فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

لسنا نادمين

مصطفى أبو شمس

قال لي صديقي الذي حاولت سماع صوته ليذكرني بأنه ما يزال على قيد الحياة، “نجوت قبل دقائق”، وأمام صمتي الطويل عن الرد أكمل “نعيش عمراً زائداً منذ سنوات، لا تهتم”.
أختي التي نزحت من معرة النعمان إلى هناك أيضاً، فراراً من موت إلى موت، أخبرتني أنها “تشاهدت وفقط”، لم تعد الشهادة مقتصرة على سماع الأذان، في كل دقيقة تكبيرات تستدعي “الشهادة”، وأمهات ترفعن سبابتهن في وجه الطائرات، بينما يحتضن باليد اليسرى خوف أطفالهن.
قبل يوم واحد هنا في المنفى، كان الفرنسيون يحتفلون بعيد الاستقلال، صوت المفرقعات النارية أجبر صديقي الملتصق بي في الطريق على الخروج من صمته، “تشبه قذائف المدفع 57″، التفت إلى السماء ليكمل “اضواؤها كالقنابل العنقودية”، وحين أصبح الصوت قريباً جداً، شعرنا برغبة في الاستلقاء على الأرض ووضع يدينا على آذاننا، لا أعرف لماذا لم نطلق “الشهادة” أم أنها حظ ما تبقى من أهلنا هناك.

 

وقْع المشاهد المصورة التي نقلها ناشطون صباح اليوم عن مجزرة جديدة في معرشورين بريف إدلب كانت عصية عن التجاهل الذي بتنا نمارسه بعد اعتيادنا على الموت. الصور المخبأة بأوامر الفيس بوك لإخلالها بالشرط الإنساني نتداولها كصور الأطعمة ومراجيح الأطفال. نحدّق في الصورة وكأننا نبحث عن قطعة لحم آدمية تُركت هنا أو هناك. نمدّ أيدينا لمعاينتها.. نربت عليها بلطف من لا يريد ترك أجزائها في العراء.. ندفنها كاملة في الذاكرة ونستعيدها مع كل خوف أو تردد أو نسيان.

في الفيديو المتداول عن المجزرة الصباحية كان الصوت أقرب من الصورة، حامل الكاميرا كان يصرخ “لك شيلوه”، هو مثلنا يراقب من بعيد، لا أعرف حقيقة إن مدّ يديه مثلي محاولاً انتشال الرجل من ساحة المحرقة فاصطدم بزجاج العدسة، وجازماً لم ألق باللوم عليه وأسأله “لماذا لا تحمله أنت.. دع الكاميرا جانباً”، كل ما خطر في بالي لو قدر لي سؤاله عن رائحة المكان، وكيف يمكن لفعل الحياة أن يستمر مع العجز.

قال لي صديقي الذي حاولت سماع صوته ليذكرني بأنه ما يزال على قيد الحياة، “نجوت قبل دقائق”، وأمام صمتي الطويل عن الرد أكمل “نعيش عمراً زائداً منذ سنوات، لا تهتم”.

أختي التي نزحت من معرة النعمان إلى هناك أيضاً، فراراً من موت إلى موت، أخبرتني أنها “تشاهدت وفقط”، لم تعد الشهادة مقتصرة على سماع الأذان، في كل دقيقة تكبيرات تستدعي “الشهادة”، وأمهات ترفعن سبابتهن في وجه الطائرات، بينما يحتضن باليد اليسرى خوف أطفالهن.

قبل يوم واحد هنا في المنفى، كان الفرنسيون يحتفلون بعيد الاستقلال، صوت المفرقعات النارية أجبر صديقي الملتصق بي في الطريق على الخروج من صمته، “تشبه قذائف المدفع 57″، التفت إلى السماء ليكمل “اضواؤها كالقنابل العنقودية”، وحين أصبح الصوت قريباً جداً، شعرنا برغبة في الاستلقاء على الأرض ووضع يدينا على آذاننا، لا أعرف لماذا لم نطلق “الشهادة” أم أنها حظ ما تبقى من أهلنا هناك.

كمية القهر والحزن والمصائب التي لاحقتنا خلال السنوات السابقة لم تترك لنا وقتاً للتفكير في ماهية الحياة التي نعيشها، خاصة مع تلك الخيبات التي رافقتنا، الساسة نادمون على ما ضاع من تسويات وما سوقوه لها من صور في كل مناسبة، القادة أيضاً نادمون على حربهم ربّما وعلى ما خسروه من امتيازات ومناطق كانت تحت سيطرتهم، أما نحن فلم نعد نلتفت للوراء فقد فاقت خسائرنا ما يمكن أن نندم من أجله.

لم يعد أمامنا سوى الدهشة، الدهشة من عدم فهم ما يحدث، كذلك من الفهم، الدهشة من تصديق الصورة النمطية التي يُراد لنا تصديقها عن ثورتنا نحن دون أن يكون لنا أي دور في صناعتها، كذلك الدهشة من ركوننا إلى حالة الغياب التي نعيشها. الدهشة من تسويق الأسد وقواته كمنتصرين مع كل هذا القتل والإجرام الذي ازداد بعد الإعلان عن نجاحهم في حربهم علينا، وهو ما يخالف السلوك الطبيعي، كذلك الدهشة من هشاشتهم أيضاً، وقدرتنا على قلب الطاولة عند كل استحقاق أو معركة، والأهم من ذلك الدهشة من قدرتنا على الدهشة بحد ذاتها بعد كل تلك التجارب واليأس وجمهوريات الخوف الكثيرة التي مررنا بها.

لسنا نادمين وما زلنا منذ بداية الثورة السورية مهجوسين بها، حتى وإن علق بين تلك الهواجس مفهوم البقاء على قيد الحياة في ظل القمع الدموي، نمدّ أيدينا إلى “ضحايانا” ونحييهم كأصدقاء في الذاكرة يفرضون علينا تذكر ساحة الجريمة وتوثيقها، قبل أن نتحول إلى عجائز ينتظرون انتهاء الحرب كيفما اتفق وبالطريقة التي لا تعنينا.