً منه كان شاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال إنه فارق الحياة قبيل الوصول إلى المشفى فيما كان بعض اللصوص يسرقون المحلّات التي تناثرت بضائعها وفتحت أبوابها بفعل القصف.
صمت مخيف عمّ المكان بعد ما يقارب الساعة، المارة يسرعون بخطوات مرتجفة ونظرات حائرة، المحال التجارية تفتح أبوابها للريح دون أبواب، بسطات الخضار والفاكهة فارغة، والشوارع التي كانت قبل ساعة مزدحمة باتت ممراً لا يدخله إلّا المجبرون على الوصول إلى الضفة الأخرى من منازلهم، يقول محمد وحده “صوت زمور الخطر” من أعاد للمشهد البطيء سرعته، “طيران جديد يدخل المدينة” والقلة المتواجدون في الشوارع ارتطموا ببعضهم خلال الهرب للبحث عن بقايا دكان أو مدخل بناء يحتمون فيه علّهم يولدون من جديد.
قبل الولادة
تقلّب أم محمد بواسطة القبضة اللاسلكية أخبار المراصد لتتبع حركة الطيران في دكانها، لا يمرّ زبون دون أن تروي له كيف فقدت ابنها العشريني في غارة جوية على سوق الخضار قبل سنوات، تحكي معاناته من إصابة مرفقه الأيمن قبل موته، لتنتقل إلى الشظية التي شقّت بطن طفلها الصغير بالقرب من منزلها لتشاهد موته بين يديها “لا أدري حينها كيف جمعت قواي وأنا أغرق بدمي بعد إصابتي بكتفي الأيسر لأجمع أمعاء طفلي التي خرجت من بطنه وأعيدها بقوة، كان ما يزال على قيد الحياة يصارع ليعيش قبل أن يلفظ أنفاسه” تقول وهي تمسح دمعها بعد كل غارة جوية تعيد لها صورة ابنيها من جديد.
صفير صوت الإنذار والمراصد ومواقع التواصل التي تتبع دوران الطيران بات كل ما يتعلق به المارة خلال خروجهم لشراء حاجياتهم، وعند استشعار الخطر تراهم يتكورون على أنفسهم كالأجنة في زوايا الأمكنة، يرفعون سباباتهم وينطقون الشهادة في انتظار الموت أو الولادة.
لم يكن الخوف يسكنني سابقاً، إلّا أني شعرت بتقلصات وتشنجات في كل جسدي حين سمعت صوت الطائرة، صرخت “يا رب”، أم محمد صاحبة الدكان حاولت تهدئتي وربتت على كتفي، مرّ شريط حياتي كاملاً أمامي في جزء من الثانية، تذكرت ذنوبي وعيوبي وخوفي وعائلتي والأشياء التي أحبها، طلبت من الله أن لا أموت تحت الأنقاض، ورجوته أن يسمح لي بالحياة. مرت دقيقة قبل أن تنبهني نوبة سعال طالتني وأم محمد أننا ما زلنا على قيد الحياة، لم أشاهد وجهها في الغبار الكثيف، إلّا أني بحثت عنها أتلمس الطريق كأعمى بيدي دون جدوى.
خارج المحل كان شبان يدورون حول أنفسهم وفي جميع الاتجاهات، تائهون يبحثون عن ناجين، وقبل أن تنقشع الغمامة التي خلفتها الضربة الأولى انطلق “صوت تحذير آخر من صفارة الإنذار”، وعلت أصوات القبضات تطالب الجميع بمغادرة المكان والاحتماء، توقفت الحركة في لحظة وكانت المفاضلة بين اللجوء إلى مكان آمن والاستجابة لصرخات العالقين والجرحى، لحظات من التردد والصراخ الداخلي بين الحفاظ على الحياة وإنقاذ حياة أخرى تمد يدها لك على بعد سنتيمترات قليلة. جلست في مكاني صامتة، لم يعد لدي رغبة بالنهوض أو الكلام، شعرت أن موتاً داخلياً علق في حنجرتي وزالت مظاهر الخوف التي اعترتني قبل دقائق.
بالقرب مني كانت أم محمد تجادل أبناءها وتطلب منهم خلو الأجواء من الطائرات قبل مغادرة المكان، فيما كانوا يطلبون إليها الخروج من تلك النقطة المستهدفة، آخرون كانوا يناقشون الرحيل عن المدينة بكاملها للبحث عن حياة جديدة، كل ذلك وما تزال الطائرات تحلق فوقنا.
حين هممت بالخروج قهرني تجمع الجدران فوق أجساد أصحابها، أتعبني سماع أنين العالقين تحت الأنقاض، تحسست كاميرتي التي رافقتني طوال السنوات التالية، رغبت بتوثيق كل ما حدث، تذكرت تلك الصورة عن الفتاة الفيتنامية المشتعلة بنار قنابل النابالم وهي تصرخ وتبكي والتي أوقفت حرباً دامية، نفضت الغبار عن العدسة إلّا أن يدي قاومتا رغبتي بالتصوير، هذا العالم الأصم لن يوقف حربنا، آلاف الصور ومقاطع الفيديو لم تهز إنسانيته فما الجدوى من صورة جديدة، نقلت قدمي بصعوبة لأخرج من المكان، هذه المرة كانت الولادة متعسرة والطفل ولد ميتاً.