فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

الولادة في العراء.. حين تصبح شجرة الزيتون مسقطاً للرأس

دقائق ثقيلة مرّت كـ “زمن” على الرجل المثقل بـ “العجز”، حتى سمع صراخ وليده باكياً، “كل الأطفال تبكي حضورها إلى الحياة، طفلي كان يبكي أكثر من الأطفال، حين اغترب عن والدته وبيته، ليشاركنا ما لا نقوى نحن على تحمله”، قال وهو يجثو ساجداً، يحمد الله.

حين اقتربت الجدّة بحفيدها إلى حضن والده، ليراه ويسميه، كانت قد خلقت على عجل من بقايا ثيابها ما يشبه “الديارة”، صنعت له مهداً، ولفته بمئزر كان سابقاً “وشاحاً لها”، “الأمهات باذخات في العطاء حين يقطعن ثيابهن لترقيع عجزنا”، قال وهو يحمل طفله ليؤذن في أذنه، التفت ليجد جميع من حوله يطلقون التكبيرات، كان أذاناً جماعياً لنصر، الاسم الذي أطلقه الرجل على طفله.

لا تتساقط من الزيتون “رطباً” تخفف عن ربا ألم ولادتها الأولى التي حلمت بها منذ علمت بحملها قبل ثمانية أشهر. بعناية كانت تشتري قطع (الديارة =لباس الوليد الجديد) وترتبها في خزانة أفرغتها من حمولتها استعداداً لاستقبال وليدها. تحتال على غلاء الأسعار وسوء الأحوال بالتطريز حيناً، والبحث عن المناسب بأسعار متهاودة، يرافقها فرحة تتبادلها مع زوجها وصديقاتها، قبل أن يجبرها استهداف قريتها (الشيخ مصطفى بريف إدلب) من قبل الطائرات على النزوح، هاربة بحملها للنجاة به وخوفاً من مضاعفات لا تحمد عقباها.

لم يعد بالإمكان البقاء، الخروج دون ترتيبات مسبقة جعلها تترك كل ما خططت له في الأشهر السابقة لولادتها، لتخرج برفقة عائلتها وزوجها إلى الشمال، أقلتهم سيارة نالت حظها من الشظايا، فبل دقائق، يملكها واحد من أبناء القرية، إلّا أنها ما زالت طوق نجاة تعلقت به العائلة لتجد نفسها على أطراف مدينة سلقين (بريف إدلب الغربي)، وبالقرب من مخيم عين البكارة تحت أشجار الزيتون أراحت السيدة جسدها مستندة إلى واحدة من الأشجار، بينما اتكأ زوجها على شجرة أخرى علّه يستطيع النوم.

لم تكن تتوقع أن يفاجئها المخاض في تلك الليلة التي وصفتها بـ “المنكوبة”، بدأ الألم يشتد فيما يشبه “الطلق”، بطنها تكاد تنفجر، والوجع في أسفل الظهر أقعدها عن الحركة، والعراء منعها من “الصراخ”، حين قطعت الأمتار القليلة التي تفصلها عن زوجها لإيقاظه كان “عمراً من الذكريات يمر أمامها، وسؤال واحد يرافقها، كيف سألد هنا؟”

الخوف والرحلة الشاقة سرّعا عملية الولادة، يقول زوج ربا الذي وصف المشهد بـ “أصعب من وقع الصواريخ على مسمعه، الآن ..وهنا؟”، ليعمد إلى “شادر” من النايلون يبنيه كيفما اتفق، ويفرش فوق تراب النزوح بقايا اسفنجة كان قد حملها معه، ليحمي زوجته من الولادة في العراء، ويريح جسدها من آلام الولادة.

بين العائلات التي تزيد عن الستين، والتي شاركته مصير النزوح، راح يبحث عن أي مساعدة طبية، لا أبواب هناك يطرقها، اكتفى بـ “النحنحة والسعال” أحياناً لإيقاظ النائمين، أو الصراخ، معظم العائلات استيقظت على صوته ولهفته، الرجال اكتفوا بالحوقلة والدعاء، أما النساء فتوجهن إلى المكان علّهم يستطيعون المساعدة، الأطفال لا يدركون ما الذي يحدث، فضولهم حملهم إلى مكان الخيمة/ الشادر واللعب والترقب هناك.

العثور على قابلة أو طبيبة كان شبه مستحيل في المكان، ساعة مرّت وصراخ ربا يطرق مسامع زوجها كيفما اتجه، إلى أن عثر على أم مصطفى “الداية” التي رافقته بأعصاب باردة، بينما كان يسبقها بخطوات متسارعة.

صوت الداية كان يصل إلى مسامع الحاضرين حول الخيمة، وهي تشجع ربا على الولادة وتخفف من خوفها، “نحنا معامل الأبطال، يالله شدي حيلك واستعيني بالله”، الجملة التي سمّرت الرجل المترقب بخوف، لا يعرف كيف سرت القشعريرة في جسده، كل ما كان يرجوه قبل دقائق أن تلد زوجته بسلام، أن يطمئن عليها وهو يستر شقوق الشادر ببقايا “خرق بالية”، جملة الداية جعلته ينتفض، رفع رأسه إلى السماء، دعا كما لم يدعو من قبل، وبكى كما تبكي الرجال.

دقائق ثقيلة مرّت كـ “زمن” على الرجل المثقل بـ “العجز”، حتى سمع صراخ وليده باكياً، “كل الأطفال تبكي حضورها إلى الحياة، طفلي كان يبكي أكثر من الأطفال، حين اغترب عن والدته وبيته، ليشاركنا ما لا نقوى نحن على تحمله”، قال وهو يجثو ساجداً، يحمد الله.

حين اقتربت الجدّة بحفيدها إلى حضن والده، ليراه ويسميه، كانت قد خلقت على عجل من بقايا ثيابها ما يشبه “الديارة”، صنعت له مهداً، ولفته بمئزر كان سابقاً “وشاحاً لها”، “الأمهات باذخات في العطاء حين يقطعن ثيابهن لترقيع عجزنا”، قال وهو يحمل طفله ليؤذن في أذنه، التفت ليجد جميع من حوله يطلقون التكبيرات، كان أذاناً جماعياً لنصر، الاسم الذي أطلقه الرجل على طفله.

على الاسفنجة الرثة والوسادة المتعبة حملت ربا بجسدها الشاحب طفلها، غصّت وهي تتذكر ثيابه التي تركتها هناك، لامت نفسها على تركها، وحضنته بقوة من يريد إعادته إلى قلبها، نظرت إلى أبي نصر، ومسحت دموعها وابتسمت، تقول إنها أرادت التخفيف من وطأة الألم على روحه.

أمام شقوق الخيمة الباردة كان الهواء يعبث بالشادر ليزيد من وحشة المكان، بالقرب من السرير كان هناك صحن من الألمنيوم داخله بعض الماء والسكر ليسكت جوع نصر، فيما غرق والده بالإجابة عن سؤال علق في ذهنه عن مكان الولادة ومسقط الرأس.